حتى اليمني العربي يساري في تطلعاته..!
كثيرا مـا يصنف سلوك البشر، تبسيطا، على خط مستقيم.. يقسم إلـى ثاثة أقـسـام متساوية.. بحيث يشغل كل قسم ثلث مساحة الخط املستقيم. ويشار إلـى الثلث األول منه الـذي على يمني الناظر إلـى الخط بـ«اليمني»، والثلث األوســط بـ«الوسط»، بينما الثلث األخير الواقع على يسار الناظر إلى الخط بـ«اليسار». وعندما نحاول «تصنيف» الـ«سلوك السياسي» والفكري ألفراد أو مجموعات معينة من الناس (تقريبيا) عـلـى مستقيم الـتـوجـهـات الـفـكـريـة الـثـاثـي األبــعــاد هـــذا، نـضـع كل شخص في الثلث املوافق لسلوكه وفكره، بناء على مدى محافظته، أو رغبته في «التغيير». كما يمكن تقسيم من هم في الثلث نفسه، ويعتنقون نفس التوجه، الى يمني ووسط ويسار. إن صفات «اليمني» )Right( و«الـيـسـار» )Left( و«الــوســط» ( -Mo etare)...إلــــــــــخ، الــتــي تـطـلـق الــيــوم عـلـى األيــديــولــوجــيــات والتيارات السياسية املختلفة، ويوصف بها أنصارها، تعود (تاريخيا) إلى القرن الثامن عشر امليادي. وتعتبر هذه الصفات أهم وأول معايير تصنيف األيــديــولــوجــيــات والــعــقــائــد الـسـيـاسـيـة، وكــذلــك التيارات الفكرية والسلوكية السائدة في عالم اليوم. وقد برزت هذه الصفات، وبـدئ في استخدامها، بعد قيام «الثورة الــفــرنــســيــة» وتــأســيــس «الــجــمــعــيــة الــوطــنــيــة» الــفــرنــســيــة (البرملان الفرنسي) سنة .م1789 ومنذ ذلك الحدث، أخـذت هذه األلفاظ، وما تــفــرع مـنـهـا كـــ«يــمــني الـيـمـني املــتــطــرف»...الــخ، تستعمل فــي وصف (وتقسيم) العقائد والتوجهات السياسية والفكرية املختلفة. فيقال -مثا- إن هـذه األيديولوجية «يسارية».. إن كـان أنصارها ينادون بإحداث تغيير جذري في الوضع القائم. وتوصف بأنها «يمينية» إذا كـانـت مـحـافـظـة.. بينما تـوصـف األيـديـولـوجـيـات ذات األهداف املعتدلة بأنها «وسط». مع وجود تفرعات مشابهة لكل توجه رئيس. ونحاول في هذا املقال تسليط بعض الضوء على بعض ما ياحظ على اليمني العربي الحالي.
*** إن عاملنا العربي، كغيره من باد ومناطق العالم، يحفل بكل التيارات املمكنة، املتخيلة وغير املتخيلة.. التي تمتد من أقصى اليمني، أو من يمني اليمني، إلى أقصى اليسار، أو يسار اليسار. ولكن، تاحظ اآلن سـيـادة التيار الـيـسـاري، بتفرعاته املختلفة، فـي معظم أرجاء هــذا الـعـالـم، خـاصـة فـي أوســـاط املـفـكـريـن، واملـثـقـفـني، وحـتـى بعض املتعلمني. وبما أن اليسار بتفرعاته وأنواعه يدعو إلى «التغيير» )hange( فإن السيادة النسبية لهذا التيار تعني: سيادة الرغبة في تعديل الـواقـع، أو سيادة رغبة القطاع املفكر واملثقف واملتعلم، في التغيير. وهذا أمر طبيعي، اذا أخذنا في االعتبار أن «الوضع» العام، في أغلب أنحاء العالم العربي، مزر وال يسر أي صديق. إن اإلنسان السوي بطبعه يرغب دائما في التغيير، ويتطلع لحياة ووضــع أفضل مما هـو فيه، مهما كــان ذلــك الـوضـع مريحا ورغدا، نـاهـيـك عـنـدمـا يــكــون الــوضــع املـعـنـي مـزعـجـا، وسـيـئـا، ومتدهورا. وبالطبع، هناك «تفاوت» في مدى قوة هذه الرغبة من شخص آلخر. كما يتميز املفكر واملثقف، واملتعلم تعليما عاليا، بالرغبة الجامحة والـدائـمـة للتطور والـتـطـويـر.. حتى قـيـل: «إن املفكرين ال يعجبهم العجب، وال حتى الصيام في رجـب». وتلك غريزة إنسانية أصيلة، لوال وجودها في البشر، لبقي العالم على سيرته األولى، التي خلق عليها.
*** إن املــفــكــر فــي ســعــي دائــــم للتغيير نــحــو األفـــضـــل.. وكــأنــه يتطلع نحو وضع «مثالي» (أو نموذجي) يصعب بلوغه في حياة املفكر، مهما طال عمره. فاملفكرون يسعون -كما يبدو- لتقليص «عيوب» ومصاعب البشر ألدنــى حـد ممكن، و«تعظيم» مـزايـاهـم وتقدمهم ورفــاهــهــم، ألقـصـى حــد ممكن. وتـلـك مهمة بالغة الـصـعـوبـة، إن لم نقل مستحيلة. ومع ذلـك، يحمد لهؤالء تطلعهم الدائم نحو العا، ونحو تحسني حال اإلنسان في هذه الدنيا، وعدم التوقف عند وضع معيشي معني، مهما كان حسنا. إذ، في عرفهم، البد دائما من البحث عن األحسن، والسير تجاه األفضل. إن مـن أكبر الخطايا التي يرتكبها املفكر واملثقف، فـي حـق نفسه وأهله ومجتمعه، هي أن «يزين» واقعا سيئا، ويروج لباطل واضح، مستخدما معرفته وقــدراتــه املعرفية إلقـنـاع اآلخــريــن بـصـاح ذلك الوضع، والرضا به لألبد. يقول كثير من علماء السياسة واالجتماع اإلنـــســـانـــي: إن رضـــا شــخــص مـــا بــوضــع عـــام مـــزر مــعــني، ودعوته لـ«الحفاظ» عليه، يعني أن هـذا الشخص هـو واحــد مـن أربـعـة: إما مستفيد، أو منافق، أو فاسد، أو جاهل.
*** قـلـة قليلة جــدا مــن املـفـكـريـن واملـثـقـفـني، عـلـى مـــدار الــتــاريــخ، تدعو لـ«املحافظة» التامة، على وضـع حياتي سيئ معني، وعــدم السعي لـتـغـيـيـره، إلـــى مــا شـــاء الــلــه، ولــيــس فـقـط مـرحـلـيـا، وحـيـنـمـا توجد محاذير وتداعيات سلبية للتغيير. حتى غالبية من يصنفون ضمن «املـحـافـظـني» (اليمينيني) يـدعـون دائـمـا إلــى شــيء مـن التغيير، أو التطوير، حيثما تيسر. والشاهد، أن سوء األوضاع في أغلب عاملنا العربي جعل حتى معظم اليمني العربي يـسـاريـا، متطلعا للتغيير. والفكر الـيـسـاري -سواء كان عربيا أو غير عربي- الداعي إلى التغيير املناسب، إن لم يشتط عقائديا ومنطقيا، فإنه يخدم البشرية بتطلعاته نحو التصحيح، ونحو «األفضل». وقد أسهم بهذا التطلع في تحقيق أبرز إنجازات البشرية، ومعظم آمال الناس وتطلعاتهم. أما فكر الركود والتحجر، فإنه غالبا ما يؤدي إلى زيادة طني الناس بلة.