عندما تتحدى صحراُء صحراَء
فــــــي عــــــــام 1955 نـــــشـــــرت مــــجــــلــــة صرخة الــعــرب مـقـاال لـلـدكـتـور طــه حـسـني، وثــق فيه انطباعاته لزيارة اململكة العربية السعودية خال 19 يوما صال وجال فيها مدن اململكة، وقابل امللك سعود رحمه الله واستضافته الشؤون الثقافية والتعليمية آنذاك. وقد أطرب عميد األدب طه حسني اللغة حينها بما شاهده في زيارته، فمن رأى ليس كمن سمع، وعميد األدب سمع ورأى بإحساسه، قال حينها: «لقد تركت زيارتي للمملكة العربية السعودية في نفسي آثارا قوية رائعة، ال يمكن أن تصور في حديث أو أحاديث.. وما أعرف قطرا من أقطار األرض أثر في عقول الناس وقلوبهم وأذواقـهـم، كما أثـرت الباد العربية الــســعــوديــة..» كـمـا أدهــشــه الــحــراك الـثـقـافـي والــوعــي الذي حظي بـه اإلنـسـان الـسـعـودي، مـؤكـدا بــأن النهضة الثقافية والتعليمية تبشر بخير كثير جــدا، أكـثـر مـن كــل مـا يمكن أن يصفه الـذيـن لـم يــزوروا هـذه الـبـاد، وفـي هـذا االنطباع بعث طه حسني إلى كافة من يتصور بأن اإلنسان السعودي صحراء خاوية وال يعلم رسالة بأن هذه الصحراء هي من أنتجت كل هذا اإلرث الثقافي العربي الذي قامت وما زالت تقوم عليه الدراسات واملعارف اللسانية واإلنسانية. ال ننكر جميعا كـم شـهـدت الـصـحـراء الـسـعـوديـة تحديات تـاريـخـيـة تـخـص هويتها الـسـعـوديـة الـعـربـيـة واإلسامية الـــخـــالـــصـــة فـــــي مــــواجــــهــــة كـــــل الــــتــــحــــوالت والتشكيات األيديولوجية العاملية، وال زالت حتى اليوم تواجه التحدي وتتوسع في صناعة اإلبـداع املتنوع مع كل هذه التحوالت ولـــم تــحــاصــره، كـمـا ادعــــى الـبـعـض بـأنـهـا بـيـئـة محاصرة لـإبـداع املـتـنـوع، فها هـي الـيـوم وبـرؤيـة 2030 تسير على خـطـى حـضـاريـة تحمل هـويـة سـعـوديـة مـواكـبـة لكل طارئ حضاري فكري واقتصادي، وتسعى لصناعة أنموذج عاملي على كافة األصعدة الحضارية. طــه حـسـني الـــذي ذكــر عــام 1955 فــي حـديـثـه مــع املـلـك فهد عبدالعزيز، الـذي كان حينها وزيـرا للمعارف، بأنه يخشى أن يجد من أهل البادية مقاومة لنشر التعليم، فأصبح اآلن ال يدري كيف يرضي حاجتهم إلى تعليم أبنائهم، وهو قد أنشأ في أول هذا العام 270 مدرسة جديدة، وما أظن إال أنه سيضطر إلى إنشاء أكثر منها في العام املقبل. مــاذا سيقول طـه حسني لـو عــادت بـه الحياة وشـهـد مقاعد العلم السعودية تشهد حضور أكثر من 5835501 طالب علم في صفوف الـدراسـة؟! مـاذا تـراه سيكتب وأي لغة ستسعفه فــي تــدويــن كــل مــا يــحــدث لـلـصـحـراء مــن قــفــزات حضارية، وصلت بها إلى صناعة مشاريع أشبه بالحلم عند اآلخرين، ولكنها ليست مستحيلة على ابن الصحراء الذي يقف اآلن على شرفة مشروع الطاقة النووية. خاضت السعودية تحديات مع صحرائها، التي أصا لم تكن مجرد صحراء، بل كانت خريطة علمية وعملية وإنسانية شكلت كل املعارف واملعارك املعرفية والسياسية التي بنت اإلنسان السعودي والعربي، حتى قال طه حسني في هذا من مدينة جدة معترفا بانتمائه الوطني الثاني إلى السعودية، وامتنانا ملا تقوم به هذه الصحراء من دور فاعل في الكيان الــعــربــي واإلســـامـــي: كـــان الـفـرنـسـيـون فــي بـعـض أوقاتهم يتحدثون عن انتشار ثقافتهم في األرض، فيقول قائلهم: إن لكل مثقف وطنني، أما أحدهما فوطنه الذي ولد فيه ونشأ، وأما اآلخر ففرنسا التي تثقف فيها أو تلقى الثقافة عنها. وكنا نسمع هذا الكام ونرى فيه شيئا من حق وكثيرا من سرف.. ولكن الذي أريد أن أقوله اآلن هو الحق كل الحق، ال نصيب للسرف فيه من قريب أو من بعيد، فلكل مسلم وطنان ال يستطيع أحد أن يشك في ذلك شكا قويا أو ضعيفا، وطنه الــذي نشأ فيه، وهــذا الوطن املقدس الــذي أنشأ أمته وكون قلبه وعقله وذوقـــه وعـواطـفـه جميعا، هــذا الـوطـن املقدس الذي هداه إلى الهدى والذي يسره للخير والذي عرفه نفسه وجعله عضوا صالحا مصلحا في هذا العالم الذي فيه.