هل سيتغير نظام التجارة احلرة في العالم؟
قبل 30 عاما كنت من ضمن املروجني لفكرة الــتــجــارة الــحــرة واالقــتــصــاد الــحــر وإزالة الــحــواجــز الـجـمـركـيـة وبــنــاء ســوق موحد تتنقل بينها السلع بعيدا عــن الـضـوابـط الجمركية، وكنت من املؤيدين بشدة لالنضمام إلى منظمة التجارة العاملية وهي املنظمة التي نادت بها الواليات املتحدة صاحبة الفكرة في تحرير التجارة من قيود الجمارك املتباينة الـتـي كـانـت تفرضها بـعـض الـــدول لحماية منتجاتها املحلية وظلت أمريكا تروج لالنضمام لهذه املنظمة سنوات طويلة، وبعد اتفاق الـدول الصناعية الكبرى على االنـضـمـام، وبعد تهديد وتحفيز الدول الكبرى للدول النامية لالنضمام إلى عضوية منظمة التجارة الدولية، وبعد إجراء ات طويلة اتخذتها الدول بـعـد مــوافــقــة بــرملــانــات الــــدول الـنـامـيـة رغـــم معارضة املصنعني املحليني خوفا من املنافسة بالسعر والجودة من بعض الدول الصناعية، إال أن القرار تم اتخاذه من قبل القياديني والبرملانات ومجالس الـشـورى تمشيا مع ما تقتضيه املصلحة العامة توقعا أن تعود الفائدة عـلـى الـجـمـيـع حـتـى لــو تــضــرر الـبـعـض مــؤقــتــا، وهذا يعني فتح األسواق واألعمال والخدمات أمام الشركات العاملية والصادرات العاملية لألسواق الناشئة، وتغيرت أنظمة الجمارك وأنشئت بنوك دعم الصادرات، وتفاعل الجميع مع األنظمة العاملية الجديدة لتبادل التجارة، وكانت أمريكا من أكبر املستفيدين ثم الصني واالتحاد األوروبــي واليابان، حيث انتشرت صناعاتهم وغزت األســواق العاملية وأصبحت الــدول الصناعية الكبرى تنافس بعضها بنفس األسواق. إال أن تــهــديــد الــرئــيــس األمــريــكــي مــؤخــرا بانسحاب بـالده من عضوية منظمة التجارة العاملية واتهامها بـــعـــدم الــحــيــاديــة ألنـــهـــا تــعــمــل ملــصــلــحــة الـــصـــني ضد الواليات املتحدة خالل السنوات املاضية، كانت صدمة قــويــة ألعــضــاء منظمة الــتــجــارة الـعـاملـيـة وعــلــى وجه الخصوص أعـضـاء الــدول النامية والـتـي بــدأت تنمي صادراتها لألسواق األمريكية. ونتيجة خالف بني قطبي التجارة العاملية في املنظمة (أمريكا والـصـني) صــدرت التهديدات وقــرر العضوان إجـــراءات حمائية ملنتجاتهما وصلت إلــى مستويات تؤثر على النمو االقتصادي للطرفني وإن كانت الصني ستتأثر أكثر ألن صادراتها استطاعت أن تغزو السوق األمريكية. والــحــقــيــقــة لـــم تــســتــوعــب أمـــريـــكـــا أن خـــارطـــة القوى االقـــتـــصـــاديـــة فـــي الــعــالــم تــغــيــرت وأصــبــحــت الصني تـنـافـس عـلـى املــقــدمــة واالتـــحـــاد األوروبـــــي يـمـثـل قوة ضــاربــة وعــلــى رأســـه أملــانــيــا وفـــي آســيــا الــيــابــان الذي أصبح قـوى اقتصادية لها تأثير ونفوذ في األسواق العاملية، وعليه لن تستطيع أمريكا أن تفرض قوتها االقتصادية عليهم، وأجزم أن خروج الواليات املتحدة من منظمة التجارة العاملية لن يؤدي إلى وقف نشاط املنظمة أو تحجيم عملها وسيتضامن بقية األعضاء الستمرار املنظمة رغم أن إجمالي التجارة الخارجية للواليات املتحدة مع العالم بلغ العام املاضي م2017 نـــحـــو8,3 تــريــلــيــون دوالر بــصــافــي عــجــز 796 مليار دوالر وتمثل التجارة الخارجية ألمريكا نسبة %13 من إجمالي التجارة العاملية، وبلغت قيمة إجمالي التجارة العاملية في النصف األول من هذا العام م2018 )2,06( تريليون دوالر، وبعجز 404 مليارات دوالر. وتساهم الواليات املتحدة بنحو %23 من الناتج املحلي العاملي، وإذا اتخذت الواليات املتحدة قرار االنسحاب فإنها ستجد نفسها أمام تكتالت جديدة تكون خريطة جديدة لتعامالتها التجارية مع بعض الدول األعضاء فــي املـنـظـمـة، وســتــواجــه منتجاتها رســومــا جمركية جــديــدة، وعــوائــق إداريـــــة أكــبــر وسـيـتـأثـر فــي النهاية املستهلكون وقــد يقلعون عـن شــراء السلع املكلفة إلى السلع البديلة والصني هي البديل وغيرها. والـحـقـيـقـة ال أتــصــور أن هـــذا االتــجــاه فــي االنسحاب يـتـمـاشـى مــع خــطــط أمــريــكــا الــتــي وضــعــت فــي بداية التسعينات على أساس االقتصاد املفتوح وعلى حرية الــتــجــارة، وأخــشــى أن هــذا اإلجــــراء سيكلف االقتصاد األمـــريـــكـــي تـــعـــويـــضـــات ضــخــمــة تــدفــعــهــا الحكومة األمريكية للمتضررين من املصدرين األمريكان مثل ما دفعته مؤخرا حوالى 5 مليارات دوالر نتيجة الرسوم الجمركية املرتفعة التي رفعتها الصني على صادرات املــــزارعــــني األمـــريـــكـــان كــــرد فــعــل عــلــى رفــــع الجمارك األمــريــكــيــة عــلــى الـــصـــادرات الـصـيـنـيـة، حــيــث فرضت الواليات املتحدة رسوما جمركية على واردات صينية بقيمة 50 مـلـيـار دوالر سـنـويـا، وفــي املـقـابـل فرضت الصني رسوما جمركية إضافية بنسبة %25 على 128 سلعة مــن الــــواردات األمـريـكـيـة بقيمة نحو 16 مليار دوالر وهو األمر الذي أثار جدال عامليا كبيرا إذ اعتبره الكثير بمثابة إعالن رسمي لبدء حرب تجارية عاملية، مـمـا أحـــدث حـالـة مــن االرتــبــاك والـتـوتـر عـلـى مستوى كبار املصنعني أو على مستوى األسواق العاملية.