Okaz

العوملة االقتصادية.. هل هي على وشك االنهيار؟.. وكيف تنجو من العواصف؟

- د. محمد سالم سرور الصبان * @sabbanms * كاتب سعودي

باألرقام، وعبر العقود التي مرت على سيطرة مفهوم العوملة، فإن أداء االقتصاد العاملي قد

ا، من حيث حرية حركة التجارة في السلع، وعوامل اإلنتاج، مع إزالة العديد من العوائق التي تقف في طريقها؛ فانعكس ذلـك على اتساع نطاق املنافسة العاملية وتأثيرها على أسعار السلع والخدمات املتداولة عامليا. لكن مع تسلم الرئيس األمريكي ترمب مقاليد الحكم، قبل سنتني، أخذت حركة العوملة تشهد عددا من مفاجآته التي ظلت تعترض طريقها، بل وتعمد إلى هدمها، في كثير من القطاعات والعالقات االقتصادية بني الدول. فـقـد تـــم إلــغــاء عـضـويـة الـــواليـ­ــات املــتــحـ­ـدة فــي كـثـيـر من االتفاقيات التجارية الدولية، انطالقا من مبدأين؛ األول: أن هذه االتفاقيات لم تكن عادلة؛ فقد جاءت على حساب مصالح الواليات املتحدة وتشغيل عمالتها، مما نتج عنه تحملها لعبء أكبر بكثير مـن النصيب الــعــادل. واملبدأ الثاني، أنــه مـن اآلن فصاعدا لـن تقبل الـواليـات املتحدة املـجـامـل­ـة حـــول إعــــادة الــتــفــ­اوض عـلـى هـــذه االتفاقيات؛ انطالقا من مبدأ «أمريكا أوال»، وهو مبدأ يقتضي عدم القبول باستمرار العجز في ميزانها التجاري مع مختلف الدول، وبشكل كبير ومستدام. ولــم تقتصر خـطـوات الرئيس تـرمـب التصحيحية على إلغاء مختلف االتفاقيات الدولية، بل واتـجـه أيضا إلى فـــرض رســــوم جــمــركــ­يــة عــلــى الــعــديـ­ـد مـــن الــســلــ­ع، بدأها بالصلب واألملـونـ­يـوم. وركــز في حربه التجارية القائمة

ــا، عـلـى الــصــني بـالـتـحـد­يـد، وهــي الـشـريـك الرئيس

ا ومستقبال. وسبق كل ذلك انسحابه من اتفاق باريس للمناخ ــ وهو «اتــفــاق طــاقــة» ال صـلـة لــه بتغير املــنــاخ الطبيعي الذي حدث عبر ماليني السنني، وسيظل يحدث دون أن يكون للنشاط اإلنساني أي دور في حدوثه ــ، فأدى انسحابه منه إلى تردي عالقات أمريكا بدول االتحاد األوروبــي، وهي الدول التي احتضنت هذا االتفاق؛ لتحقق تقليصا كبيرا في وارداتها النفطية، تحت غطاء الوقود األحفوري، ذلك الزعم الـذي ال تكف عن ترديده في مختلف االجتماعات الخاصة بهذا االتفاق. وبمتابعتنا ملا صدر عن الرئيس ماكرون األحد املاضي (قبل يومني) في باريس بحضور مختلف قـادة العالم ــ في ذكرى مرور مائة عام على قيام الحرب العاملية األولى ــــ، بــأن ملــح إلــى غضبه مـن أمريكا، وقــال: «إن املجتمعات التي تعزل نفسها عن العالم، مقدمة مفاهيم الوطنية على العوملة، فإنها تعمل ضد القيم واألخالق». سـيـاسـة الــرئــيـ­ـس تــرمــب الــتــي تــقــوم عـلـى مــبــدأ «العصا والـــجـــ­زرة» تـعـمـل فــي صـالـحـه بـشـكـل جــيــد. ولــكــن، لوال ضــخــامــ­ة االقـــتــ­ـصـــاد األمــــري­ــــكــــي، وتـــأثـــ­يـــره الــــقـــ­ـوي في الـعـالقـا­ت الـدولـيـة، ملـا كــان بـمـقـدور أمـريـكـا، أو بمقدور أيـة دولـة أخـرى أن تتبع نهج ترمب؛ فهو يهدد بإلغائه لـالتـفـاق­ـيـات وفـــرض قــيــود ورســــوم جـمـركـيـة، ثـــم يلوح بالجزرة الستقطاب مختلف الدول إلى إعادة التفاوض حول ما يعتبره اتفاقيات غير عادلة. ويبدو أنـه ــ وإلى اآلن على األقـل ــ قد نجح في نهجه هـذا؛ فقد رأينا كيف تــمــت إعـــــادة الــتــفــ­اوض عــلــى اتــفــاقـ­ـيــة «نــافــثــ­ا»، وتضم إضــافــة إلــى الــواليــ­ات املـتـحـدة كـــال مــن املـكـسـيـ­ك وكندا، وكيف تسابقت هاتان الدولتان إلـى طاولة املفاوضات كي ال تخسرا تجارتهما مع االقتصاد األول في العالم، االقتصاد األمريكي. وهـو (تـرمـب) أيضا مــن طالب بإصالح منظمة التجارة العاملية؛ وإال فسينسحب منها. ونــرى هـذه األيــام حراك دول االتحاد األوروبي نحو إعادة التفاوض على اتفاقية املنظمة لتجاري الكثير من التطورات العاملية. ال أحد بإمكانه القول إن النظام االقتصادي العاملي القائم

ا نظام عــادل للدول النامية؛ فما زالــت الفجوة بني العاملني، املتقدم والنامي، في اتـسـاع ومـا زالــت املكاسب من تحرير التجارة تصب في صالح الدول املتقدمة، ليس فقط بسبب عـدم عدالة العوملة القائمة، بل أيضا بسبب عوامل هيكلية في الــدول النامية وبسبب الفساد وسوء اإلدارة. وإعادة التفاوض على العديد من االتفاقيات االقتصادية الــدولــي­ــة، هــو مــن جـهـة ينقذ الـعـوملـة مــن االنــهــي­ــار، ومن جهة أخرى يعطي الدول النامية فرصة ذهبية الستعادة الكثير مما فقدته حـني تفاوضت على السابق مـن هذه االتــفــا­قــيــات. وال عـــذر لــدولــنـ­ـا الـنـامـيـ­ة إن لــم تـتـمـكـن من تحقيق ذلك، خاصة في ظل انكشاف مواقف وفود العديد منها، وكيف أنهم قد غلبوا املصالح الخاصة على مصالح أوطـانـهـم، بتلقي بعضهم لـلـرشـاوى بمختلف أنواعها، وبـجـهـل الـبـعـض اآلخـــر بـمـبـادئ الــتــفــ­اوض الــدولــي، مع عدم استمرارية مشاركة نفس املفاوضني في االجتماعات الدولية. أكـثـر الـــدول انـزعـاجـا مـن الـسـيـاسـ­ات الـتـجـاري­ـة الحديثة للواليات املتحدة، هي دول االتـحـاد األوروبـــ­ي؛ فهي في حالة ارتباك قصوى، وتتطلع إلى اليوم الذي ينزاح فيه الــرئــيـ­ـس الــكــابـ­ـوس (تـــرمـــب) مــن الــرئــاس­ــة؛ بـسـبـب عديد املصائب التي توالت عليها نتيجة لسياساته منذ توليه الرئاسة. وتهادن تلك الدول في الوقت الحالي، مع تبنيها ضغوطا رسمية وغير رسمية هدفها: أ- الـــدفـــ­ع، مـــن خـــالل حــضــورهـ­ـا الـــقـــو­ي داخــــل الواليات املتحدة، بمساعدة من يريد عزل الرئيس فورا. ب - دعم التيار املناهض له وتضييق فرصة فوزه بفترة رئاسية ثانية. ج -عــــقــــ­دهــــم األمــــــ­ــل عـــلـــى الــــكـــ­ـونــــجــ­ــرس ذي األغلبية الديموقراط­ية. وعــلــى الـــرغـــ­م مـــن بـصـيـص األمــــل الــــذي يـــــــرا­ود االتحاد األوروبـــ­ــي بــإزاحــة الـرئـيـس تــرمــب، أو عــدم الـتـجـديـ­د له، إال أنـه من املستبعد تحقق أي من األمـريـن؛ ما دام األداء االقــتــص­ــادي األمــريــ­كــي يـسـجـل نــمــوا غـيـر مــســبــو­ق، وما استمر انخفاض معدالت البطالة إلى أقل من ،)%4( وهي نسبة غير مسبوقة. وختاما، نقول إن املرحلة الحالية من العوملة االقتصادية تــعــد مــرحــلــ­ة تصحيحية بــالــدرج­ــة األولــــى، وفــرصــة لن تـتـكـرر لــلــدول الـنـامـيـ­ة إلحــــداث تــــوازن نسبي فــي ميزان املزايا والخسائر املترتبة عليها. وعلينا دعم هذا االتجاه، لنستعيد مقعدنا فــي مـركـب الـعـوملـة قبل أن نفقده إلى األبد.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia