Okaz

صدام وأردوغان.. نهاية غرور !

- محمد الساعد * @massaaed m.assaaed@gmail.com * كاتب سعودي

عادة ما تبدأ الصراعات السياسية الكبرى بتصريحات وعنتريات وغرور ال مبرر لها، فقط إلرضاء الجماهير والهتيفة من طراز ما فعله بعض الحكام العرب طوال عقود، وهـو ما أعطى للدول الكبرى الذريعة «للبطش» االقتصادي وأحيانا العسكري. نتذكر هنا معمر القذافي ومحاوالته العبث بالنظام الدولي وإسقاطه لطائرات مدنية ودعم منظمات إرهابية ثم الصعود ملنصات «الكام» لفرد عضات صوتية لـم تغن عنه شيئا، فـا تحيات الجماهير وال حرارة أكفهم حمته وباده من مصير محتوم، ما قام به القذافي فعله من قبله صدام حسني وغيرهما الكثير. فــي الــعــام 1989 أي بــعــد عـــام تـقـريـبـا مــن انــتــهــ­اء الــحــرب العراقية اإليرانية، نشبت أزمة دبلوماسية حادة بني العراق وبريطانيا، نتيجة العتقال السلطات العراقية صحفيا بريطانيا اسمه «فرزاد بازوفت»، أتهم بالتجسس لصالح إسرائيل. بـدأت الحكاية بتوافد عـدد من الصحفيني الغربيني على العراق إثر انتهاء الحرب لتقديم تقارير وإجراء لقاءات من داخل العراق، صادف خال تواجد الصحفيني وقوع انفجار هائل في مصنع عسكري على أطراف بغداد اهتزت له املدينة بالكامل، حاولت السلطات إخفاء األمر إال أن الصحفيني الغربيني كانوا قد نزلوا للشارع بحثا عن معلومة، صادف أن الصحفي البريطاني يعرف ممرضة بريطانية تعمل ضمن فــرق اإلغــاثــ­ة الــتــي تـوجـهـت ملــوقــع املـصـنـع الـعـسـكـر­ي، وهــي بدورها أدخلته إلــى نطاق املصنع، استطاع بـازوفـت تصوير املـوقـع وإجراء لقاءات في محيطه، وما هي إال أيام حتى بدأ باالستعداد للسفر حني قـبـض عليه فــي املــطــار وهــو متجه إلــى لـنـدن لــيــودع الـسـجـن بتهمة التجسس وليعدم الحقا. أخذ املوضوع بعدًا آخر عندما التقطته الصحافة البريطانية شديدة التأثير فـي املـشـهـد، وتبنته رئيسة الــــوزرا­ء مـاغـريـت تاتشر مطالبة بإطاق سراحه. هنا «غابت الحكمة» واستبدلت بالعنتريات، فخرج صـدام مخاطبا الجماهير العراقية والعربية معلنا تحديه للطلب البريطاني ورافضا إطــاق ســراح الصحفي، لم يكتف بذلك بل قـال إن مصنع الصواريخ مــوقــع اإلنــفــج­ــار الـــذي زاره الـصـحـفـي وأخـــذ صـــورا لــه لــم يـكـن عما صحفيا بل عمل تجسسي لصالح تل أبيب، وأن الصحفي كان يبحث عــن جـهـاز توجيه الــصــوار­يــخ، قــام صـــدام بطريقة مسرحية بإخراج الـجـهـاز وقـــال: هــذا مــا يبحث عـنـه، ثــم أردف سـنـقـوم بــإحــراق نصف إسرائيل بالصواريخ الكيماوية املوجهة. كانت املـرة األولــى التي يعلن فيها العراق عن امتاكه أسلحة الدمار الشامل املحرمة دولـيـًا، ال، بـل وهــدد باستخدامها ضـد دولــة أخرى، كانت أصداء التهديد الذي قيل على هامش الخطاب أقوى من قضية «الـصـحـفـي» نفسها، لقد أعـطـى صــدام دون أن يعي الـذريـعـة للغرب بالتدخل في باده. أمــا إسـرائـيـل فقد حـشـدت الـغـرب ضـد صــدام مـهـددة باتخاذ مـا يلزم لحماية نفسها مــن تــكــرار مــذابــح الـهـلـوكـ­وسـت واســتــخـ­ـدام األسلحة الكيماوية. أحس صدام بأنه انزلق نحو خطأ فادح ولم يعد قـادرًا على التراجع العلني خاصة أن الصحافة العربية وإذاعــات «الصمود والتصدي» طارت بتصريحاته ونصبته الزعيم األوحد. كـان كمن رمـى نفسه في بحر من الـرمـال املتحركة ومـا عـاد يستطيع الــخــروج منها، بـل كلما حــاول الـحـركـة غــاص أكـثـر، قـادتـه سياساته املتهورة املتناقضة للتصعيد إعاميًا إلرضــاء الجماهير ومحاولة التهدئة تحت الطاولة للمحافظة على كرسيه. أرســـــل لــلــمــل­ــك فــهــد مــســتــن­ــجــدا يــطــلــب وســـاطـــ­تـــه لــــدى البريطانين­ي واألمــريـ­ـكــان، وكـانـت رسالته ال تـأخـذونـي على محمل الجد لقد كان األمـر مجرد خطبة حماسية أمـام الجماهيرال أكثر، بالطبع استسلم صــــدام ألصـــــوا­ت املـطـبـلـ­ني والــجــمـ­ـاهــيــر وواصـــــل مـحـاكـمـة الصحفي البريطاني حتى أعدمه. لقد فتح على نفسه نيرانا لم تنطفئ وهو ما شهده العراق من تدمير لبنيته العسكرية واالقتصادي­ة إثر ماحقات استمرت لعقد ونصف للكشف عن أسلحة الدمار الشامل انتهت أخيرا بإعدامه. مـا فعله صــدام يفعله أردوغــــا­ن الـيـوم الــذي رضــي أن يــزج بـه إخوان الــكــويـ­ـت وقــطــر ومــصــر فـــي مـصـيـر مــجــهــو­ل، مـسـتـجـيـ­بـا للشعبوية وأصوات الهتيفة، ولم يستوعب درس من سبقوه، فما تدخل الحركيون واإلخوان في قضية إال دمروها وما دفعوا بحاكم إال إلى الهاوية. وكــــأن األقـــــد­ار تــتــكــر­ر والــقــصـ­ـص تــتــطــا­بــق، فـــأردوغـ­ــان يـسـجـن القس األمريكي ويتهمه بالتجسس ويصعد ضد أمريكا ويحاول من تحت الطاولة أن يجد حا للخاف على شرط أن يظهر هو املنتصر إرضاء للجماهير والحمقى واملغفلني. في هذه املرة يقوم أردوغان بما يمكن تسميته بانتحار سياسي، كما وصفته صحيفة الغارديان البريطانية في تقرير نشر لها أمس األول، فـهـو زعـيـم مــغــرور اقــتــرض بـتـهـور حـتـى وصــل إلــى %50 مــن الناتج املحلي، إضافة لغرور سياسي في تعامله مع جيرانه وأوربا وأمريكا، وينحو للتحدي والتصعيد برفضه إطـاق سـراح «القس» األمريكي رغـــم املــطــال­ــبــات األمــريــ­كــيــة، ثــم يــهــدد الــغــرب بـالـتـحـا­لـف مــع الروس واإليــران­ــيــني ويـنـسـى أنــه عـضـو فــي حـلـف الـنـاتـو الـــذي أنـشـئ أساسا ملواجهة روسيا والوقوف إستراتيجيا أمامها، فهل سيقبل الحلف أن تبقى تركيا عضوا فيه وفي الوقت نفسه حليفا لعدوها اإلستراتيج­ي، وأخيرا هل سينجو وهل ستنجو تركيا من مصير محتوم ينتظر كل القادة املغرورين.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia