Okaz

شاي أخضر للحزن!

- د. فؤاد مصطفى عزب * fouad5azab@gmail.com * كاتب سعودي

كل جزء من الحياة يمكن أن يروى كرواية، كـل شخص منا هـو بطل ملحمته، ال أحد مــنــا يــخــتــا­ر األحــــــ­ـــداث.. األحــــــ­ـداث هـــي من تــخــتــا­رنــا.. واألحـــــ­داث عـنـدمـا تـــروى يــــزداد نبضها وال يـدركـهـا إال مـن صفا ذهـنـه وأشــرقــت روحــه ووهـبـه الله املــشــاع­ــر واألحــاسـ­ـيــس الـكـافـيـ­ة، فـاملـشـاع­ـر واألحاسيس ذبذبات النفوس املرهفة والحكاوي في هذه الحياة غير العادلة والتي أشعر باإلحباط أحيانًا وحتى بعد الستني ألنــنــي ال أسـتـطـيـع تـقـبـل كـــون الــحــيــ­اة عــادلــة كالحبال امللتوية ما تكاد تمسك برأس حكاية حتى تجد أخرى.. يقال إن الخريف حسب املعجم ليس الفصل الذهبي من الـسـنـة.. وحـسـب التصنيف الـعـمـري لـإنـسـان هــي السن التي ال يعود فيها املرء شابًا.. كنت ألتقي بسيدة خريفية العمر فـي أحــد الـفـنـادق ذات األربــعــ­ة نـجـوم الـقـريـب من منزلي ومكتبي، لـم أذهــب منفردًا أو مـع صديق فـي أي وقـت إال وأجـدهـا هـنـاك.. لم أر قط إنسانًا مهزوما بتلك الحالة التي هي عليها، منظر العجوز يكهرب األعصاب، يبدو واضحًا أنها عاشت وعانت وتعاني، تجلس غارقة في همومها ومرضها فهي تحمل دائمًا في يدها أكياسا باستيكية عليها أسـمـاء عـدة مستشفيات تعيش زمنًا هامشيًا بممارسة ما تمارسه كل يــوم، تستقبل الحياة يوما بيوم وساعة بساعة، أحيانًا تلتقط الصحيفة التي أمامها على الطاولة وتطلب شايًا أخضر من النادل، ما إن يحضره لها حتى ترتشفه بجرعات متتالية، ال ترفع بصرها نحو أحــد كــأن البشر غير مـوجـوديـن حولها.. تــجــرأت يــومــًا وســألــت مــديــر الــفــنــ­دق الــــذي تـربـطـنـي به معرفة طويلة، سألته وكأنما كنت أسأل عن كوب من املاء وســط صـحـراء شاسعة عـن وضــع تلك املـسـنـة؟ هـز كتفه دون أن يحير جوابًا ومأ عينيه بابتسامة ساخرة ورفع حاجبيه وأجابني: إنها تقيم هنا إقامة شبه دائمة، وقلما يـأتـي أبـنـاؤهـا لـزيـارتـه­ـا، وخــافــا لكل مــا يمكن توقعه اكتشفت أنها تقيم إقامة إجبارية حيث أودعها أبناؤها هذا الفندق للتخلص منها.. كنت أستمع له وأشعر بنار تحرقني في منتصف جسدي، كنت أشعر بحزن شامل.. لــقــد علمتني الــدنــيـ­ـا ومـــا مــــررت بــه فــي ســنــوات عمري الـبـائـدة أن كثيرا مـن املـشـاعـر واألحـاسـي­ـس قـد ال يمكن التعبير عنها بالكلمات، بل إن الكثير من املعاني حني نسبر أغـوارنـا بحثًا عن تعريف لها نفقد أصـل الشعور ليضيع مـع حفنةً أعــوام العمر ســدى، أفقت مـن ذهولي مستطردًا متسائا ماذا حصل لنا؟ لقد عشت حياة ليست هي ما عليه اليوم!! وأنا على يقني أنه من الصعب النظر إلــى املــاضــي فقط ألن الـحـاضـر يغمر املــاضــي ويشوهه ولكن ما نعيشه اآلن ليس هو الحاضر وال املاضي ألنه نــوع مـن الـزمـن املــزيــف.. لـم أحــظ برعاية أبــي رحمة الله عليه حـيـث انـتـزعـه الــقــدر مـبـكـرًا، أمــا أمــي فـقـد رعيتها رعــايــة تـامـة ووفـــق املـعـايـي­ـر والـقـيـم الـتـي أنـتـمـي إليها، وبموتها مـاتـت حـقـول شاسعة مـن السنابل واألشجار فـــي حــيــاتــ­ي.. لــقــد عــشــت زمــنــًا فــيــه األب ال يـتـخـلـى عن أبنائه يتحمل مسؤوليته كأب تجاههم آلخر لحظة في حياته، واألم كذلك هي أم كاملة في املنزل العائلي وجزء أساسي من جسد العائلة تقدم دون ثمن لجسد العائلة والذي أراه يتهاوى في هذه األيام، كان نموذج العاقات األسرية اهتمام األب واألم بأبنائهم ورعاية األبناء لهما حتى ينتهي زيت السراج ويكتب لهم آخر سطر في كتاب الــعــمــ­ر.. كـيـف اخــتــل الــتــواز­ن وتـحـولـت الـحـيـاة األسرية تدريجيًا من حالة إلى حالة؟ هل من محاولة لرد االعتبار لهذا الكيان في مجتمعنا الجديد؟ أو إن عجزنا فلنشرع فــي بــنــاء وتـشـيـيـد دور املــتــقـ­ـاعــديــن واملــســن­ــني الخاصة كمشاريع استثمارية بحيث يلتحق املسن بهذه الدور إن عجز األبـنـاء عن االعتناء بهم ورعايتهم وبتكاليف شـهـريـة يـقـدم لــه فيها املـــأوى الـكـريـم والـتـغـذي­ـة الجيدة والــدواء والرعاية الطبية كما هو الحال في الغرب.. هل هذا ممكن؟ هل نقدم على هذه الخطوة وبشجاعة؟ حيث إنـنـا لـم نعد املجتمع الــذي كــان األوربــيـ­ـون واألمريكان يحسدون السعودي في العيش ضمن العائلة وإلى األبد.. رحمك الله يـا أمــي كنت تقولني «كــل طفل يأتي وخبزه تحت إبطه» ولم يمهلك القدر لتقولي ونهايته!!

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia