الوجه اآلخر للتقشف!
تصلني في اآلونة األخيرة العديد من الرسائل التسويقية والعروض الترويجية على هاتفي الــخــلــوي، تتضمن اإلعــــالن عــن بـعـض السلع االستهالكية وغـيـر االستهالكية، وكنتيجة لـتـواتـرهـا على هاتفي لفتت انتباهي وبــدأت في تفقدها ببعض االهتمام بمرور الوقت، ولكن مع تفحصها انتابني شعور بأن الكثير من تلك العروض مبالغ فيه، إلى الدرجة التي وصلت فيها نسب الخصومات والتخفيضات إلى ما يقرب من 50 %، قررت تتبع األمر واستقصائه ألعرف مدى صحة هذه الخصومات من عدمها، فاتصلت بممثلي بعض الشركات التي أرسلت لي إعالنها وسألتها عن حقيقة الخصومات املعلنة في الرسائل التي وصلتني، فأجابوني بأنها حقيقية وصحيحة بالفعل. ما أثــار استغرابي واندهاشي نقطتني رئيسيتني: «األولى» أن بعضًا من هـذه املنتجات ليست سلعًا استهالكية توشك صالحيتها على االنتهاء، كونها متعلقة بمنتجات يسعى أصحابها للتخلص منها لتقليل الخسائر املتوقعة من عدم بيعها، كما أن املنشآت التي تقوم بتوفيرها ليست على وشك التصفية أو اإلفــالس، «الثانية» هو كيفية حــدوث مثل هذا االنخفاض الكبير فـي األسـعـار عـن ذي قبل، على الـرغـم من فرض ضريبة القيمة املضافة وارتفاع أسعار الوقود والعديد مـن الـخـدمـات األخـــرى كالكهرباء، مـع العلم بـأنـه مـن املؤكد أن التجار بعد معدالت الخفض الهائلة التي تصل إلى 50 % كما سبق وذكــرت، ال يمكن -بل ومن املستحيل- أن يقبلوا بـالـخـسـارة مــن األســــاس، ومــن املــؤكــد أنـهـم يحققون هامشًا مرضيًا من الربح، وبما يمكنهم أيضًا من البقاء في السوق على الرغم من شدة املنافسة مع الكيانات التجارية األخرى. الـتـفـسـيـر الــوحــيــد لــهــذه الــظــاهــرة الــتــي تــحــمــل الــكــثــيــر من التناقض، هو أنـه خـالل فترة الطفرة قـام الكثير من التجار باستغالل األوضاع املتيسرة وارتفاع القوة الشرائية للعديد من الفئات، األمر الذي دفعهم لرفع األسعار على نحو مبالغ فيه، وربما ساعدهم على ذلك ضعف الرقابة الصارمة على األسعار، وأيضًا وجود شريحة واسعة من املواطنني ال تبالي البتة بأسعار السلع والـخـدمـات مهما ارتفعت بـشـدة، األمر الـــذي شـكـل دافــعــًا قـويـًا أسـهـم فــي اســتــمــراء الـتـجـار لتسعير املنتجات على نحو يبعد كثيرًا عن تكلفتها الحقيقة. يخطئ البعض عندما يرى في ظاهرة االنكماش االقتصادي كل العيوب فحسب، فهناك وجه آخر لترشيد النفقات، وهو وجــه إيـجـابـي يتمثل فــي الـعـديـد مــن الــظــواهــر، لـعـل أهمها هو ظهور القيمة العادلة لكل سلعة أو خدمة، بما يسهم في استدامة واستقرار األوضــاع االقتصادية الداخلية باململكة في املقام األول واألخير، ولعلنا أصبحنا نالحظ أن الكثير مــن املــحــال الــتــجــاريــة غـــدت تـتـلـهـف عـلـى اسـتـقـبـال الزبائن نتيجة الــركــود فـي عمليات البيع، وهــو األمــر الــذي اختلف كثيرًا عن ذي قبل، عندما كـان هـؤالء يقابلون العمالء فيما سبق بأنفة دون اهتمام كبير بالحفاظ عليهم. من املؤكد أن الظواهر اإليجابية الصحية ألي وضـع جديد تبدأ في الظهور التدريجي، وال تظهر جميعها كدفعة واحدة، وحــتــى اآلن رغـــم اكــتــســاح ظــاهــرة الـتـخـفـيـضـات فــي السوق الـسـعـودي إال أن هناك بعض السلع التي ال يــزال موردوها يكابرون ويقاومون تخفيض سعرها، ولعل السبب وراء ذلك هو ازدياد الطلب عليها (مثل بعض السلع الغذائية كالدواجن ومنتجاتها على سبيل املــثــال)، ولكن لكل دورة اقتصادية أحكامها، واستمرار وتيرة الخفض وترشيد اإلنفاق من شأنه أن يطول جميع السلع واملنتجات والخدمات، ولكن على نحو متفاوت بطبيعة الحال، وخالل فترات زمنية مختلفة. الــقــطــاعــات االقــتــصــاديــة الــتــي تــأثــرت بــاالنــخــفــاض عديدة وبعضها شديد األهمية، ومـن أهـم تلك القطاعات الحيوية الـسـوق الـعـقـاري؛ حيث ملسنا مـؤخـرًا انخفاض سعر بعض األراضـــــــي، وانــخــفــاض أســـعـــار إيــــجــــارات بــعــض العقارات، وانخفاض أسعار مواد البناء أيضًا، وهو األمر الذي سيسهم بالتدريج في حل مشكلة ارتفاع اإليجارات واملساكن ويحقق وفــرة فيها تـعـود بالخير والـنـفـع على الجميع، وهــو األمر الـذي يعني أن قـدرًا معقوال من االنكماش وترشيد النفقات يعني استقرارًا وثباتًا أكثر للسوق، وهو ما يسهم في النهاية في أن تعود القيم العادلة للمنتجات والخدمات لوضعها الطبيعي، تمهيدًا لبدء دورة اقتصادية جديدة قائمة على مصروفات رشيدة وأسعار مقبولة من الجميع.