كسب ثقة املؤسس.. وأدار ميناء العقير
ووصــفــتــه عــاملــة اآلثــــار الـبـريـطـانـيـة «مـــس غــيــرتــرود بيل »Gertrude Bell التي عملت مستشارة للمندوب السامي البريطاني في العراق «بيرسي كوكس» في عشرينات القرن املـاضـي بالتاجر الكبير والشخصية األقــوى فـي البصرة بـعـد رحــيــل الـسـيـد طــالــب الـنـقـيـب والــشــخــص ذي املالمح الدقيقة البديعة من تلك التي يتسم بها عرب قلب الجزيرة العربية. وقـال عنه املــؤرخ محمد بن عبدالرزاق القشعمي فـي الصفحة الـــ321 مـن كتابه «معتمدو امللك عبدالعزيز ووكـــالؤه فـي الــخــارج» الــصــادر عــام 2015 إن «الـلـه ميزه بالحكمة والكياسة والفطنة مما أهله ألن يكون وسيطا في أكثر من مؤتمر، وألن يكون محاورا محنكا ومفاوضا أريبا ومستشارا أمينا». وخــصــه الــشــاعــر الــعــراقــي الـشـهـيـر «مـــعـــروف الرصافي» بقصيدة تطرق فيها إلى خصلتني من أهم خصاله، وهما الحكمة والصدق فأنشد: عــــــبــــــدالــــــلــــــطــــــيــــــف بـــــفـــــضـــــلـــــه جـــــــعـــــــل الــــــــــــــورى
أســـــــــــــــــــرى مــــــــــــكــــــــــــارم أســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرة الــــــضــــــمــــــيــــــر مـــــؤيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد بــــفــــطــــانــــة
يــــــــــرمــــــــــي بـــــــــــــــــــرأي فـــــــــــي األمـــــــــــــــــــــــور حـــــــقـــــــا قـــــــــالـــــــــه بــــصــــراحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة
لـــــــــــم يــــــــخــــــــش لـــــــومـــــــــــــــــــــــة الئـــــــــــــــم وعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذول كما وصفه الرصافي بقوله: «وجـه تنبعث منه الوجاهة، أسمر اللون، خفيف اللحية، صلت الجبني، يرسل إليك من عينيه نظرات تنبعث عن ذكاء متوقد، وفطنة المعة». أما الباحث الكويتي يعقوب يوسف اإلبراهيم فقد تحدث فــي مـقـال لــه بـجـريـدة الــشــرق األوســـط )2005/2/26( عن قصره الشهير املعروف ببيت الباشا على شط العرب والذي بناه في عـام 1925 وتوفي فيه، فقال ما مفاده إنـه تحفة معمارية نفيسة جسدت الطابع التراثي املعماري للبصرة وامتزجت فيها الفنون الهندية والفارسية والتركية من الخارج والفنون األوروبية من الداخل، وأن صاحبه زوده بأحواض االستحمام (البانيو) وثريات الكريستال وخزائن الكتب واملالبس من الخشب املحفور الفاخر، وبلط أرضياته بـاملـرمـر األبــيــض واألســــود ثــم فـرشـهـا بـالـسـجـاد العجمي الــفــاخــر. وقـريـبـا مــن هــذا كـتـب الـسـيـر «رونــالــد ستورس» Ronald Stor في الصفحة 281 من مذكراته التي صدرت عن املركز القومي للترجمة بمصر تحت عنوان: «توجهات بريطانية ــ شرقية» (تعريب رؤوف عباس) ما مفاده أنه أثناء زيارته للبصرة سنة 1917 زاره، فوجد «بيته أكبر وأحسن من بيت الشيخ اإلبـراهـيـم، وهـو أعلى بيت رأيته في تلك الناحية، ينتمي إلى الطراز العربي ألواخـر القرن التاسع عشر». ثم وصفه السير ستورس فقال: «هـو رجل طــويــل الــقــامــة، يـضـع الـكـوفـيـة والــعــقــال عـلـى رأســــه، شأنه -في ذلك- شأن الشيخ اإلبراهيم، ولكنه يرتدي قفطانا من حــــــــــر إن قـــــــــــــال املـــــــنـــــــديـــــــل أصـــــيـــــــــــــــــــــــل الحرير الفارسي، مطرزا، أبيض اللون، ويدخن النرجيلة، وقـــدم لـنـا قـهـوة جــيــدة، ويـــدرس ولـــده وبـعـض أقــاربــه في الـكـلـيـة األمــريــكــيــة بــبــيــروت، ولـــم يـسـمـع شـيـئـا عـنـهـم منذ بداية الحرب، فعرضت عليه أن أتولى االستعالم عنهم عن طريق القائم باألعمال األمريكي بالقاهرة (الوزير املفوض السويسري في نفس الوقت)». ذلكم هو عبداللطيف باشا املــنــديــل، الـشـخـصـيـة الــتــي تــجــد اســمــهــا حـــاضـــرة فـــي كل األدبـيـات التي كتبت عـن الحياة االجتماعية والسياسية في والية البصرة قبل قرن من الزمان، بل تجدها حاضرة أيضا في التاريخ الحديث للبالد املجاورة للبصرة بحكم تداخل األحداث وتشابك العالقات واملصالح.
من جالجل إلى الزبير
ولــد عبداللطيف بـن إبـراهـيـم بـن فـــوزان بـن منديل ألسرة نشأت في بلدة «جالجل» من سدير بشمال الرياض، طبقا لعالمة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر فـي كتابه «جمهرة األسر املتحضرة في نجد» (الطبعة األولى ــ الجزء الثاني ــ ،)874ص حينما قال: «آل منديل في جالجل، من الدواسر». وهــم أبـنـاء عمومة آلل الـسـديـري، ومنهم أحمد بـن محمد الـــســـديـــري جـــد املــلــك عــبــدالــعــزيــز ألمـــــه، لــــذا قــيــل إن امللك عبدالعزيز كان يناديه بـ «خالي». (القشعمي ــ مصدر سابق ــ 113ص .)116صو أمـــا تــاريــخ مــيــالده فـفـيـه عـــدة أقــــوال، لـكـن املــرجــح أنـــه من مواليد سنة 1875 اعتمادا على مـا هـو مـذكـور فـي جواز سفره الصادر في عـام .1930 وأمــا مكان ميالده فقد كان في الزبير بسبب نزوح والده إبراهيم املنديل إلى األخيرة من جالجل في عام 1837 وهو شاب يافع، وذلك رغبة منه في تحاشي الصراعات الدموية والقبلية التي كانت دائرة آنــذاك في نجد. وفـي الزبير، بـدأ إبراهيم املنديل ممارسة الــتــجــارة مــا بــني الـبـصـرة وبــغــداد وبــومــبــاي، متخصصا في تصدير الحبوب، فحقق نجاحا مشهودا والسيما أن عمله التجاري تزامن مع بدء الشركات التجارية واملالحية البريطانية باالهتمام بالبصرة واتخاذها مركزا تجاريا وطريقا قصيرا بـني أوروبـــا والـهـنـد، طبقا ملـا ذكــره عمار فاضل حمزة في موقع األسر البصرية اإللكتروني. وهـكـذا تحسنت أحــوالــه املــاديــة بـصـورة الفـتـة، فـصـار من ذوي املكانة االجتماعية واملالية املرموقة في جنوب العراق، خصوصا بعدما أنفق جزء ا من ثروته في بناء دار ضيافة للنازحني مــن عشيرته، واسـتـحـوذ بـالـشـراء على بساتني نخيل شاسعة املساحة في مناطق من والية البصرة. وحينما توفي إبراهيم املنديل في عام 1895 عن عمر ناهز الثمانني، ترك وراء ه ستة من األبناء الذكور هم: عبداملحسن، عبدالرزاق، يوسف، عبدالوهاب، عبداللطيف، خالد، علما بأن كال من يوسف وعبداللطيف فقط منحا لقب الباشوية من قبل العثمانيني الذين كانوا يحكمون جنوب العراق آنـــذاك. ومــن أســبــاب منح الـبـاشـويـة لعبداللطيف فــي عام 1914 دوره املهم في مؤتمر الصبيحة سالف الذكر والذي أثمر عن تحييد األتراك العثمانيني واعترافهم بسيادة ابن سعود على األحساء، وكذلك دعمه املالي للمشاريع الثقافية والخيرية في والية البصرة.
عالقة املنديل بآل سعود
قلنا إن عبداللطيف بـاشـا املـنـديـل ارتــبــط بعالقة خاصة مع امللك عبدالعزيز. وفـي هـذا السياق يخبرنا محمد بن عبدالرزاق القشعمي (مصدر سابق ــ 115ص وما بعدها) أن عالقة أسـرة املنديل بآل سعود قديمة وترجع إلى زمن ضم اإلمــام عبدالعزيز بن محمد بن سعود أمير الدرعية لبلدة جالجل سنة ،1764 للحكم السعودي. ثم يفيدنا أن اإلمام عبدالرحمن الفيصل آل سعود (والد امللك املؤسس) حينما غــادر مــع أســرتــه الــريــاض لـالسـتـقـرار فــي الكويت، زار الزبير سنة 1893 ملتابعة األمــور املالية، فحل ضيفا على إبراهيم املنديل. وبعد وفاة األخير تولى ابنه الرابع عبدالوهاب املنديل تلبية احتياجات اإلمــام عبدالرحمن ومراجعة شؤونه املالية. ويضيف أنـه بعد اسـتـرداد امللك عبدالعزيز مللك آبــائــه وأجــــداده تضاعفت مـسـؤولـيـات آل املنديل، وصارت مهمات عبدالوهاب املنديل تجاه آل سعود كبيرة فأشرك األخير معه أخاه عبداللطيف املنديل. وكان مما فعله األخوان املنديل آنذاك أن رتبا اجتماعا في الزبير بــني املــلــك عـبـدالـعـزيـز ووالــــي الـبـصـرة الـعـثـمـانـي مخلص بـاشـا، بعيد انتصار امللك عبدالعزيز على ابــن رشيد في معركة «الشنانة» عـام .1904 لكن زيــارة امللك عبدالعزيز تلك لم تكن الوحيدة لهم، فقد زارهم في أبريل 1911 ونزل في بيتهم، ثم زارهم مرة أخرى في نوفمبر .1916 وفي أعقاب وفاة عبدالوهاب املنديل صار أخوه عبداللطيف وكــيــال سياسيا وتــجــاريــا للملك عـبـدالـعـزيـز فــي البصرة وبغداد، يتولى من هناك تصريف الكثير من األمور الخاصة بـالـدولـة الـتـي كـانـت تتشكل آنـــذاك فــي الـجـزيـرة العربية، ويـــســـدي الــنــصــح واملــــشــــورة ملــؤســســهــا املــلــك عبدالعزيز، ويـــنـــافـــح عــنــهــا بــمــا أوتـــــي مـــن حــكــمــة وفــطــنــة مـــن خالل مناصبه الرسمية في العراق. ذلك أن عبداللطيف املنديل تقلد حقيبة التجارة في أول حكومة عراقية في عهد امللك فيصل األول سنة 1920 وكانت برئاسة السيد عبدالرحمن النقيب، ثـم تـولـى حقيبة األوقـــاف فـي الحكومة العراقية الثانية التي شكلها عبداملحسن السعدون سنة .1922 كما تم انتخابه لعضوية املجلس التأسيسي عن البصرة سنة ،1924 ثـم صــار عضوا فـي مجلس األعـيـان الـعـراقـي سنة 1929 قبل أن يستقيل في عام 1934 كي يتفرغ لشؤونه الخاصة. كمكافأة من امللك عبدالعزيز للمنديل عــلــى إخـــالصـــه وتــفــانــيــه فـــي خدمة وطــن آبـائـه وأجــــداده، فقد عهد إليه املــلــك، فــي بــدايــات تـأسـيـس مملكته، بإدارة ميناء العقير بعد أن تم إجالء الجيش العثماني واملوظفني األتراك عنه سنة .1913 فقام بعمل رائع لجهة إعـادة تنظيم امليناء وتحسني مــوارده، األمـر الذي تضاعفت معه األمـــوال املستحصلة من الجمارك بنحو 10 مــرات، طبقا ملـا ذكــره «نـجـدة فتحي صـفـوت» في مقال له في صحيفة الشرق األوسط .)1996/12/2( وهــــنــــاك رسائل تــــطــــرق إلـــيـــهـــا الــقــشــعــمــي (مصدر سابق ــ 121ص )122صو متبادلة بني املنديل وامللك عبدالعزيز، منها واحــــــدة مـــؤرخـــة فـــي 1/8/4331هـــــــــ )1916/6/3( ويــقــول فيها املنديل ما مفاده إنه وصل القطيف، وتوجه مــنــهــا إلــــــى الـــجـــبـــيـــل، حـــيـــث التقى بعبدالله (بن علي آل خاطر) وإخوانه وقــــام بـتـحـديـد األراضــــــي الصالحة للسكن، واملـخـازن والدكاكني ومناخ القوافل، ومقر اإلمارة، وأنه عاد بعد ذلك إلى القطيف للوقوف على سير العمل في إمارتها، وطلب من أميرها عـــبـــدالـــرحـــمـــن الـــســـويـــلـــم أن يطلعه على سـجـالت الــــواردات واملصاريف وبيانات النخيل والـعـقـار، واجتمع بـــــمـــــديـــــر جــــــمــــــرك الــــقــــطــــيــــف مكي (املقصود السيد مكي بـن علوي بن حــســني املــشــقــاب) ونــظــم لــه الجمرك مؤقتا ريثما يتم استقدام محاسبني مــؤهــلــني. أمـــا الــرســالــة الــثــانــيــة فقد كــتــبــهــا املــنــديــل لــلــمــلــك عبدالعزيز بتاريخ ـه1334/8/4 )1916/6/7( لـــيـــخـــبـــره بــــأنــــه قــــد عــــني أشخاصا للعمل في جمارك القطيف وسيهات وداريــــــــن وتــــــــاروت وصــــفــــوى، وقام أيـضـا بتكليف عـمـال إلصـــالح خان العقير. ومن البراهني اإلضافية على قوة عالقة املنديل بامللك عبدالعزيز وثقة األخير غير املحدودة به، وجود رســالــة مــؤرخــة فــي 03/1/0431هــــــــ )1923/9/12( مــــــن املـــــلـــــك إلــــى الـــنـــجـــديـــني املــقــيــمــني فــــي العراق يــدعــوهــم فــيــهــا إلــــى املساهمة بـــرأســـمـــال الــشــركــة الشرقية للتنقيب عن البترول التي كــانــت قــد مـنـحـت امتياز الــتــنــقــيــب عــــن املــــعــــادن الـغـازيـة (الــبــتــرول) في مـــنـــطـــقـــتـــي األحــــــســــــاء والـــقـــطـــيـــف، عـــلـــى أن يــكــون االكــتــتــاب لدى املنديل.