الباحث الـ «سوبرمان»
عندما هممت بــإعــداد مقالي الـسـابـق حــول واقع البحث العلمي في الجامعات السعودية وتحليل أســـبـــاب مـــا نـــرصـــده مـــن مـــحـــدوديـــة فـــي املـــــردود العلمي واالقتصادي من نتائج البحوث العلمية الوطنية على مــدى الـعـقـد األخــيــر، كـنـت حينها أقـــوم بــاالطــالع عـلـى محتوى البحوث الوطنية املـنـشـورة فـي فهرس ISI العاملي للدوريات العلمية، ولفت انتباهي «مصادفة» مالحظة وجود كم هائل من األبحاث املنشورة باسم أحد الباحثني السعوديني من منسوبي إحــدى كـبـرى الجامعات الوطنية، بشكل مثير للدهشة، وهو ما دفعني للقيام بإحصاء إنتاجه العلمي الغزير، فوجدت أن النتائج تقود إلى قضية مثيرة وحقائق شائكة تـدور في فلك إشكاليات البحث العلمي. بداية، أستعرض لكم ما حصرته عن اإلنتاج العلمي واألكاديمي لــهــذا الــبــاحــث، إذ لــديــه نــحــو 1200 ورقــــة عـلـمـيـة مــنــشــورة في الدوريات العلمية خالل 20 عامًا، غالبيتها نشرت خالل السنوات السبع األخــيــرة، ولــديــه 29 كتابًا فــي مـجـال تخصصه أنتجها خالل 14 عامًا، ولديه 14 بـراءة اختراع، وشـارك بــأوراق بحثية فـي 42 مؤتمرًا علميًا فـي الفترة مـا بـني 2004 إلـى ،2015 كما أشرف أكاديميًا منذ 2001 على 36 طالب دراسات عليا، واختبر نتائج أبحاث 22 آخرين من طلبة الدراسات العليا، وحصل على العديد من الجوائز املحلية، وأصبح عضوًا في أحد مراكز التميز البحثي. إنجازاته تبدو متميزة، لكن الـغـزارة الهائلة في النشر العلمي لـهـذا الباحث تـفـوق املمكن، واستدعتني للتوقف أمـامـهـا، فإذا كانت أيام العمل الفعلية خالل العام الواحد بعد خصم إجمالي عطالت نهاية األسبوع واإلجازة السنوية وأعياد الفطر واألضحى واإلجازات االضطرارية تعادل 190 يوما، سنجد أن هذا الباحث استطاع ضرب أرقام فلكية، ففي العام 2014 استطاع نشر 194 ورقة بحثية، أي بمعدل بحث علمي يوميًا، كما أن متوسط معدل النشر العلمي املسجل ما بني 2011 إلى 2018 بلغ أكثر من 120 بحثًا في السنة، هذا باإلضافة إلى اإلنتاج الغزير للكتب العلمية بـمـعـدل كـتـابـني سـنـويـًا، وفـــاق عــدد أبـحـاثـه املــنــشــورة مــن حيث «الكم»، ما نشره العالم األمريكي روبرت النغر امللقب بـ«توماس أديـسـون هـذا العصر»، مع فــارق كبير في املقارنة ألن النغر من العلماء العشرة األوائـل من حيث أعلى معدل استشهاد مرجعي في تاريخ البحث العلمي بنحو 250 ألف استشهاد، وهنا تكون املـقـارنـة جــائــرة، ألن «الــكــم» ال قيمة لـه مقابل حجم االستشهاد العلمي بالعمل الـبـحـثـي، والــبــاحــث املــذكــور نسبة االستشهاد بأبحاثه محدود بأقل من 30 ألف استشهاد. ويجمع الباحثون في العديد من املراجع ودوائر نقاشات النشر العلمي، مثل بوابة البحث العلمي ،»Research Gate« بأن متوسط معدل النشر العلمي املنطقي للباحث املفترض أن يكون ما بني ورقة إلى 4 أوراق بحثية سنويا، وإن زاد عن ذلك فالنتائج على األرجــــح ستنعكس سـلـبـًا عـلـى جـــودة الـبـحـث ومــخــرجــاتــه، كما أن املعدل الهائل في عـدد األوراق املنشورة التي بلغها الباحث املقصود في هذا املقال، هو ما يعرف في أوساط البحث العلمي بمصطلح »Disjunctiviti« ويقصد بـه «النشر العلمي املفرط»، وقــد نـاقـش الـبـروفـيـسـور جــون أنـتـونـاكـيـس أســتــاذ عـلـم النفس والسلوك املؤسساتي بجامعة لــوزان السويسرية هـذا املصطلح فــي مــقــال نــشــر الــعــام املــاضــي عــلــى مــوقــع مــؤســســة »Elsevier« الرائدة في النشر العلمي، ووصفه بأنه من األمراض القاتلة التي تصيب البحث العلمي باعتبار أن الزيادة الكبيرة في املنشورات القصيرة والسريعة تؤثر على الـجـودة وتــؤدي إلـى نتائج غير متكاملة وغير نموذجية، وتنتج عنها بحوث غير مفيدة وتثير الشكوك حول دقة نتائجها وصحتها وغياب الحقائق العلمية عنها. وهــذا ال يعني تمامًا بـأن تميز األبـحـاث وجودتها يفرض على الباحث الحد من النشر العلمي للحفاظ على جودة املخرجات، فيوجد باحثون متميزون وعلماء لديهم إنـتـاج غـزيـر بجودة عالية، ولكن الفرق شاسع إذا قارنا إنتاجهم النوعي مع الباحث املــذكــور، فالباحث املتميز قـد يـكـون مـعـدل النشر لـديـه مرتفعا نــتــيــجــة ألســـبـــاب عـــديـــدة، مـــن بــيــنــهــا حــجــم الــخــلــفــيــة املعرفية التراكمية وجــذب نتائج أبحاثه ذات االستشهاد املرتفع لعدد كبير مــن الباحثني الــذيــن يتقدمون لــهــؤالء الباحثني بطلبات املشاركة والتعاون البحثي. ولكن في حالة الباحث املذكور األمر يبدو مختلفا، إذ لديه ورقة بحثية واحدة فقط حظيت بنحو ألف استشهاد، واشترك في إعدادها مع عدد من الباحثني اآلسيويني املتمكنني، وكذلك عدة أوراق أخرى مشتركة حظيت ببضع مئات مــن االســتــشــهــادات، أمــا الغالبية العظمى مــن أبـحـاثـه املنشورة فحظيت باستشهادات قليلة جــدا، بـل وغالبًا مـا يـكـون هـو من استشهد عـلـى نفسه فــي ورقـــة بحثية الحــقــة، وهـــذا عــدا النشر الكثيف في فئات Q4 ذات الحد األدنى من الجودة العلمية. والــدوافــع مـن هــذا النشر العلمي املكثف تنحصر على األرجح في الحصول على الترقية األكاديمية، والفائدة املادية من قيمة املكافآت الشهرية عن كل بحث وفقًا للمادة 12 من الئحة البحث العلمي، واالسـتـفـادة مـن قيمة التمويل السنوي لألبحاث التي تصل فـي بعض الجامعات إلـى 150 ألـف ريــال عـن كـل 5 أوراق بحثية، أمـا الجامعات التي تقبل بهذا فالهدف لديها أن ينشر هــؤالء الباحثون فـي دوريـــات ذات معامل تأثير جـيـدة ليتقدم اسـمـهـا فــي قــوائــم التصنيف الـعـاملـيـة دون االهــتــمــام بالنتائج العلمية أو املردود االقتصادي. أما كيف استطاع الباحث املذكور أن ينشر ذلك الكم الهائل من األبــحــاث، فـالـواضـح مـن خــالل استقصاء الـحـالـة أن لـديـه شبكة عـــالقـــات مـــع بــاحــثــني مـتـمـكـنـني مـــن أواســـــط وشــــرق آســيــا أشبه بـ «تجار الشنطة» في مجال األبحاث، وهم منتشرون حول العالم وهي ظاهرة معروفة في األوساط العلمية، ومنهم من يستهدفون الباحثني السعوديني ليشركوهم معهم في أوراقهم العلمية إما بــاالســم فـقـط أو بـمـشـاركـة مــحــدودة مـقـابـل املـسـاهـمـة بـجـزء من التمويل املالي الذي يحصل عليه الباحث السعودي من جامعته، فالكم الهائل من املنشورات العلمية التي تنسب ملثل هذا الباحث سنويا ال يعطيه منطقيا الوقت الكافي للمشاركة الفعلية فيها جميعا إال إذا كانت لديه قــدرات خارقة وإعجازية، ولذلك كنت بــصــدد طـلـب إفــــادة مــن الـجـامـعـة املـعـنـيـة حـــول مــا رصــدتــه من مالحظات عن الباحث املذكور إال أنني وجدت أن مدير جامعته شخصيا يشترك معه في نشر عدة أوراق بحثية. من املؤسف أن هذه ليست حالة فريدة بل يوجد مثله الكثيرون فــي عــدد مــن جـامـعـاتـنـا، وهــو مــا بــات يستوجب تشكيل لجان أكــاديــمــيــة مـسـتـقـلـة عــلــى مــســتــوى «وزاري» لـفـحـص مخرجات البحث العلمي ومواجهة ما نرى بأنه «فساد أكاديمي» تسبب في محدودية املــردود العلمي وهـدر املاليني من التمويل الحكومي للجامعات، واألخطر من ذلك هو وجود سقوط مريع في االلتزام األخالقي تجاه العمل العلمي واملعرفي.