Okaz

عودة للخرف

-

ثمة قضايا مجتمعية ال بد من معاودة طرقها للبحث عن مخرج، وفي زمن ثورة التواصل أحدثت موجة من االرتداد للداخل، الكل يبث والكل يستقبل، أصبح اإلنسان كفوهة بئر تستقبل مياه األوديــة مجتمعة، فتمتلئ حتى تفيض وليس هناك من يبرحها. غدا كل منا ال يستطيع أن يفكر خارج ما تجتاحه من رسائل وأخبار ومقاطع، فيقوم بدوره ببث ما يصله من غث وسمني، وفي هذا اإلغراق ال تحدث عملية الشهيق والزفير، الكل غـارق ويبحث له عن مخرج، وقد كتبت عن هذا اإلغراق قائا إنه لم تعد هناك من وسيلة للهرب من طوفان األخبار والتعليقات واملقوالت، وكل ما نتبادله جالب للقلق أو الــســأم، وربـمـا أن مـا يـحـدث اآلن هـو اسـتـعـادة لـزمـن بـدايـة الثورة الصناعية فـي أوروبـــا وانـشـغـال الـنـاس عـن حياتهم األولــى املتسمة بالدعة إلى العمل واالنهماك الزائد فيه، عندها ظهرت دعوة ملطالبة الناس بالعودة إلـى القرية من أجـل املحافظة على سامة الــروح من االنجراف في الحياة امليكانيكي­ة ذات التسارع املفقد لروح الجماعة، ويظهر لي أن العالم اآلن يبحث له عن موقع ليهرب إليه، بحثا عن مـلـجـأ يـقـيـه مــن طــوفــان األخــبــا­ر والــحــكـ­ـايــات، وألن مـكـنـة التواصل مسحت مـن الـخـارطـة وجــود القرية أو الـريـف أو هــدوء الـصـحـراء أو الجزر النائية فلم يعد هناك مكان لتهرب إليه من كل هذه الضوضاء. وإذا كانت تلك الدعوة صالحة في ذلك الزمن لوجود ظهير للمدينة بأن تهرب إليه كالقرى واألرياف إال أن هذا الظهير غرق داخل املدينة أيضا فلم تعد هناك قرية فقد استوطنتها كل أدوات التواصل. وقد كتبت مرتني عن الروائي العظيم جابريل ماركيز، أولها عندما أصيب بالخرف والثانية عند رحيله، وقد مكنه الزمن من أن يقف على تفسخ الحكاية مـن خــال أدوات الـتـواصـل، وعندما أصيب بالخرف قلت في نفسي لقد هـرب من املصيدة التي أعــدت للبشرية، فبعد أن تمتع بخلق عوالم ساحرة من القصص وأسكننا بها اكتشف أن العالم لن يستقبل شيئا جديدا منه كونه منشغا بتلقي الرسائل القصيرة ذات الوخز الحاد من غير أن يعيش صاحبها لحظة حلم، وألن ماركيز فنان عظيم قرر الرحيل إلى براري الخرف هربا من حياة مرهقة بما تحمله لنا من أخبار متوالية وسقيمة. وأجدني أعيد سؤالي: هـل على كـل ذي فـن أن يـهـرب بـاتـجـاه الـخـرف كــون عـواملـه لـن تكون محل تهافت كما كان يحدث سابقا، ربما في هذا الهياج التواصلي ال تستطيع أن تسمع قصيدة رائعة أو أغنية ذات شجن أو رواية ذات عالم مدهش. ربما أشعر بهذا كون الفضاء غدا مزدحما بما ال يجب أن يسمع، وربما هو شعور مقدم للحاق بماركيز -في محطته األولىمن عالم الخرف، ذلـك العالم الـذي يسقط فيه الرهق النفسي وتعود لتهجئة حروف العالم لتشكلها وتصنع عاملا ال يستقيم إال في بالك الوديع.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia