عن أحزاب السلطة في العالم العربي
في 19٥7 قررت القيادة املصرية برئاسة الراحل جـــمـــال عــبــدالــنــاصــر تــشــكــيــل تــنــظــيــم سياسي (االتــحــاد الـقـومـي) بـديـال عـن (هيئة التحرير)، وفـي العام 1962 تم اإلعــالن عن (امليثاق الوطني) وتأسيس (االتـحـاد االشـتـراكـي العربي) الــذي تحول إلـى حـزب «حاكم» ثم حزب «الحاكم» عندما كلف (املؤتمر الوطني لقوى الشعب العاملة) عبدالناصر باختيار لجنة تنفيذية عليا «مؤقتة»، ومن هنا بدأت مسيرة التحول إلى التنظيم الوحيد في مصر، وهي لم تكن الوحيدة، فقد كان حزب البعث بفرعيه السوري والعراقي قد انفردا بالحكم في دمشق مطلع الستينات. ال يغيب عــن أي مـتـابـع للمسيرة الـحـزبـيـة خــالل تـلـك الفترة في البلدان الثالثة أن السلطة لم تسمح بنمو طبيعي للحياة السياسية، بل إن أجهزتها األمنية قمعت بقسوة حد البشاعة كــل مــحــاولــة ســعــت إلــيــهــا مــجــمــوعــات حــزبــيــة أخــــرى للعمل الـسـلـمـي، وأودعــــت فــي الـسـجـون قــيــادات تـاريـخـيـة، وأعدمت أخــــرى، وأخــفــت الـكـثـيـر مــن املــعــارضــني فــي الــســجــون، وضاع أثــر الـعـديـد منهم، ثــم استنسخت تجربة التنظيم السياسي الوحيد في دول أخــرى اختار فيها الحاكم حشد الوجاهات االجتماعية ورجال األعمال والقيادات القبلية والعسكرية في إطار تنظيمي واحد يتم تحويله إلى مركز استقطاب لالقتراب من القمة والحصول على النفوذ والوظيفة العامة واالمتيازات املادية، ويكون الشرط األهـم لاللتحاق والبقاء: الـوالء املطلق والعمل بجد وعزيمة لتأمني النظام الذي يصبح في النهاية مجسدا في شخص الحاكم وحده. مـــا يــالحــظــه املــتــابــعــون ملـــســـار الــــحــــراك الــســيــاســي والحياة الحزبية في الدول التي يصبح الحاكم فيها هو محور الحياة ومــحــركــهــا، أن املـجـتـمـع يـتـقـبـل األمــــر مــضــطــرا بـسـبـب قسوة األنـظـمـة األمـنـيـة، أو مـخـتـارا لغياب بــدائــل صالحة وحاملة لهمومه وطموحاته، وإمــا مستسلما للواقع بسبب اإلحباط وغياب النموذج البديل، وتتمكن سلطة الحاكم في هذا املناخ من قمع أي محاوالت لظهور بدائل جديدة أو خيارات تمتلك طموحا وتـحـاول التفكير املستقل بعيدا عـن املساحات التي يمنحها لهم النظام. املـعـضـلـة الــتــي تـواجـهـهـا بـعـض األقــطــار فــي مـرحـلـة مــا بعد «الــزعــيــم الــخــالــد»، «الــقــائــد املــلــهــم»، «الــقــائــد الـــرمـــز»، «قلعة الصمود» الذي يستمر لفترة طويلة في الحكم صانعا - متعمدا - فراغا في قمة السلطة، هي أن من يخلفه عـادة ما يكون بال مهارات وال حذق سياسي وال قاعدة شعبية، فال يتمكن سريعا مــن التحكم فــي الــفــراغ فــي قمتها فـيـبـدأ مسيرته غـيـر واثق من حاشية سلفه، وغالبا ما يكون غير ملم بتفاصيل الحكم كاملة، وتستغرق عملية السيطرة فترة تعتمد في مدتها على حنكة الخلف واألدوات التي يختارها ملساعدته، وهنا أستذكر تجربة الراحل أنور السادات كمثال على األسلوب الذي تمكن فـيـه مــن تفتيت كـافـة عـنـاصـر شبكة الـحـكـم الـتـي كـانـت تدير مصر في مرحلة عبدالناصر، وهو لم يفعل ذلك إال بعد مضي مـا يـقـارب 8 أشهر مـن توليه الحكم عندما أعلن تصفية من أطلق عليهم اسم (مراكز القوى) في مايو ،1971 وجاء برجال جدد كان والء هم املطلق له أوال وأخيرا. إن األحــزاب الحاكمة التي تنشئها الدولة ويبقى على قمتها «الرئيس» مدى الحياة، تتعرض غالبا لعملية اهتزاز عنيفة عند غيابه، وعليها البحث عن قيادة جديدة مقبولة، وإدراك التحوالت التي حدثت بغياب زعيمها، والتعامل مع املوقف الجديد بعيدا عن ظالل املاضي، ومن واجبها االعتراف بقيادات مغايرة جـاذبـة وقـــادرة، ألنها إذا أصــرت على االسـتـمـرار في مواقعها ستكون محملة بمسؤولية أخطاء املاضي وخطاياه، كما أن من أهـم الخطوات التي عليها اتخاذها هي االقتناع أنها خرجت –ربما مؤقتا– من دائرة الحكم، وهذا قد يمنحها فـضـاء مــن حـريـة الـحـركـة واتــخــاذ املــواقــف الـتـي تقنع الناس أوال، أما إذا أصرت على البحث عن حاكم جديد تتفيأ بظالله وحـمـايـتـه فـإنـهـا سـتـمـر عـبـر نـفـس املـــســـارات الـسـابـقـة مكررة التجربة غير مستفيدة من األخطاء، وتصبح بهذا غير ساعية لخدمة الحزب بل باحثة عن دور شخصي لها ومستمرة في االبتعاد عن الهم الوطني.