صالح التركي.. عطاء بني التطوع واملسؤولية
.. أمـــا وقـــد جـلـسـت يــا «صــالــح» عـلـى كرسي «األمانة» في جدة، مسنودا بـ«الثقة امللكية» الغالية، فاعلم - أعانك الله - أن هذا الكرسي الذي سبقك إليه ثمانية أمناء سابقني، موطئ قلق، ومستقر ساخن، سيدور بك منذ اليوم األول على أزمات «العروس» الكثيرة.. ولم يعد في الصبر متسع ألهلها، وقد مألوا الفضاء بالشكوى، وزحموا األضابير باملطالبات ولم يحظوا إال بتصريحات ووعود.. لست غريبا على «العروس»، ولست بعيدا من أهلها، فصنيعك قبل التكليف باألمانة، سيبقى عالمة بــارزة، وبصمة مائزة تكشف وعيك الباصر، وروحك الوثابة لخدمة الوطن وأهله، فلن يطمس النسيان أياديك البيضاء في كل األعمال الخيرية الـتـي سبقت بـهـا، ســواء كــان ذلــك فـي جمعيات األيــتــام، وما ظللت توليه هذه الفئة من فائض عطفك وكريم إحسانك، وما قمت به في دور الحماية االجتماعية، وصنيعك في «تراحم» وقد تسنمت رئاسة اللجنة الوطنية لرعاية السجناء وأسرهم، وامــتــدت يــد الـخـيـر مـنـك لتطلق أســر بـعـضـهـم، نــــاذرا وقتك وجهدك لهذا الصنيع املبارك، وفي الخاطر أيضا جهودك في ذوي االحتياجات الخاصة من الصم والبكم، موفرا لهم املقر، ومساعدا إياهم في الزواج، ولن تنسى جدة ما وصلت إليها غرفتها التجارية من علو كعبها إبان رئاستك لها.. كل ذلك وغيره محفوظ في الــذاكــرة، ومحفوف بالتقدير واالحترام واإلعــجــاب، وال غــرو أن تنال الثقة امللكية بتسنم «األمانة» في جدة.. ورغــم كـل الــذي نعرفه عـنـك، ونتوقعه مـنـك، إال أنــه البــد من همسات مخلصة، دافعها املحبة الخالصة، وحاديها الثقة بإمكانياتك، ويخالطها خــوف وقلق يرافقنا دائـمـا حينما ننظر إلى «امللفات الساخنة» التي تنتظرك، فبعد حني وشيك، سيظل «الــعــروس» مـوسـم األمــطــار، وهـنـا املعضلة الكبرى، واملشكلة التي استعصت على الحل طوال السنوات السابقة.. فعلى الرغم من قلة األمطار التي تهطل على هذه املدينة، إال أن واحــدة منها كافية ألن تغمر األنـفـاق والــشــوارع، وتعطل حركة السير، وتجعل املدينة عائمة فـي بركة مـن مــاء آسن، واملحصلة من ذلك، جرف األسفلت، وزيادة الحفر في الطرق الرئيسية والفرعية، وتوالد البعوض والحشرات القارصة، مما يؤدي إلى تفشي األمراض املعدية والخطيرة.. هذا امللف الـسـاخـن سـيـكـون حــاضــرا عـلـى طـاولـتـك حــال جـلـوسـك على الـكـرسـي.. فـمـاذا أنــت فـاعـل، ومــاذا بيدك مـن حــل آنــي عاجل، وآخر استراتيجي على املدى البعيد يريحنا من هذا الصداع املزمن.. قــبــل الـــخـــريـــف، طــــف يـــا «صـــالـــح» عــلــى األحــــيــــاء، الجديدة منها والـقـديـمـة، ستقف على نقص واضــح وبــني فــي جملة مـن الـخـدمـات البلدية الـضـروريـة، بعضها بـال إنـــارة ليلية، وينقصها التخطيط السليم، وتسرح في ربوعها القوارض بأمان وتتخذ من الطرقات مسرحا للهوها «البريء»، نفايات مكدسة هنا وهناك، حاويات تعيش فيها القطط والفئران، مــشــاريــع مــتــأرجــحــة بــني الــبــدايــة ونــصــف الــطــريــق الــــذي لم يكتمل، حمى الضنك أنهكت البعض، والبعوض في توالد، حفريات فـي كـل شـــارع، تعقبها سفلتة تنخفض إلــى باطن األرض مـع أول ضغط عليها أو مطر يصيبها، واملحصلة حـوادث بالجملة، واختناقات مرورية، وإرهـاق للجيوب من شــركــات الـصـيـانـة. «بــزرومــيــا» شــجــرة مــســتــوردة مــن خارج الوطن، شوهت أرصفة املدينة وخلعت بالطها ودخلت إلى أفنية املــنــازل، تنشر املــرض وتنثر الـوسـخ وتضيق النفس وتثير الكآبة. عشوائيات خلف كـل حــي، غياب تــام لرؤساء األمــانــات الفرعية، ســيــارات األمــانــة تـجـوب األحــيــاء وعليها عمالة وافدة غير قابلة للتفاهم.. يمكنني أن أمضي معكم في هذا التوصيف «القاتم» لواقع الحال في جدة إلى أقصى االحتماالت، لكن ليس هذا املراد، فالغاية أن نلفت االنتباه ال أن نصدر العجز والشكاة، كلنا جزء من الحل، ولسنا ترسا في األزمة، نعلم جيدا ما تنطوي عليه نفسك مــن صـالـح الــعــزم، ومستنهض الـهـمـة، لـذلـك لن يسعنا إال الوقوف بجانبك، سندا وعونا متى ما أشرت، فهذه املدينة الباذخة تاريخا، واملتوثبة حاضرة، تنتظر من يعيد البهاء لها، إنها فـي مسيس الحاجة إلــى استكمال مشروع الصرف الصحي املتكامل، بما ينهي املظهر غير الحضاري لـ «وايتات» الشفط وهي تجوب في املدينة بما يعكر صفوها، ويزكم معاطسها.. إنها في أمس الحاجة إلى اكتمال مشروع تصريف مياه األمطار على النحو الذي ينهي هاجس «الغرق» الــســنــوي.. إنـهـا تتطلع إلــى حــدائــق عـامـة تتزين بها وتتيه فخرا بني مثيالتها من املـدن الساحلية.. جدة ليست شوارع رئيسية فقط تنمق وتزين وترصف وتزرع في العام الواحد عدة مرات، وإنما هناك أحياء تعيش الفقر والفوضى والحفر واملياه الطافحة. جدة كلها تنظر إلى «أمينها الجديد» بعني املترقب إلى ضبط مظهر العمالة السائبة الباحثة عن عمل فـي الطرقات وتحت األنـفـاق والـكـبـاري.. إنها تنتظر أبوابا مشرعة لشكاواها وتـجـاوبـا فـوريـا مـع تظلماتها، وتفاعال شخصيا مع مالحظاتها، بسعة صبر وأناة وتحمل.. اآلمال عريضة، والتوقعات عالية، والحلم واسع ال شك، وأنت األكثر وعــيــا بـهـا، واألعـــرف بما تحتاجه «الـــعـــروس».. فـأنـت منها ولها.. أرنا جهدك يا «صالح». فجدة أم الرخاء والشدة، عاشت الشدة وفي انتظار الرخاء.