انتخابات الكونغرس: قيم وحركة فصل السلطات
من أهم إسهامات النظام الرئاسي في النظرية واملمارسة السياسية، التأكيد على محدودية حــــركــــة الــســلــطــة وضـــعـــفـــهـــا، تــــجــــاه حريات وحقوق الفرد. لم تعد مشكلة النظرية واملمارسة السياسية، فــي ضــمــان رشــــد الــحــكــومــة وعــقــالنــيــة مــؤســســات الدولة، يــوم ظـهـور أول دسـتـور مكتوب ومـتـواتـر األخــذ بــه، حتى اآلن، فحسب.. بل إن الحاجة كانت: إيجاد حكومة تتوفر للمجتمع من خاللها، ومن ذاتية حركتها، آليات وضوابط عملية لضمان عـدم انحراف السلطة عن مسارها املرسوم لــهــا. مــن ثــــم كـــان الــحــل فــي صـيـغـة الـفـصـل بــن السلطات تفصيليًا فــي الــدســتــور األمــريــكــي ..)1784( وســرعــان ما ألحقت به وثيقة الحريات .)179( من هنا شاعت في أدبيات علم السياسة، مقولة: الحكومة الـضـعـيـفـة هــي أفــضــل أنـــــواع الــحــكــومــات! الـضـعـيـفـة هنا بمعنى: ضعيفة في مواجهة حقوق األفــراد وحرياتهم، ال باملعنى التقليدي الشائع، بما يعكس بطشها وجبروتها وسطوتها، في حركتها الداخلية والخارجية. كـان الحل، إذن: فـي «تشتيت» السلطة، وإضــعــاف إمـكـانـات التعاون واالنـسـجـام بـن رمـوزهـا ومؤسساتها، وليس بالضرورة انـــعـــدام الــتــكــامــل بــيــنــهــم، مـــن أجــــل الــحــفــاظ عــلــى الغاية األساسية من وجود كيان الدولة نفسه، في االتحاد والقوة واملــنــعــة وإمــكــانــات واالســـتـــمـــرار والــتــقــدم، بـتـوكـيـد مبدأ السيادة للشعب. مــشــكــلــة الـــنـــظـــام الـــبـــرملـــانـــي الــــــذي أتــــت بـــه نــظــريــة العقد االجتماعي الليبرالية، كانت فـي خلِقِه ملؤسسة سياسية واحدة، تنبثق عنها السلطات األخرى. في النظام البرملاني، تنعكس إرادة الناس، في إيجاد البرملان الذي من الناحية النظرية، مخول بممارسة السلطة التنفيذية. في املقابل: الــنــظــام الــرئــاســي؛ املــواطــنــون يـنـتـخـبـون أعــضــاء السلطة الــتــشــريــعــيــة (الــكــونــغــرس بـمـجـلـسـيـه) ويــنــتــخــبــون رأس السلطة التنفيذية (رئيس الجمهورية). هنا يتحقق الفصل بن السلطتن عضويًا.. وما يترتب على ذلك من مساواة في القوة السياسية، عكس ما هو الحال في النظام البرملاني. لــــم يــكــتــف الـــنـــظـــام الـــرئـــاســـي بــخــلــق واقــــــع تــشــتــيــت قيم السلطة وحركتها، بن السلطتن الرئيسيتن (التشريعية والتنفيذية)، بـل إنــه لـم يستبعد الــصــراع بينها، تمكينًا لسطوة اإلرادة الـعـامـة، على مـؤسـسـات الــدولــة ورموزها. لــقــد أدخــــل الــنــظــام الــرئــاســي تـمـثـيـل أقــالــيــم الـــدولـــة، ولم يكتف بتمثيل السكان فقط. الكونغرس األمريكي يتكون من غرفتن عليا (مجلس الشيوخ) يمثل الـواليـات ودنيا (مــجــلــس الـــنـــواب) يـمـثـل الــســكــان، مــع تـقـسـيـم صالحيات السلطة التشريعية، في سن القوانن والرقابة على السلطة التنفيذية، على الغرفتن. كل ذلك في سبيل تحقيق الهدف اإلستراتيجي األسمى من وجود السلطة، بجعلها مشتتة، كأفضل ضمانة عملية للحؤول دون ميلها لالستبداد، ومن ثم احتمال إضرارها بحقوق املواطنن وحرياتهم.. مع ربط شرعية الحكومة نفسها، باإلرادة العامة للناس. يوم الثالثاء املاضي أجريت في الواليات املتحدة انتخابات الكونغرس النصفية، التي أتـت بكونغرس مختلف، يبدأ عمله في الثالث من يناير القادم، عن ذلك الـذي تشكل في بداية الفترة الرئاسية األولى للرئيس ترمب يناير .)2016( بالقطع لــن نــرى تــواتــرًا ال فــي سـلـوك وال فــي تـوجـه إدارة الـرئـيـس تــرمــب، فــي فـتـرة السنتن الـقـادمـتـن مــن واليته، كما كان في فترة السنتن األولين. الرئيس ترمب، ستحكم إدارتــه في ظل كونغرس نصف معاد بعد أن كانت تحكم طوال السنتن املاضيتن بكونغرس صديق. كما أن هناك ملفات عالقة، فـي قضايا داخلية وذات عالقة بالسياسة الخارجية، كان يتحكم في عدم فتحها حقيقة تمتع إدارة الــرئــيــس تــرمــب، بـاألغـلـبـيـة فــي غــرفــتــي الــكــونــغــرس، قبل انتخابات الكونغرس النصفية األخيرة. مـن أهــم القضايا الداخلية ذات العالقة بمصير استمرار والية ترمب، وكانت تسبب أرقًا، وجاء ت نتيجة االنتخابات بما يزيد من حدة هذا األرق: التحقيقات في شبهة تواطؤ الفريق املكلف بــإدارة حملة االنتخابات الرئاسية للحزب الجمهوري 2016 مع الروس في التالعب بتلك االنتخابات، الــتــي يــقــوم بــهــا املــحــقــق الــعــدلــي الــخــاص املــعــن مــن قبل الكونغرس (روبـــرت مــولــر). صحيح أن محاكمة الرئيس ترمب تمهيد لعزله، تتم في مجلس الشيوخ، حيث يتمتع حزب الرئيس باألغلبية فيه، إال أن النقاش حول الدعوى ورفعها، تتم إجراءاته في مجلس النواب، حيث فقد حزب الـرئـيـس األغـلـبـيـة فـيـه. ويـبـقـى مــن الـصـعـب عـلـى الرئيس وإدارتـــه تجاهل مـا قـد تتوصل إليه لجنة مـولـر، اعتمادًا فقط على أغلبية الحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ. إدارة الرئيس ترمب ستواجه صعوبة حقيقية في مواجهة كونغرس نصف معاد، غير ما كان عليه األمر في فترتها األولـــى. هــذا يكفي وحــده لتفسير سبب قلق الرئيس قبل إجراء تلك االنتخابات.. وازدياد توتره من نتيجتها.