السيادة.. الندية.. املعاملة باملثل
الــنــظــام الـــدولـــي املــعــاصــر لــيــس فــوضــويــًا، إال أنه ليس منضبطًا، بصورة مستقرة تمامًا. نظام األمم املــتــحــدة، تـحـكـمـه قــوانــني دولـــيـــة.. وقـــواعـــد مرعية تتحكم فــي سـلـوك أعـضـائـه، وقـيـم يـحـرص أعــضــاؤه على إظهار احـتـرامـهـا وإبـــداء االلــتــزام بـهـا. هــذه الفعاليات تضمن، إلــى حد كبير، الـحـد األدنـــى مـن اسـتـقـرار النظام الــدولــي.. وكـبـح، إلــى حد مـا، احتماالت تأجج حركة الـصـراع الكامنة فيه.. وتحفيز فرص إمكانات التعاون بني فعالياته. السيادة تأتي في مقدمة القيم القانونية والسياسية واألخالقية، الـتـي يرتكز عليها اسـتـقـرار نـظـام األمـــم املـتـحـدة املـضـطـرب هذا. الــســيــادة، هــي القيمة الــدولــيــة الـعـلـيـا، الــتــي تـشـتـرك فيها جميع الدول، كأهم ما يترتب على اكتمال عناصر الدولة املادية الرئيسية (الشعب.. اإلقليم، الحكومة). السيادة كقيمة دولية عليا تتوقف على توفرها واحترامها، استقرار النظام الدولي، إال أنها ال يمكن النظر إليها على أنها قيمة قانونية «مقدسة»، بعيدًا عن خلفيتها السياسية. الدول قد تتساوى في بعد السيادة القانوني امللزم، إال أنها تختلف عمليًا في القدرة واإلرادة على ممارستها، بصورة مطلقة. الـسـيـادة، بمعناها السياسي والقانوني واألخــالقــي، تعني: عدم وجـــود أيـــة قـــوة، ســـواء كــانــت داخــلــيــة أو خــارجــيــة، لـهـا الــحــق أن تتجاوز، بل وحتى تتجاهل، سلطة الدولة الحصرية (القاهرة)، املمثلة في حكومتها الوطنية التي تعكس إرادة شعبها ووحدة أراضي إقليمها، في إدارة شؤون الدولة.. والتصرف في مواردها.. ورعاية مصالحها.. وحماية أمنها. السيادة، من الناحية النظرية، سلطة مطلقة للحكومة الوطنية، ال تنافسها أي قوة أخرى، سواء كــانــت داخــلــيــة أو خــارجــيــة.. أو مـشـاركـتـهـا حــقــوق الــســيــادة. أي تجاوز أو نقص في حقوق السيادة تلك، ال يمكن أن يكون مقبوال أو مشروعًا، بعيدًا عن إرادة صاحب السيادة الحقيقي (الشعب)، ممثال في حكومته الوطنية. فـــي املـــجـــال الـــخـــارجـــي تــتــمــثــل مــظــاهــر الـــســـيـــادة، مـــن الناحية القانونية والبروتوكولية، وإلــى حـد ما السياسية، في أدبيات التخاطب وسلوكيات التعامل بني أعضاء النظام الدولي، في ما يـعـرف بمبدأه الندية الدولية. السيادة، بما أنها قيمة مشتركة بــني الــــدول، تـعـد الـدعـامـة األســاســيــة، لقيام املـؤسـسـات الدولية، املــوكــول إلـيـهـا رعــايــة اســتــقــرار الــنــظــام الــدولــي وخــدمــة السالم العاملي. السيادة، إذن: هي معيار املساواة القانونية واألخالقية بني الدول، الذي يقوم عليه مبدأ الندية، بما ينسحب ضمنًا على افتراض املساواة السياسية. عــلــى ســبــيــل املـــثـــال: مـــا يــصــدر مـــن قــــــرارات مـــن قــبــل مؤسسات النظام الدولي املعنية، ملزم بها جميع األعـضـاء، بغض النظر عن مكانتهم السياسية في النظام الـدولـي، طاملا أنها استوفت إجــــراءات االتــفــاق واملــصــادقــة على إقــرارهــا، حتى لــو كــان طرفًا دوليًا بعينه مقصودًا بها. على سبيل املثال: قرار مجلس األمن: ٢٤٢ لسنة ٧٦٩١، الـذي ال يجيز ضم أراضـي الغير بالقوة، وإن كـانـت إسـرائـيـل معنية بــه مـبـاشـرة، إال أن إلــزامــه ينسحب على أعضاء األمم املتحدة اآلخرين، بما فيهم الـدول دائمة العضوية في مجلس األمن. لكن، من الناحية السياسية والعملية، مبدأ الندية الدولية هذا، الذي يقوم على قيمة السيادة الحصرية للدول، ال يمكن أخذه في واقع حركة السياسة الدولية على إطالقه. بالتأكيد: الدول تتفاوت فــي معايير الــقــوة، الـــذي ال يمكن تـجـاهـل تـأثـيـر حركتها على مسرح األحداث الدولية. كما أنه على مستوى عضوية املؤسسات الدولية نفسها، ال يمكن تجاهل غياب مبدأ الندية الدولية. هناك في مجلس األمن على سبيل املثال: أعضاء دائمون وأعضاء غير دائمني. هذا االختالف في الوزن السياسي بني املجموعتني، الذي يعكس واقع ميزان القوى على مسرح السياسة الدولية، يتوقف عليه تمرير قرارات املجلس وفرض إلزامها. أكثر ما يتجلى فيه قصور مبدأ الندية السياسي في العالقات الدولية، مبدأ آخر مهم يعد من أهم معالم النظام الدولي املعاصر، أال وهــو: مـبـدأ املعاملة بـاملـثـل. تتجلى فـي هــذا املـبـدأ السلوكي مرونة الــدول الحركية في مواجهة التزامات وامتيازات مبدأي السيادة والندية. من الناحية النظرية، وليس بالضرورة املادية املحسوسة، ألي دولة حق تطبيق املبدأ الفيزيائي في حركة الفعل ورد الفعل. إذا تعرضت الدولة إلجراء تراه ينال من سيادتها أو يتجاوز مبدأ الندية في التعامل على مسرح السياسة الدولية من قبل أي طرف دولي آخر، من حقها أن ترد بما تراه مناسبًا.. بـل وحـتـى تتخذ سلوكًا تصعيديًا، تـجـاه ذلــك الـطـرف الدولي. لكن هناك فرق بني امتالك الحق ورفاهية استخدامه. هنا يدخل متغير الـفـارق فـي مـيـزان الـقـوى بـني الــدول ليتحكم فـي تحديد مدى قدرة وإرادة الدولة في استخدام حقها في املعاملة باملثل. ما يميز النظام الـدولـي الحالي، هو استقراره املضطرب، الذي يــعــزى لـيـس فـقـط السـتـحـالـة وصـــول الــصــراع ألوج حـركـتـه بني فعالياته العظمى الرئيسية، نتيجة لتطور متغير الــردع غير التقليدي املتبادل... بل، إلى حد كبير، بترسيخ قواعد للتعامل بــني أطــرافــه، بغض النظر عــن تــفــاوت مــيــزان الــقــوى، يـقـوم على شـيـوع مـبـدأ الــســيــادة بينهم، الـــذي تـتـرتـب عليه قــواعــد تعامل مرعية، تفترض الندية بينهم.. وتخولهم حق الرد املناسب، ألي تجاوز ملبدأ السيادة. في كل األحوال: حقوق السيادة للدول ال تزول، بل قد تعلق بإرادة صاحب السيادة.