Okaz

زقاق عانقني !

- * كاتب سعودي

وهو أحد األزقة التي يتحدث فيها الكاتب الباحث املبدع «عبدالله محمد أبكر» في كتابه «أزقة مكة» الــكــتــ­اب عـــبـــار­ة عـــن قــصــة غــــرام مـــكـــاو­ي يــقــع في حــب مـديـنـة، وال يكتفي بـذلـك بــل يحتفي بـهـذا الـحـب مترجمًا األحاسيس املتذكرة إلى صور وكلمات، سحر، ثمة سحر عفوي في هذا الكتاب، ثمة نزعة شبقة لتتبع الصور القديمة، ووضعها فـي بــرواز ذهبي المــع يضيء عتمة األيـــام، كتاب يسحبك معه لتقف على أعلى جبال مكة، وتنظر إلـى املـاضـي، ليس لتبتعد عن الحاضر، بل لتبقى قريبًا من ذاتك، يجعل من األزمنة محارة رائعة نجهل ما بداخلها بالكامل، لكن نعرف أنه جميل وعذب، يأخذنا إلى البدايات، إلى الطفولة املكاوية التي لم يلوثها شيء، طفولة الـبـيـوت الضيقة، واألزقـــة النحيلة املـرصـوفـ­ة بالحجر، يخطفنا إلــى مكة العتيقة، والــتــي التـــزال فــي الــذاكــر­ة، كأشياء مـلـونـة تـزهـو فــي رؤانــــا، كـفـوهـة بــركــان خـامـد فــي عـمـق الروح، تـسـتـثـيـ­ره حـمـم الــحــكــ­ايــات فـيـثـور فــي الــفــضــ­اء طــافــئــًا، ويغرق األوديــــ­ة بــالــدمـ­ـوع، مكة حيث أحـلـى اللعب مــا كنا نصنعه من الطن، وأحلى األحـام ما تحكيه لنا الجدات، وحيث الذكريات الشاحبة والنسيان والعمر املسروق، الذي لم نعشه كما يجب، ولم نحتفل به ونهدهده، حيث كنا ننتشر كغزالن نافرة تركض في مرح البدايات بجنون من ال يلهث أبدا، وحيث الفتيات كالفواكه النادرة في غير موسمها، وحيث أهازيج األمهات العذبة التي ترددها للمواليد ذوي العيون املكحولة، كصندوق خشبي قديم، استدار «عبدالله محمد أبكر» إلى الخلف طويا، مد يده، وانتزع أحشاء الصدف وأكــوام الآللئ داخلها، ماحقًا ذلك املسك الذي تتناثر منه، جمعه وفــرده أمامنا، وأخــذ يحدثنا عن وجــوه لم تعد تعرف بعضها البعض، وال ترى بعضها، إال في مرآة قديمة لـم يذبل الــورد فيها أبــدا، كــان كغيوم بيضاء تلعب فـي األفق، يتجول فـي أزقــة وحـــواري «مــكــة»، األزقـــة املـهـجـور­ة فـي الذاكرة جعلها تعود على بدء، أيقظها من إغفاءة الروح، وهبها الحياة، واوصل الجملة بنواقصها، استعادها بذاكرة جمل لم تته أثار خطاه في الصحراء، نفضتها الريح، غير أن الجمل مازال يتذكر، كطفل يمشي في األحـام، ماضيًا في بصيرته إلى املخيلة دون أن ينسي تفاصيل أبيه، كنت أتبع «عبدالله محمد أبكر» أتبعه فـي األزقـــة املعتمة واملـسـرجـ­ة بالفوانيس، أو«األتـــاري­ـــك» والتي تنتهي فـي بعض األحـيـان إلــى «بـرحـة» أصعد معه الــدرج إلى قاعة الشفا والشامية، بعد املرور بأزقة متداخلة وبأسماء عديدة بعضها نافذ، وبعضها غير نافذ، أستمر بصحبته من وجد إلى وجد، با حقائب وبا رغبة في اإليـاب، أستمر أتبعه في هدوء مخملي، نعبر باب النبي، نشم رائحة العطور، ومن باب زيادة إلى سويقة، إلى املسعى «املول التجاري» ملكة، والذي يمتد شماال إلى املدعى والجودرية وسوق املعاة، كل أخضر ينبت حيث عبر «عبدالله»، يقف بي في الحارة التي نشأت فيها «شعب عامر» وكسراج يضيء عتمة األيام ويكشف ذهب النسيان، يعود لسوق الليل وشعب سيدنا علي، حيث مولد املصطفى صلى الله عليه وسلم، ومنازل عبدالله بن مناف، التي جميعها تضم عددًا من األزقة التي تشرفت بمامسة أقدام رسول الله، عطور تمطر فوق الـــرأس، وجـــدران مـن الحرير تلتف حــول بطن القلب، كقفطان ملكي كبير يسور الـــروح، كـل مـا تحتوي عليه حصالة الروح، هشمه «عـبـدالـلـ­ه أبــكــر» بغصن مــن ريــحــان، وجعله فــي كتابه، كـنـت أقـلـب الـصـفـحـا­ت وألــثــم أصـابـعـي، الـلـه الـلـه «يــا عبدالله» أنت وعيني علي، أكلني الحنن، وحاصرتني الذكريات، بكيت شـوقـًا، ربــاه مـا أصـعـب حـبـا يـعـذب صـاحـبـه، مـا أحــاه مـن حب يعذب صاحبه، كنت أدور وأدور ككرة في يد طفل، أتقافز بن الصفحات كعصفور يلتقط الــحــب، فيغني، ويـسـعـد، وتمتلئ عيناه بالدموع، فمن ال يعرف الحنن، ال يعرف البكاء، يحدث لكتاب أن يثير الهاجع من ذكرياتنا فيدمينا أو يشفينا، وليس من الضروري أن تكون األماكن مؤملة حتى تبكينا، أحيانًا يكون بكاؤنا اشتياقًا ملن عاشوا في تلك األمـاكـن ولـم يـعـودوا هناك، فالدموع قد تكون عامة فرح، وقد تكون االبتسامة أحيانًا عامة للتهرب من إظهار األلم، نحن ال نشفى من ذكرياتنا ولهذا نكتب، ونرسم، ونسترجع رؤيـة الصور في أجهزتنا املحمولة، رحمك الـلـه يــا «غـــازي القصيبي» يــا صـديـقـي الـحـبـيـب، قـــرأت لــك مرة «مشكلتي الحقيقية ليست النسيان، مشكلتي كثرة الذكريات» لم أفهمك حينها يا حبيبي، اآلن أفهمك جيدًا وأدرك مـاذا كنت تعني، وأنا أتصفح كتاب «عبدالله محمد أبكر» صعب أن تحيط بك الذكريات وتحاصرك من كل جانب، وتبقى وحيدًا وسطها، ال الــذاكــر­ة تـرحـمـك وتـخـفـف مــن تضييقها عـلـيـك، وال النسيان يــرحــمــ­ك ويــبــعــ­د عــنــك مــا يـنـغـص عـلـيـك مـضـجـعـك، مــــاذا نفعل عندها؟ سوى أن نجلس مكتوفي األيــدي أمـام العماق املسمى بالزمان، كتاب سكنني من الوريد إلى الوريد، مأني، من عقلي حتى قلبي، أضاء زماني!

 ??  ?? د. فؤاد مصطفى عزب * fouad5azab@gmail.com
د. فؤاد مصطفى عزب * fouad5azab@gmail.com

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia