املنشار الذي فرم خاشقجي
مــضــى أســـبـــوع عــلــى ضــجــيــج الــحــمــلــة اإلعامية املـــســـعـــورة عــلــى الــســعــوديــة عــلــى خــلــفــيــة اختفاء اإلعــامــي جـمـال خاشقجي، ولـعـل مـن نافلة القول إن وســائــل اإلعـــــام الــقــطــري املـــعـــادي لـلـمـمـلـكـة انــطــاقــا مــن قناة «الجزيرة» وقوافل مخلفات جماعة اإلخــوان اإلرهابية إلـى باقي األذرع اإلعــامــيــة املــســانــدة لـهـا أو مــا بـــات يـطـلـق عليها «خايا عزمي»، هي من أشعلت فتيل الحملة العدائية منذ اللحظات األولى مـن تــداول نبأ اختفاء خاشقجي، فهي مـن نسجت سيناريوهات مصيره وروجــت لخطفه واغتياله ومقتله وذبحه وتقطيعه إربا وإخفائه ونقل أشائه في طائرات خاصة، قبل أن تباشر أي جهة رسمية معنية سـواء في الرياض أو أنقرة التحقيق في مابسات الواقعة. ربما نجحت إستراتيجية النباح املبكر لهذه الوسائل اإلعامية في تضليل الــرأي العام العاملي مؤقتًا بعد أن جعلت من خطيبة خـاشـقـجـي املــزعــومــة مــصــدرًا لــروايــاتــهــا، والــتــي يـحـمـل سجلها اإلعــامــي مـقـابـات وتــواصــل وعـمـل وثـيـق الصلة مــع شخصيات إعامية قطرية وإخوانية من أصحاب األجندات العدائية املتطرفة، لكن انعدام املهنية وانكشاف األدلجة الصرفة في سياق ما طرحته «الــجــزيــرة» ووســائــل إعـــام الــظــل الــقــطــري مــن أكــاذيــب وفبركات انكشفت تـبـاعـا، دفــع الكثير مـن الـجـهـات اإلعـامـيـة العاملية على غرار ما فعلته «النيويورك تايمز» التي تراجعت عن خبر مغلوط وحذفته بعدما وجدت أنها تسيء لتاريخها املهني وتفطنت أنها وقعت في سياق مؤامرة ومحاوالت مخزية من أطـراف فجرت في الخصومة وليس لها أي غاية إعامية ترتبط بنقل الحقيقة وإنما التفرغ للتضليل واالنـتـقـام، وعندما انكشفت أجــزاء من املؤامرة، قام املحسوبون على التوجهات القطرية واحـدًا تلو اآلخر بحذف التغريدات التي تدين فبركاتهم الدنيئة. ال شك أن هناك مؤامرة خلف اختفاء جمال خاشقجي، وهناك مؤامرة لإلساءة إلى السعودية، لكن األوضح أمامنا هو أن خاشقجي هو من أوقع نفسه في مابسات محفوفة باملخاطر عندما قرر بنفسه االقتراب أكثر من ما ينبغي من محيط «ترويكا الشر» املكشوف في املنطقة وهو ليس منهم، ثم أعطى عن نفسه الحقًا إيحاء ات ضبابية حول مواقفه، فتارة يتخذ مواقف علنية ينتقد فيها سياسة باده عبر وسائل إعام أجنبية ثم يعاود الظهور إعاميًا بتصريحات يمهد من خالها لخط العودة إلى باده، وبعد أن اقترب كثيرًا من اللوبيات األجنبية ومن جماعة اإلخـوان ومحسوبني على النظام القطري، اتضح الحقًا من خال سياق األحداث أنه أجرى اتصاالت مع املسؤولني في ممثليات السعودية الدبلوماسية في واشنطن وإسطنبول تحت مبررات ربما لم تتقبلها ولم تصدقها دوائر الشر التي تـقـارب معها، ومــن أخطر مـا قــام بـه خاشقجي خــال الفترة املـاضـيـة هــو انــتــقــاده الــحــاد والـعـلـنـي واملــفــاجــئ عـبـر حـسـابـه في «تويتر» فـي يوليو املـاضـي لسياسة الرئيس التركي رجـب طيب أردوغان حول تكفل شركة تركية ببناء مقر السفارة األمريكية في القدس، وهو ما قوبل بتاسن من الصحفي التركي االستخباراتي املعروف جدًا بقربه من السلطات التركية، إسماعيل ياشا، والذي رد على خاشقجي بتغريدة من حسابه الرسمي، قال فيها: «إخرس يا جمال واتـرك تركيا في شأنها»، ثم أدعى أن حسابه اخترق، ولكن ظل تعليق خاشقجي املتهور والشائك عن أردوغان دون أن يتراجع عنه. ومــع كــل ذلــك، ذهــب خاشقجي بقدميه إلــى إسـطـنـبـول، الـتـي تعد مسرحًا خصبًا لاغتياالت وجرائم التنظيمات املافياوية والسرية واألنــشــطــة االسـتـخـبـاراتـيـة املـشـبـوهـة إليــــران وإســرائــيــل وسورية وقطر وجماعة اإلخوان وحزب الله وغيرها، ال أحد في مأمن هناك، السفير الــروســي قتل على الــهــواء، وســفــارة أمـريـكـا وقنصلياتها تعرضت للهجوم، وال أعلم كيف تجرأ على الذهاب إلى إسطنبول بعد انتقاده العلني ألردوغـــان، والكل يــدرك حجم عــداء السلطات التركية ألي صحفي ينتقد الـنـظـام، فهي بــاألرقــام ومـنـذ سنوات تعد أكبر معتقل للصحفيني في العالم، منذ التقرير الشهير الذي نشرته وكالة األنـبـاء العاملية «رويــتــرز» في ديسمبر 2012 تحت عنوان «تركيا أكبر سجن للصحفيني في العالم»، وأكــدت حينها منظمة «مراسلون با حــدود» أن عـدد الصحفيني املسجونني في تركيا أكـبـر منه فـي الـصـني وســوريــة وإيـــران وإريــتــريــا، ظـل األمر قائمًا إلى يومنا هذا، فوفقًا إلحصائيات اللجنة الدولية لحماية الصحفيني، احتلت تركيا في العام املاضي 2017 صــدارة قائمة أكـثـر الـــدول اعـتـقـاال للصحفيني بــ 73 صحفيًا خــال عــام، لتبقى فــي الـــصـــدارة لـلـعـام الــثــانــي عـلـى الــتــوالــي، فــي حــني بـلـغ إجمالي الصحفيني املعتقلني فـي تركيا منذ حـادثـة االنــقــاب الفاشل في يوليو 2016 نحو 319 صحفيًا حتى العام الحالي ،2018 في حني شهد العام 2016 مقتل 17 صحفيًا في تركيا واعتقال ،109 كما تم إغاق 318 وسيلة إعامية، وكشف تقرير صادر عن لجنة حماية الصحفيني، وهي منظمة أمريكية غير حكومية مقرها نيويورك، أن تـركـيـا ضـمـت مــا يــقــرب مــن ثـلـث عـــدد الـصـحـفـيـني املحبوسني على مستوى العالم، وأشــار التقرير إلـى أن الـزيـادة امللحوظة في اعتقال الصحفيني في تركيا عـام ،2016 كـان وراء تسجيل أعلى رقم قياسي في عدد الصحفيني خلف القضبان حول العالم، منذ بدأت اللجنة رصد حاالت حبس الصحفيني عام ،1990 وهذا عدا شهادات أخرى عن ممارسات اإلخفاء القسري والتعذيب وتصفية الصحفيني املعارضني واملنتقدين للنظام بما في ذلك الصحفيون األجانب كما حدث في سيناريو مقتل الصحفية األمريكية سيرينا سحيم في أكتوبر 2014 على سبيل املثال. من ال يعرف سلوك األنظمة التركية املتعاقبة منذ مطلع ثمانينات القرن املاضي، عليه أن يقف بقدميه نهار أي «سبت» قادم في ساحة غلطة سراي بإسطنبول ليشاهد بعينيه مئات األمهات املكلومات يرفعن صور ضحايا اإلخفاء القسري خال األربعة عقود املاضية أو مــا يـعـرف بـوقـفـة «أمــهــات الـسـبـت»، والــتــي امــتــدت مـنـذ انقاب الـجـنـرال إيـفـريـن فــي 1980 مـــرورًا بتفاقم املــواجــهــات مــع التمرد الكردي بقيادة محسوم كوركماز في 1984 إلـى االنقاب الفاشل في ،2016 طيلة تلك السنوات كانت هناك الكثير من األحداث التي عـــززت مــن نمط الـسـلـوك القمعي للنظام الـتـركـي وتــنــوع أساليب التخلص من املعارضني واملنتقدين، مواطنني وأجانب. باختصار.. الجميع يدرك أن تركيا ليست آمنة، تنشط فيها منذ سنوات حرب باردة بني أجهزة استخبارات متعددة، ودولة عميقة، وتنظيمات إجرامية سرية، ومنظمات إرهابية متعددة، وساحة مفتوحة لتصفية الحسابات.. وهناك مثل تركي شهير ينطبق على واقع أحـداث اليوم «الديك الذي يصيح في وقت مبكر جدًا يقطع رأسه».