Okaz

الوزير الذي فصلته!

-

هذه بعض أمـواج عقلي املتضاربة، أمواج صــارخــة حـــازمـــ­ة، املــــاء يــجــري بــني حكاية وحكاية، ممزوجة بطعم الزمن، واأليام، أيام تعود لي عنوة، تخرج من تابيب ذاكرتي، تتأوه للخروج، شاطئ عقلي يتحرك، يتحرك من مكانه، ليأتي باملزيد من األمواج، موجة تأتي وأخرى تروح، تحمل صورًا حياتية متفرقة، تظهر بعد غياب، تصلني متقطعة، ثم تكتمل، لتصبح حكاية قديمة جديدة، وهذه واحدة منها، والعبرة بــني الــســطــ­ور!! عــرفــتــ­ه فــي املـسـتـشـ­فـى الــجــامـ­ـعــي، عندما كنت أديــر ذلـك املـكـان، وجـدتـه ضمن آخـريـن، حيث كانت شركة أمريكية، تشرف على إدارة املكان قبلي، كان رجا أفريقيًا عريض املنكبني، ضخم الجثة، شعره فاحم أجعد، وأسـنـانـه مفلجة، شـاهـق الــســواد كالفحم قبل أن يصبح رمــــادًا، كلما يقف أمــامــي أتــصــور املـــارد الـــذي كـانـت أمي رحمة الله عليها تحكي عنه، وقتما يخرج من املصباح املسحور، صوت أجش جهوري خشن غاضب صارم، كان يـوبـخ موظفيه باستمرار على املــأل، حصل على شهادة وفـاة مشاعره مع شهادة مياده في نفس الوقت، تتولد قوته من أرحام استسام اآلخرين وتساقط دموعهم، لوح ثلج بارد، ال يعرف غير البطش، كانت حكمته «إذا قتلت رجا أرهبت مائة ألف آخرين»، وكان يقتل كل يوم موظفًا نفسيًا ومعنويًا بتصرفاته، كان عندما يمشي في أروقة املـسـتـشـ­فـى تـتـحـول قــدمــاه إلـــى آلـــة حـــرث تــحــرك األرض، عبوسا، ال يضحك وال يحنو، ما أجمل أن يفطر اإلنسان على ما خلقه الله، ومـا ألهمه إيـاه دون تلقني أو تلوين، فاألرض تحتاج إلى حنان الشمس حتى ال تبور، واملياه وحــدهــا ال تـطـرح الــزهــور، وكــذلــك املــوظــف، كــأن كابوسًا يوميًا لم أفق منه حتى تخلصت منه، كان واجبي القيادي يحتم على أن أبعده عن املكان، ولو عاد بي الزمان مئات املرات لتلك اللحظات التي انتزعته فيها من املستشفى بعد أن صفع أحد السائقني، لن أستطيع أبدًا، أن أصف شعوري، وال أمنع نفسي من الشعور بالبهجة التي دخلتني في ذلك اليوم، وال منظر الغضب الذي كان مثل البارود في عينيه، وأنــا أبلغه برغبة إدارة املستشفى الجامعي االستغناء عــنــه، كـنـت أرقـــص فــرحــًا، ألنـــه مـضـى ولـــم يصفعني أنا اآلخر كما فعل بالسائق، ومرت األيام والشهور والسنني، وانتهت في لحظة واحــدة لن أنساها طاملا حييت، نفس الرجل بدمه ولحمه، ظهر لي في يوم مشهود، لحظة من تلك اللحظات التي نتحول فيها من شخص آلخر، لحظة الخروج من كهف الطمأنينة، إلى صحراء التشتت، كانت ليلة دعـانـي فيها املــرحــو­م صديقي طيب الـذكـر «محمد صادق دياب» وكان في حينها مشرفا على «مجلة الحج»، وذلك لاحتفاء بضيوف وزارة الحج وكذلك تكريم الكتاب الـذيـن يشاركون فـي تحرير املجلة وكنت أحـدهـم، وعلى شـرف معالي الصديق العزيز «الدكتور فـؤاد عبدالسام الفارسي» وزيـر الحج السابق، وانتهت الحفلة في فندق املريديان، ليتقدم إلي أحدهم، قائا وبصوت ضخم أجش ال أخطئه، «هل تذكرني يا دكتور؟؟» وكأن سهام الدهشة أصابتني بالبله، حيث كان صديقنا العماق هو من يقف أمامي، قاطعني قبل أن يستمع إلجابتي، حيث يبدو أن شـدة حماسه لـم تدعه يكبت مشاعره، أكثر مـن ذلــك، قال لـي وأســاريــ­ره تبتسم فـي شغف واضـــح، أنــا أحــد الوزراء املحتفى بهم، لم يستوقفني كامه كثيرًا، لم أسأله وزير مــاذا؟ كـان كل خيالي مشغوال بانتقالي إلـى أيــام مضت، أسـتـرجـع تـلـك الـلـحـظـا­ت، وكـأنـنـي أسـمـع أصــواتــا كثيرة تأتي مـن بعيد، أصـواتـا تشبه الصهيل، ال..ال.. الخرير.. كا.. كا.. تشبه األنني، ال أتذكر األصوات بدقة، فقط أتذكر أنني بعدها غبت في دنيا بعيدة، لم أغف، ولم أكن أحلم، كنت مستيقظًا، ولكن في حـال فقدان االتـــزان، ربما كنت نائمًا، ربما.. ال!! ال أعــرف.. لكن أظـن أنني فصلت معالي الوزير دون أن أدري!!

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia