تقاعد أعضاء هيئة التدريس
يمثل أعضاء هيئة التدريس بالجامعات النخبة الـبـارزة والـثـروة القومية املعرفية فـي أي مجتمع، فهم يمثلون حـائـط السد الـفـكـري الــداعــم لـحـضـارة وثـقـافـة كــل مـجـتـمـع، ونتيجة لــهــذه املــكــانــة الــرفــيــعــة يـسـعـى املــســؤولــون فــي كــل دولة إلـى االستثمار في هـذه الشريحة من خـالل زيــادة أعداد املـنـح الــدراســيــة والـتـوسـع فــي بــرامــج الــدكــتــوراه لتغذية الـجـامـعـات واملـعـاهـد العلمية بــاألعــداد املـطـلـوبـة، فهذه املــؤســســات تـمـثـل مصنعًا لـتـخـريـج الـــكـــوادر والكفاءات البشرية، وبالتالي يقع على عاتق أعضاء هيئة التدريس تنمية إمكانات وقدرات املجتمع ككل، إضافة إلى أن دمج الــعــديــد مـنـهـم فــي األجــهــزة اإلداريـــــة الـعـلـيـا فــي بالدهم يمكنهم مــن املـسـاهـمـة فــي بــرامــج التنمية املختلفة كل حسب تخصصه. ال يـمـكـن بــحــال مــن األحـــــوال الـتـعـامـل مــع أعــضــاء هيئة الــتــدريــس بـنـفـس الــطــريــقــة الــتــي يــتــم الــتــعــامــل بــهــا مع بقية العاملني بالدولة دونما تمييز، وأعني هنا قضية إحالتهم للتقاعد عند بلوغهم سـن الـخـامـس والستني، فـأعـضـاء هيئة الــتــدريــس كــفــاءات فـكـريـة ال تـتـأثـر عادة بتقدم السن، بل العكس هو الصحيح في أغلب األحوال، ذلـك أن جهد عضو هيئة التدريس فكري وليس بدنيًا، يقوى ويشتد بتراكم الخبرات ومرور األعوام. إن اختالف وتمايز الطبيعة املهنية هنا تحتم طريقة مختلفة في الــتــعــامــل مــع كــل مـهـنـة عــلــى حــــدة، كــمــا تــوجــب أسلوبًا مختلفًا عند التعامل مع مخرجاتها ومتطلباتها، فنسبة أعـضـاء هيئة الـتـدريـس إلــى الـتـعـداد السكاني مهم جدًا عند استقطاب أو إحالة هذه الفئة إلى التقاعد، أضف إلى ذلك تكلفة املنح الدراسية التي تقدمها الدولة لهذه الفئة، ففي بعض الدول نجد أن تكلفة املنح الدراسية منخفضة لـكـونـهـا مـنـحـًا داخــلــيــة -داخــــل الـــدولـــة نـفـسـهـا- وليست خارجية (ابـتـعـاث)، أمــا فـي اململكة فــإن املنح الخارجية تعد هـي األســاس لحصول أعـضـاء هيئة التدريس على درجاتهم العلمية، وتكلفة املنح الدراسية تكون مرتفعة للغاية، ولهذا ينبغي املحافظة على االستثمارات في هذا القطاع وعدم التفريط في كوادره. كما أن الطبيعة النوعية لبعض التخصصات العلمية الــنــادرة، تتطلب اسـتـمـرار عـمـل أعــضــاء هيئة التدريس العاملني بتلك التخصصات، ألن هناك نقصًا في أعدادهم وحاجة ماسة الستمرارهم في ممارسة عملهم الجامعي، وقد أحسنت الدولة صنعًا باتخاذها قرارًا يقضي بتمديد تقاعد األطباء حتى سن السبعني، وهو ما يعكس حاجة الدولة الستمرار عمل هذه الفئة املميزة، ويدل أيضًا على اهتمام املسؤولني فـي أجـهـزة الـدولـة على التعامل على نـحـو مميز مــع مختلف فــئــات الـعـامـلـني بــهــا، وإدراكها لألهداف االستراتيجية للدولة والطرق املناسبة للوصول إليها من خالل أفضل الطرق النوعية التي تكفل ذلك. وفــي اعـتـقـادي أن األطــبــاء وأعــضــاء هيئة الـتـدريـس في التخصصات األخرى كالهما ثروة قومية، ونحن نتمنى أن يــســري هـــذا الــقــرار «تــمــديــد الـتـقـاعـد لـسـن السبعني» عــلــى جــمــيــع أعـــضـــاء هــيــئــة الـــتـــدريـــس، عــلــى أن يعهد لـوزارة التعليم -وبالتنسيق مع الجامعات- التمديد من عدمه وفقًا الحتياجات كل جامعة، ووفقًا لعدد آخر من املعايير، ولعل أهمها خطة الدولة اإلستراتيجية ومدى نـــدرة وتـمـيـز الـتـخـصـص األكــاديــمــي واإلســـهـــام العلمي الخاص بكل عضو من أعضاء هيئة التدريس. عــلــى الـــرغـــم مـــن أن الــنــظــام املــطــبــق حــالــيــًا فـــي املجتمع الـجـامـعـي يعطي الـحـق لبعض الـجـامـعـات فــي التعاقد -بــعــد ســن الــخــامــس والــســتــني- مــع مــن تـــرى نـفـسـهـا في حاجة للتعاقد معه من أعضاء هيئة التدريس، غير أن ذلــك األمـــر يـتـم فــي إطـــار ضـيـق ومــحــدود؛ حـيـث ال يحق للمتعاقد معهم أن يتبوأوا مناصب إداريــة «على سبيل املثال رئاسة األقسام العلمية وعمادة الكليات»، والكثير من أعضاء هيئة التدريس متميزون في النواحي اإلدارية مثلما هم متميزون في النواحي العلمية، والكثير منهم يمتلك خــبــرات إداريــــة مـتـراكـمـة، وبـالـتـالـي فـــإن حرمان الجامعات من هـذه الخبرات اإلداريـــة املتراكمة قد يؤثر سلبًا على املــدى البعيد، ومــن هنا فنحن نتمنى إعادة النظر في نظام التقاعد الخاص بأعضاء هيئة التدريس وإعـــادة هيكلته وتنظيمه بما يتوافق مـع رؤيــة ،2030 وبــمــا يـتـمـاشـى مــع الـحـقـبـة اإلصــالحــيــة الــجــديــدة التي تخوض غمارها اململكة بكل عزيمة وإصرار، وتحتل فيها املنظومة التعليمية ككل مكانة مميزة باعتبارها قاطرة التنمية، واملدخل الحضاري املرتقب للتقدم والتنمية في وطننا الغالي.