العوملة االقتصادية.. هل هي على وشك االنهيار؟.. وكيف تنجو من العواصف؟
باألرقام، وعبر العقود التي مرت على سيطرة مفهوم العوملة، فإن أداء االقتصاد العاملي قد
ا، من حيث حرية حركة التجارة في السلع، وعوامل اإلنتاج، مع إزالة العديد من العوائق التي تقف في طريقها؛ فانعكس ذلـك على اتساع نطاق املنافسة العاملية وتأثيرها على أسعار السلع والخدمات املتداولة عامليا. لكن مع تسلم الرئيس األمريكي ترمب مقاليد الحكم، قبل سنتني، أخذت حركة العوملة تشهد عددا من مفاجآته التي ظلت تعترض طريقها، بل وتعمد إلى هدمها، في كثير من القطاعات والعالقات االقتصادية بني الدول. فـقـد تـــم إلــغــاء عـضـويـة الـــواليـــات املــتــحــدة فــي كـثـيـر من االتفاقيات التجارية الدولية، انطالقا من مبدأين؛ األول: أن هذه االتفاقيات لم تكن عادلة؛ فقد جاءت على حساب مصالح الواليات املتحدة وتشغيل عمالتها، مما نتج عنه تحملها لعبء أكبر بكثير مـن النصيب الــعــادل. واملبدأ الثاني، أنــه مـن اآلن فصاعدا لـن تقبل الـواليـات املتحدة املـجـامـلـة حـــول إعــــادة الــتــفــاوض عـلـى هـــذه االتفاقيات؛ انطالقا من مبدأ «أمريكا أوال»، وهو مبدأ يقتضي عدم القبول باستمرار العجز في ميزانها التجاري مع مختلف الدول، وبشكل كبير ومستدام. ولــم تقتصر خـطـوات الرئيس تـرمـب التصحيحية على إلغاء مختلف االتفاقيات الدولية، بل واتـجـه أيضا إلى فـــرض رســــوم جــمــركــيــة عــلــى الــعــديــد مـــن الــســلــع، بدأها بالصلب واألملـونـيـوم. وركــز في حربه التجارية القائمة
ــا، عـلـى الــصــني بـالـتـحـديـد، وهــي الـشـريـك الرئيس
ا ومستقبال. وسبق كل ذلك انسحابه من اتفاق باريس للمناخ ــ وهو «اتــفــاق طــاقــة» ال صـلـة لــه بتغير املــنــاخ الطبيعي الذي حدث عبر ماليني السنني، وسيظل يحدث دون أن يكون للنشاط اإلنساني أي دور في حدوثه ــ، فأدى انسحابه منه إلى تردي عالقات أمريكا بدول االتحاد األوروبــي، وهي الدول التي احتضنت هذا االتفاق؛ لتحقق تقليصا كبيرا في وارداتها النفطية، تحت غطاء الوقود األحفوري، ذلك الزعم الـذي ال تكف عن ترديده في مختلف االجتماعات الخاصة بهذا االتفاق. وبمتابعتنا ملا صدر عن الرئيس ماكرون األحد املاضي (قبل يومني) في باريس بحضور مختلف قـادة العالم ــ في ذكرى مرور مائة عام على قيام الحرب العاملية األولى ــــ، بــأن ملــح إلــى غضبه مـن أمريكا، وقــال: «إن املجتمعات التي تعزل نفسها عن العالم، مقدمة مفاهيم الوطنية على العوملة، فإنها تعمل ضد القيم واألخالق». سـيـاسـة الــرئــيــس تــرمــب الــتــي تــقــوم عـلـى مــبــدأ «العصا والـــجـــزرة» تـعـمـل فــي صـالـحـه بـشـكـل جــيــد. ولــكــن، لوال ضــخــامــة االقـــتـــصـــاد األمــــريــــكــــي، وتـــأثـــيـــره الــــقــــوي في الـعـالقـات الـدولـيـة، ملـا كــان بـمـقـدور أمـريـكـا، أو بمقدور أيـة دولـة أخـرى أن تتبع نهج ترمب؛ فهو يهدد بإلغائه لـالتـفـاقـيـات وفـــرض قــيــود ورســــوم جـمـركـيـة، ثـــم يلوح بالجزرة الستقطاب مختلف الدول إلى إعادة التفاوض حول ما يعتبره اتفاقيات غير عادلة. ويبدو أنـه ــ وإلى اآلن على األقـل ــ قد نجح في نهجه هـذا؛ فقد رأينا كيف تــمــت إعـــــادة الــتــفــاوض عــلــى اتــفــاقــيــة «نــافــثــا»، وتضم إضــافــة إلــى الــواليــات املـتـحـدة كـــال مــن املـكـسـيـك وكندا، وكيف تسابقت هاتان الدولتان إلـى طاولة املفاوضات كي ال تخسرا تجارتهما مع االقتصاد األول في العالم، االقتصاد األمريكي. وهـو (تـرمـب) أيضا مــن طالب بإصالح منظمة التجارة العاملية؛ وإال فسينسحب منها. ونــرى هـذه األيــام حراك دول االتحاد األوروبي نحو إعادة التفاوض على اتفاقية املنظمة لتجاري الكثير من التطورات العاملية. ال أحد بإمكانه القول إن النظام االقتصادي العاملي القائم
ا نظام عــادل للدول النامية؛ فما زالــت الفجوة بني العاملني، املتقدم والنامي، في اتـسـاع ومـا زالــت املكاسب من تحرير التجارة تصب في صالح الدول املتقدمة، ليس فقط بسبب عـدم عدالة العوملة القائمة، بل أيضا بسبب عوامل هيكلية في الــدول النامية وبسبب الفساد وسوء اإلدارة. وإعادة التفاوض على العديد من االتفاقيات االقتصادية الــدولــيــة، هــو مــن جـهـة ينقذ الـعـوملـة مــن االنــهــيــار، ومن جهة أخرى يعطي الدول النامية فرصة ذهبية الستعادة الكثير مما فقدته حـني تفاوضت على السابق مـن هذه االتــفــاقــيــات. وال عـــذر لــدولــنــا الـنـامـيـة إن لــم تـتـمـكـن من تحقيق ذلك، خاصة في ظل انكشاف مواقف وفود العديد منها، وكيف أنهم قد غلبوا املصالح الخاصة على مصالح أوطـانـهـم، بتلقي بعضهم لـلـرشـاوى بمختلف أنواعها، وبـجـهـل الـبـعـض اآلخـــر بـمـبـادئ الــتــفــاوض الــدولــي، مع عدم استمرارية مشاركة نفس املفاوضني في االجتماعات الدولية. أكـثـر الـــدول انـزعـاجـا مـن الـسـيـاسـات الـتـجـاريـة الحديثة للواليات املتحدة، هي دول االتـحـاد األوروبـــي؛ فهي في حالة ارتباك قصوى، وتتطلع إلى اليوم الذي ينزاح فيه الــرئــيــس الــكــابــوس (تـــرمـــب) مــن الــرئــاســة؛ بـسـبـب عديد املصائب التي توالت عليها نتيجة لسياساته منذ توليه الرئاسة. وتهادن تلك الدول في الوقت الحالي، مع تبنيها ضغوطا رسمية وغير رسمية هدفها: أ- الـــدفـــع، مـــن خـــالل حــضــورهــا الـــقـــوي داخــــل الواليات املتحدة، بمساعدة من يريد عزل الرئيس فورا. ب - دعم التيار املناهض له وتضييق فرصة فوزه بفترة رئاسية ثانية. ج -عــــقــــدهــــم األمــــــــل عـــلـــى الــــكــــونــــجــــرس ذي األغلبية الديموقراطية. وعــلــى الـــرغـــم مـــن بـصـيـص األمــــل الــــذي يـــــــراود االتحاد األوروبـــــي بــإزاحــة الـرئـيـس تــرمــب، أو عــدم الـتـجـديـد له، إال أنـه من املستبعد تحقق أي من األمـريـن؛ ما دام األداء االقــتــصــادي األمــريــكــي يـسـجـل نــمــوا غـيـر مــســبــوق، وما استمر انخفاض معدالت البطالة إلى أقل من ،)%4( وهي نسبة غير مسبوقة. وختاما، نقول إن املرحلة الحالية من العوملة االقتصادية تــعــد مــرحــلــة تصحيحية بــالــدرجــة األولــــى، وفــرصــة لن تـتـكـرر لــلــدول الـنـامـيـة إلحــــداث تــــوازن نسبي فــي ميزان املزايا والخسائر املترتبة عليها. وعلينا دعم هذا االتجاه، لنستعيد مقعدنا فــي مـركـب الـعـوملـة قبل أن نفقده إلى األبد.