Okaz

البعد الفيزيائي في «تالشي» عصام فقيري

- جبريل السبعي

قــد يـعـبـر فــي الـقـصـيـد­ة بـحـركـة الــشــيء. والــحــرك­ــة املتخيلة إيـقـاعـهـ­ا، وسـرعـتـهـ­ا، واتجاهها، وتطابقها مع املضمون الفكري؛ كل ذلك تعبير. وإذا ما قرأنا قصيدة «تالشي» للشاعر عصام فقيري، في ديوانه الثاني «حجاب املرايا» وجدناها تعمد إلى تشكيل الحركة، بوصفها عنصرًا من عناصر الطبيعة، يركن إليها في التعبير عما يداخل النفس من رؤى، ومن أفكار. يقول الشاعر: تـسافر، قـل لـي: لـمن تـذهب … وقـــد خــانـك الـبـحـر والـمـركـب

نالحظ أن الحركة هنا - حركة السفر - أفقية، وتتم على السطح، لكن املركب والبحر يخونان الشاعر، وكان ينتظر أن يخلصا له، لكنهما خاناه، وعندئذ يقول: ِْ وكـيـف سـتـجتاز سـقف الـمدى … ومـــا زلـــت مــن قـعـره تـجـذب

أي مـادام البحر واملركب قد خاناك؛ إذن كيف ستقدر على الصعود إلى أمانيك؟ وكأن خيانة املكان (البحر) والوسيلة (املركب) هي السبب في عجز الشاعر عن التحرك إلى بغيته، أضف إلى ذلك أن هنالك قوة في قعر البحر، تجذب الشاعر إليها، وعليه فإنه يقف في موضع يتوسط قوتن اثنتن، إحداهما تعلوه، وتشده نحو األعلى، واألخــرى تقع أسفل منه، وتجذبه إليها أيضًا، ولعل وقوفه بن هاتن القوتن، هو ما يشعره بالثقل، وما يدفعه -من ثم- للقول: ‪َْ َُ َْ َُ َْ ََ‬ كــأنـك مــنـذ اقـتـرفـت الـرحـيل … تـعـاظـم فـــي خــطـوك الـمـهرب ‪ََ َُ ُِ َِ‬ فأصبحت ما بن يأسن تسعى … وروحــــــ­ك بـيـنـهـمـ­ا تــســحـب هـنـا أو هـنـاك تـساوت أمـانيك … مـــا عـــدت تــدري لـمـن تـوهـب

إن مأساة الشاعر تكمن في علوقه بن هاتن القوتن، حيث يحكم عليه - من جهة - بالتوقف، وينشأ في داخله - من جهة أخــرى - دافــع للبحث عن مخرج. وملـا طـال رزوحــه في كنف ذلك البحث املضني، أخذ يخاطب نفسه: ِْ أمــا زلــت تـبـحث عــن مـخرج … بـحـجـم انـتـظـارك يـــا مـتـعـب

ومما الشك فيه أن شاعرنا محمل باآلمال، وهو ال ينفك يحمل «ضياء» في راحتيه، ينير له الطريق، ولكن املكان من حوله إذ يشده في اتجاهن متعاكسن، ويتسبب في إبطال حركته، هذا املكان ال يبدو في ناظريه إال ضيقًا، وظالمًا من فوقه ظالم: ‪َّْ َُ َُ ََ ََ ََ‬ َِ وتـحـمـل فـــي راحـتـيك ضـيـاء … يــحــيــط بــأطــيـا­فـه غــيــهــب ‪َْ َْ َِ ًِ ُِ‬ وتــعـلـم أنــــك تــــزداد ضـيـقـا … فــضـاق بــك الـشـرق والـمـغرب

ومادام الوقوف - كما علمنا - على سطح البحر، إذن فمعاناة الشاعر إنما يقاسيها بـ «الشرب» من ماء هذا البحر، يضاف إلى هذا أن ظالل املكان تتمدد على مساحة اللغة الشعرية؛ فتبرز بعض املعاني، ذات العالقة بالبحر، كاالتساع، والعمق: ‪َْْ ُْ ٌَ ََ َُ ٌَّْ ََِ ََِ ََْ ُْْ ُْ َُ ََْ ََ‬ ‪ََ َُّ ََ ُِّ ََ‬ َََِ وقـد شـربت روحك اليأس حتى … تــنـامـى بــهــا شــبــح مــرعـب ‪ُِ ُِ ْْ‬ ِِ َْ سـتبقى بـرغم اتـساع األمـاني … يــعــانــ­دك الـــحــظ والــمـطـل­ـب َِ ويـسـكن عـمق انـحصارك فـأل … يـــطـــوف بــأفــالك­ــه كـــوكـــب

وهكذا رأينا كيف يعمد النص إلـى تشكيل الحركة األفقية، فيهيئ لها سطحا تتم عليه، ثم يبتكر لها قوتن تبطلها، إحداهما علوية طاقتها األحالم واألماني، واألخرى سفلية، تستمد قوتها من خيانة الظرف والوسيلة، ورأينا كيف أن الشاعر أرهقه اتساع املكان، وعمقه، وتساوي الـقـوى، وألــم الحصار، ورأيـنـاه كيف يبدو مثقال باليأس، والحيرة، وإن كـان في خضم هذه املعاناة أبدع نصًا محكم البناء.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia