Okaz

حج مقبول وسعي مشكور

-

الــشــريـ­ـعــة اإلســـامـ­ــيـــة اتــســمــ­ت بالشمول والـــعـــ­مـــوم والـــخـــ­لـــود، وال يــعــنــي ذلــــك أن الـشـريـعـ­ة نـصـت عـلـى كــل حـكـم وعــلــى كل واقعة وحدث بعينه، فهي جاء ت باملبادئ العامة والقواعد األساسية والخطوط العريضة، لتندرج تحتها كافة القضايا واملسائل التي تستجد لتغير األزمان والعادات واألعراف، وليس هناك من هو أحوج منا إلى األخــذ بهذه املـبـادئ وتطبيقها في وقتنا الحاضر، لذا كان االختاف في املسألة الواحدة رحمة وسعة ووضع مشقة عن الناس، يقول ابن تيمية (والنزاع في األحكام قد يكون رحمة). وصنف رجل كتابا سماه (االختاف) فقال له اإلمام أحمد: سمه كتاب (التيسير)، وقال الخليفة عمر بـن عبد الـعـزيـز: مـا سـرنـي أن أصـحـاب رســول الله لم يختلفوا ألنهم لو أجمعوا على قـول فخالفهم رجل كــان ضـــاال، وإذا اختلفوا فـأخـذ رجــل بـقـول هــذا ورجل بقول هـذا كـان في األمـر سعة. ويؤكد ابـن تيمية أنـه (ال ينبغي ملـن نشأ على مـذهـب معني أن يـلـزم اآلخــريــ­ن به وال يصح أن يقول يجب عليكم أن تفتوا بمذهبي وأن أي مـخـالـف ملـذهـبـي كــان بــاطــا)، وعـنـدمـا عــزم هارون الرشيد أن يحمل الناس على ما جـاء في (موطأ مالك) من األحكام، منعه مالك نفسه، وقال له إن أصحاب رسول الله تفرقوا في األمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم. فاختاف وصــول األحـاديـث ألهـل االجتهاد هو أحـد أبــواب االختاف الــذي سنه رســول الله ألمته حتى قيام الساعة، حتى بعد وصول الحديث إليهم فإنه قد ال يثبت لديهم على أصوله، ولو ثبت فقد ال يحتوي على وجه االستدالل، وإن احتواه فقد يكون معارضًا بمثله أو بما هو أقوى منه. فــالــخــ­اف بــني أهـــل الـعـلـم بــل بــني الـصـحـابـ­ة قــائــم منذ أيـــامـــ­هـــم، فــقــد دربـــهـــ­م (مــعــلــم اإلنــســا­نــيــة الــخــيــ­ر) على االجتهاد، فالفتوى في املسألة الـواحـدة إذا صــدرت من أحدهم فهي غير ملزمة وإنما يأخذ بها من شاء أو يأخذ بغيرها إن كان ذلك أسهل له، (فلو اختلف على العامي مجتهدان فأفتاه أحدهما بحكم واآلخر بحكم غيره خير في األخذ بأيهما شاء)، واعتاد اإلمام أحمد أن يفتي في املسألة ثم يدل السائل على من يفتيه بخافها ويجيز له األخذ بأيهما شاء. حتى أقــوال الصحابة إذا اختلفت لـم يكن قــول أحدهم حجة على اآلخر وال على غيره من الناس من بعده، فقد اختلفوا في جواز أكل املحرم من لحم صيد البر فحرمه عـلـي وابـــن عـمـر وابـــن عــبــاس وعــائــشـ­ـة، معتمدين على حـديـث رســول الـلـه «أنــه أهــدي إلـيـه حـمـار وحـشـي وهو بــاألبــو­اء فــرده وقــال إننا حــرم»، وحلله عثمان وطلحة وغيرهما، معتمدين على حديث رســول الله لرجل من بني غفار سأله الطعام فقال للقوم (كلوا) وهم محرمون، كـمـا اخـتـلـف الـصـحـابـ­ة فــي نـــزول املـحـصـب بـعـد النفرة مـن مـنـى، فـقـال البعض إنــه سنة مـن سنن الـحـج لنزول رســول الله وصاحبيه باألبطح، وقــال آخــرون إن نزوله كان على وجه االتفاق وليس بسنة، فقد روت عائشة أن نزول رسول الله عليه الصاة والسام باملحصب ليكون أسمح لخروجه وهو ليس بسنة، فمن شاء نزل ومن شاء لم ينزل. كما أن الرمل في الطواف اعتبره البعض سنة وقال آخرون إنه ليس بسنة النتهاء الرمل بذهاب سببه فقد فعله رسول الله حتى يثبت للمشركني أنهم أشداء لم ترهقهم حمى يثرب كما ادعـوا على املسلمني، حتى في حجة وداعه قال البعض إنه متمتع وبعضهم رجح أنه كـان قارنًا وآخــرون قالوا بــإفــراد­ه، فقد حصل في حجه عليه الصاة والسام أعمال كثيرة وقع االختاف فيها بسبب الـوهـم مـن بعض الصحابة، منها دخـولـه جوف الكعبة وصاته فيها ووقوفه عند امللتزم واإلســراع في وادي محسر وإفـاضـتـه كــل يــوم مــن أيــام منى إلــى مكة يطوف ويعود إلى منى، وأفعال أخر وقع االختاف فيها، فمتى وقع االختاف امتنع اإلنكار، حتى رمي الحجرات كـــان مـحـل اخــتــاف فـيـجـوز لـلـحـاج رمـيـهـا قـبـل الزوال وبـعـد الــــزوال، ويــقــول أحـمـد فــي روايـــة لــه يـجـوز الرمي يوم الثاني عشر قبل الزوال، وقد رجح بعض الصحابة الرمي بالليل دون عجز أو مرض رفقًا بأنفسهم ونسائهم وأطفالهم. كما أجاز أبو حنيفة الرمي يوم النفر من منى فـي الـصـبـاح وحـتـى الليل كما أجــاز الـرمـي قبل الزوال فـي األيــام كلها، وعلى مــدار الساعة، وكما ذهــب بعض الصحابة إلى جواز استدامة الطيب بعد اإلحـرام، تقول عائشة: كنت أطيب رســول الله بأطيب مـا يجد ثـم أرى ومـيـض الـدهـن فـي رأســه ولحيته، وذهــب ابــن عمر إلى تحريمه ومنعه اعتمادًا على نص بأن رجا محرما أتى رسول الله متضمخا بطيب فقال له الرسول أما الطيب الذي بك فاغسله 3 مرات. وقــد كــان الـنـاس فـي عهد الصحابة يـأخـذون ويتركون ما شـاءوا من فتاوى من غير نكير من باب اليسر ورفع الحرج ودفـع املشقة، وكانوا يعللون األحكام باملصالح ويفهمون معانيها ومراميها. فـاإلسـام لم يـدع املجال لصاحب هوى أو مبتدع أو جاهل يقول في الدين بغير علم أو يدخل فيه ما ليس منه، وقد عانينا كثيرًا في ما مضى من التشدد والــرأي الواحد وإلــزام الناس به دون دليل إال التحكم والـهـوى، فالحمد لله الـذي أعادنا إلى إسامنا املتسامح، وألجم كثيرا من األفــواه التي كانت تزعق برأيها وال تقبل بأي رأي آخر.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia