Okaz

إن رأيتموهم.. احثوا في وجوههم التراب

- تهويم د. منى العتيبي * @fanarm_7

كنت في مكان ما في مهمة ما، كانت النساء الاتي تجاوزت أعمارهن الثامنة واألربعني يتهافنت على املايك لتصل اقتراحاتهن املتواضعة إلى رئيسهن، وبما أن الرئيس الدبلوماسي يجيد طرح كلمات الثناء ويعرف جيدا من أين تؤكل كتف الضعفاء، كان يرد عليهن بكلمات محملة بالثناء والتصفيق، كنت أراقــب بريق أعينهن الباهتة كيف تشع بعض الحياة فيها بعد كلمات الثناء.. كيف تعود تنفث عنها إرهاق الزمن.. كيف يرتد إليها البصر من جديد! كم أرعبني هذا املشهد السريع الذي مر أمامي خال ربع ساعة.. بؤس.. ذبول.. ثم كلمة يعود معها بعض من الحياة، كيف يكون لكلمة ثناء كل هذا الدور في إعادة هيكلة إنسان قد تجاوز سن الرشد، ما الحاجة التي تستدعيه إلى أن يتعلق في كلمة حتى يشعر بوجوده ويعود؟! كـيـف طـغـت الـعـاطـفـ­ة عـلـى الـعـقـل حـتـى صــار مصير الــوجــود معلقًا عليها؟! حني يكون اإلنسان معلقا حياته.. كل حياته على ترقب كلمة مدح من اآلخرين يأتي ذلك منتجا أساسيا من منتجات طغيان العاطفة على العقل، وحينها كذلك حتما سيكون املشهد معركة وجودية أحادية الـوجـهـة؛ إن وجــدت جهتها بقيت وإن تاهت فنت. إن اإلنـسـان الذي يـوحـد مـصـدر وجـــوده فــي الحقيقة هــو إنــســان مــن أسـهـل الـسـهـل أن يقضى عليه ومن أسهل السهل أن يتقاسمه املتخاصمون معه. سجل املوقف الديني مواقف واضحة وصارمة مع من يعلقون حياتهم على كلمات املــدح ويجعلونها نـبـراس حياتهم، فهو فـي ذلــك يبني النفس اإلنسانية على التقبل ويصنع منها الرقيب والناقد الحاذق ويفتح لها أبواب الواقعية والتعددية، جاء من ذلك ما حدث مع عثمان بن عفان، فعن همام بن الحارث عن املقداد رضـي الله عنه: «أن رجا جعل يمدح عثمان رضـــي الـلـه عـنـه فعمد املـقـداد فجثا على ركبتيه فجعل يحثو في وجهه الحصباء، فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم املداحني فاحثوا في وجوههم التراب»» (رواه مسلم). املداحون غالبا أراهـم من أمكر الناس في الوصول إلى أهدافهم فهم يعلمون مدى حاجة النفس اإلنسانية إلى املدح فيغرقون ممدوحهم باملدح حتى يغرق في سفينته ويبقون هم على الشواطئ، كما أراهم مـن أخـطـر عناصر التدمير حـاملـا يضعون املــمــدو­ح فـي إطــار الرضا عـن النفس والعمل ويفقد وقتها روح وعــني النقد الـذاتـي والعملي فيقف عند محطة واحدة ال يتطور وال يتقدم ألنه فقد عناصر التفقد والتحليل النقدي وبقي عند كلمات املدح مبتسما متشبعا. هم أنفسهم أيضا من أخطر الناس على التقدم املجتمعي والبناء والتغافل عنهم يبني مجتمعا مترها مهلها على خطوات الغراب يسير. املــداحــ­ون يسلبون الثقة مـن املـمـدوحـ­ني، يجعلونهم فـي حالة ترقب وبحث دائــم لكلمة مـدح تعود معها ثقتهم بأنفسهم وبما يعملون، ال يستطعون أن يتقدموا خطوة إلى األمام دون كلمة تبني لهم جسرًا من الثقة وتدفعهم نحو الخطوة التي تتبعها، البد أن ندرك بأن ثقتنا بأنفسنا هى أحد ممتلكاتنا الخاصة والتى ال يحق ألحد أن يتحكم فــي مـسـارهـا وتشكيلها دون إرادة مــنــا.. أن يستخدمها فــي هدمنا والتحكم في جهاتنا كما شاء ت بوصلته. * كاتبة سعودية

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia