كذب أنقرة وفشل أردوغان في باريس
أراد الرئيس التركي رجــب طيب أردوغان أن يـجـعـل مــن احــتــفــاالت فـرنـسـا بالذكرى املــئــويــة لــنــهــايــة الـــحـــرب الــعــاملــيــة األولــــى منصة للهجوم على اململكة العربية الـسـعـوديـة، لذلك استبق زيارته إلى باريس بحملة إعالمية أشارت إلى أن اجتماعات باريس سوف تكون فارقة في الضغط على اململكة، وأنه سوف يصوغ موقفًا دوليًا معاديًا للمملكة وضاغطًا عليها. وفي الطريق إلى باريس كان ال بد من وجهة نظر أردوغــان وحكومته أن تهيئ األرضية لكي تتلقى الـــدول خطابه ورغـبـتـه بـالـتـرحـاب، فـكـان العمل على قدم وساق في محاولة التأثير على الرأي العام في الواليات املتحدة األمريكية، من خالل سياسة التسريبات التي في كثير من األحيان ال تضيف شيئًا إلـى الرواية التركية ملا حدث للمرحوم جمال خاشقجي ولكن الهدف هو إبقاء القضية مثار اهتمام على الساحة اإلعالمية مما يمثل ضغطًا على اإلدارة األمريكية، ووصــل األمر أن يتولى الرئيس التركي أردوغان بنفسه مهمة التأثير على الــرأي العام األمريكي، فنشر مقاال خاصًا به على صفحات جريدة الواشنطن بوست. اعتقد أردوغـــان أن الوقت قد حان في باريس ليقطف موافقة أمريكية على سياسة أردوغان بعد كل هذا الجهد اإلعالمي والسياسي الــذي مــورس خــالل األسابيع القليلة املاضية. ولكن لم تجر الرياح األمريكية بما تشتهي السفن األردوغانية؛ فالرئيس األمريكي دونالد ترمب رفض أن يكون هناك اجتماع خاص مع الرئيس التركي، ولحفظ ماء الوجه تمت املوافقة على اللقاء على هامش العشاء الذي أقامه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للزعماء املشاركني فــي االحـتـفـالـيـة. األهـــم مــن تـلـك الـشـكـلـيـات أن البيانات الصادرة عن البيت األبيض وكذلك ما صدر عن الجانب الـتـركـي تشير إلــى أن املــوقــف األمــريــكــي لــم يتغير قيد أنملة وأن الرئيس التركي فشل في دفع الواليات املتحدة التـــخـــاذ مـــواقـــف أكــثــر سـلـبـيـة اتـــجـــاه املــمــلــكــة العربية السعودية. هذا الفشل التركي مع الواليات املتحدة األمريكية ترافق مـع فشل آخــر، الرئيس التركي لـم ينجح بالتأثير على مواقف الـدول الغربية األخــرى، حتى رئيس وزراء كندا الذي كانت لديه مواقف أكثر سلبية اتجاه اململكة، ولدى محاولة وسائل إعالمية انتزاع مواقف إعالمية من خالل املؤتمر الصحفي الذي أجراه، كانت كلماته دبلوماسية ولم يختلف عن املواقف السابقة لكندا. أما على صعيد الدول األوروبية فإن املوقف مثل خيبة أمل أكبر للرئيس الـتـركـي، فبينما اجتماع بـاريـس لـم ينفض بعد، اتجه وزير خارجية اململكة املتحدة جيرمي هانت إلى الرياض ملقابلة كبار املسؤولني السعوديني، وعلى رأسهم خادم الحرمني الشريفني امللك سلمان بـن عبدالعزيز وكذلك ولـي العهد األمير محمد بن سلمان. والحقيقة أن هذه الـــزيـــارة كـــان لـهـا أن تــكــون حــدثــًا عــاديــًا، خـصـوصـًا أن العالقات ما بني اململكة والجانب البريطاني هي عالقات عميقة وتاريخية ومتشعبة، ولكن التوقيت لـه أهمية استثنائية ويشير إلى أن تركيا فشلت في تغيير املوقف البريطاني، خصوصًا أن العمل على الساحة البريطانية ضد اململكة وتشويه صورتها لم يتوقف، سواء من خالل وسـائـل اإلعـــالم املـوالـيـة لتركيا أو مـن خــالل املؤسسات والجمعيات التابعة لجماعة اإلخوان املسلمني. ومع ذلك فإن املوقف البريطاني وجه رسالة للجميع وعلى رأسهم الـجـانـب الـتـركـي بــأن الــعــالقــات مــع املـمـلـكـة مـتـيـنـة، وال يمكن أن تكون بريطانيا جزءًا من أي لعبة سياسية يريد أردوغان أن يمررها للضغط على الجانب السعودي. "نـحـن لــم نستلم أي تـســجــيــالت.... إذن الـرئـيـس التركي يــــكــــذب؟.... إنـــه يــمــارس لـعـبـة ســيــاســيــة". هـــذه الكلمات بعض مما جاء في لقاء وزيـر الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان أثناء لقاء تلفزيوني على هامش منتدى بـاريـس لـلـسـالم. وفــي الـوقـت نفسه اسـتـمـرت فرنسا في مــواقــفــهــا الــتــي تــريــد كــشــف الـحـقـيـقـة فــي قـضـيـة مقتل جــمــال خـاشـقـجـي، ولكنها فــي الــوقــت نفسه تــرفــض أن يتم االستغالل السياسي واإلعالمي لهذه القضية، تريد باريس أن تتم معالجة هذه القضية من الناحية الجنائية والقانونية، وهذا ما عبر عنه املسؤولون الفرنسيون في أكثر من مناسبة. وعندما شعرت باريس أن أملانيا تريد استغالل هذه القضية وبدأت الحديث عن توريد السالح للمملكة، وصــف الرئيس مـاكـرون تصريحات نظيرته األملـانـيـة ميركل بأنها ديماغوجية وشعبوية. ورفض أن يلزم نفسه بأي حديث عن عقوبات أيـًا كانت نتيجة التحقيقات الجنائية في قضية خاشقجي. أراد أردوغــان أن يشكل جبهة دولية تستجيب للضغط اإلعالمي واالبتزاز السياسي الذي مارسه خالل األسابيع املاضية على اململكة العربية السعودية، وأراد أن يجعل مــن احـتـفـالـيـة بــاريــس واالجــتــمــاعــات الــتــي جـــرت على هــامــشــهــا مــرحــلــة الــــــذروة فـــي هـــذا االبـــتـــزاز السياسي. ولكن األمر جاء مناقضًا تمامًا لرغبات السيد أردوغان. تلك السياسة التي أتبعتها اإلدارة التركية لم تـؤد إلى تحقيق أي مـن أهــداف أردوغـــان ســوى فـي زيــادة الهوة الـتـي تفصل بينه وبــني اململكة. أمــا الــزيــارات املتعددة ملسؤولني من دول وازنة على املسرح الدولي فهي تشير إلى محورية اململكة وأهميتها، وعلى الذين يعتقدون أن الضغط اإلعالمي واالبتزاز السياسي يمكن أن ينال من هذه الدولة فهم واهمون وحاملون.