نقاش شائك عن اجلامعات )2(
أخــيــرًا وافــــق مـجـلـس الـــشـــورى عــلــى مــشــروع نظام الجامعات الجديد بعد أن رفضه قبل ذلك بعشرة أيام في حادثة قد تكون األولى في تاريخ املجلس فيما يتعلق باألنظمة التعليمية، وهذا االستعجال يعكس با شك رغبة الجهات العليا بإقرار النظام الجديد للجامعات بأسرع وقت. يأتي نظام الجامعات الجديد ليس فقط ألجل تحديث شؤون الجامعات وأنظمة التعليم العالي املتقادمة أساسًا ولكن من املؤمل أن يساهم -من خال تحقيق املرونة واالستقالية في شؤون الجامعات املالية واإلدارية واألكاديمية- في اإلصاح التعليمي وخصوصًا التعليم العالي، وكذلك أن يدعم رؤية اململكة 2030 في أبعادها التعليمية والبحثية والتوظيفية. لــعــل مـــن املـــمـــارســـات الــجــيــدة وغــيــر املــســبــوقــة فـــي مـــشـــروع نظام الــجــامــعــات الــجــديــد قــيــام وزارة الـتـعـلـيـم بــطــرح مــســودة النظام ألصحاب الشأن ولكافة املستفيدين مع وضع فترة زمنية الستقبال املاحظات واالقتراحات مباشرة من خال موقع الوزارة أو رسميًا من خـال الجامعات. ولعل الـقـارئ يتذكر املـقـاالت التي تضمنها اإلعــــام املــرئــي واملــقــروء قـبـل حــوالــى عـــام، وقــد يــكــون مــن أبرزها سـلـسـلـة مــقــاالت الــدكــتــور عــبــدالــوهــاب الـخـمـيـس وكــذلــك كتابات الدكتور عبدالرحمن الشقير النقدية عن بعض بنود املشروع. كان الحراك واضحًا خصوصًا داخل الجامعات وأعضاء هيئة التدريس بها، ومن املؤكد أن الجميع سينتظر خروج النظام بشكله النهائي حتى تتم مقارنته باملسودة األولية التي حصلت على كم كبير من التغذية الراجعة. املقال الذي تقرأه اآلن -عزيزي القارئ- ليس نقدًا لبنود املشروع بحكم أن املشروع قد تمت املوافقة عليه ومن ثم فنحن ننتظر إقراره. لكنه بمثابة عـرض استكشافي للتحديات التي تواجه التعليم العالي والجامعات مع ولوج العالم خضم الثورة الصناعية الرابعة. نقاط أرى أنــه يجب االنتباه لها عند وضــع اللوائح التنفيذية للنظام وكذلك عند النظر بسياسة التعليم بشكل عام. إحدى إشكاليات الهروب من البيروقراطية أنه قد نقع في مصيدة «للبيروقراطية» من نوع آخر؛ بيروقراطية تنشأ نتيجة الصعوبة في املوازنة بني االستقالية من جهة واملرونة والسرعة من جانب آخـــر. دخـــول مجلسني جـديـديـن وهــمــا مجلس شـــؤون الجامعات ومجلس األمناء باإلضافة إلى مجلس الجامعة واملجالس األخرى األدنـــى ال أظــن أنــه ســوف يساعد فــي تسريع عملية اتــخــاذ القرار ومن األرجــح أن يجد صعوبة في معالجة أوجـه القصور الحالية الناجمة من الترهل اإلداري وربما أدى إلى ظهور نمط جديد من املـحـابـاة. فمجلس األمــنــاء تـحـديـدًا يتم ترشيح أعـضـائـه مـن قبل مجلس شؤون الجامعات ويصدر القرار من رئيس مجلس الوزراء وبالتالي فإننا قد نرجع للمربع رقم واحد ولكن بمامح مختلفة - وإن كانت جذابة نوعًا ما. إشـكـالـيـة أخـــرى تـكـمـن فــي ضــــرورة تـحـديـد آلــيــة ونــمــط العملية التحولية للجامعات وما الهدف النهائي لها: هل ستكون ذاتية التشغيل أم سـتـكـون عـلـى نــظــام الشركات/املؤسسات الـعـامـة أم سـتـأخـذهـا الخصخصة بنهاية املــطــاف إلــى ملكية خــاصــة غير ربحية؟ اإلجابة على هذا السؤال واألسئلة الفرعية األخرى في غاية األهمية. فمن أخطر ما يهدد مؤسسات التعليم العالي أن تتعرض ألزمة هوية أو فقدانها؛ ما هي؟ من هو املستهدف بالخدمة؟ ومن الذي يجب أن يدفع التكاليف؟ وبـالـرغـم مـن التأكيد على اسـتـمـرار تمويل الـجـامـعـات مـن خال الدولة وضمان مجانية التعليم الجامعي للطالب املنتظم والتكفل بدفع الرسوم الدراسية للتخصصات التي يتطلبها سوق العمل إال أن ذلك يظل محصورًا بفئة عمرية محددة -خريجي الثانوي تحديدًا- وربـمـا على مـجـاالت وأعـــداد مـحـدودة بحسب أولويات الـجـامـعـة ومـــا يـــراه مـجـلـس األمـــنـــاء! لـكـن الــنــظــام سيفتح مجاال واسعًا لاستفادة ماليًا من برامج الـدراسـات العليا والدبلومات والدورات التدريبية ناهيك عن تقديم خدمات استشارية وبحوث علمية مدفوعة الثمن. لكن يجب التأكيد على أن القدرة على تحمل التكاليف من قبل الطالب أو املستفيد تمثل أحد أكبر التحديات الــتــي تــواجــه التعليم الــعــالــي فــي الــعــالــم الــيــوم. ومـــن املــتــوقــع أن يتسبب ذلـك بمشكات كبيرة للجامعات عندما تتجاوز الرسوم الدراسية تكلفة التضخم والنمو في معظم قطاعات االقتصاد أو حتى قيمة الشهادة لدى الدارس، وهذا يعني أنه مع هذه الرسوم العالية فإن عددًا أقل من األشخاص باستطاعتهم تحمل تكاليف الدراسة. لـعـل مــا سـبـق يـفـتـح نـقـاشـًا جــــادًا عــن زيــــادة الـتـمـويـل الحكومي للجامعات ذات املــاءة املالية األقــل ألسـبـاب خـارجـة عـن إرادتها وتــنــويــع املــنــح وزيـــــادة الـــقـــروض املــيــســرة لــلــطــاب بــعــد املرحلة الــثــانــويــة والــــدراســــات الــعــلــيــا؛ خــصــوصــًا الــطــاب بـــــدوام جزئي والــطــاب املـشـمـولـني بـالـضـمـان االجـتـمـاعـي والــحــاالت الخاصة، ويـفـتـح الــبــاب مـــرة أخـــرى الســتــفــادة الـجـامـعـات مــن التعليم عن بعد واالنتساب املطور. فماذا يفيد الجامعة كونها مستقلة -عند ضمان الجودة والحوكمة- إن لم تكن قادرة على االستفادة من هذه الـفـرص خصوصًا الجامعات التي لديها تـاريـخ طويل وتجربة ممتدة حتى تستفيد من هذا التمايز وتكون لها ميزة تنافسية. على الضفة األخرى من النهر، هناك قلق سائد أن نقع في مصيدة «تـسـلـيـع» التعليم عـنـد خصخصة الــجــامــعــات؛ أي جعله سلعة بـذاتـهـا. ومـصـدر القلق يـأتـي عندما تـكـون مصالحها التجارية ال تـخـدم املصلحة العامة وهــذا محتمل جــدًا ففي نهاية املطاف املديرون بشر وأعضاء مجلس األمناء ليسوا مائكة. لقد أصبح واقعًا في ظل العوملة واألتمتة أن التعليم العالي يجب أن يكون أساسًا لتجربة عاملية للمشاركة ذات الطابع املدني التي تعزز محو األمية الرقمية وتعمل على توزيع أكثر عدالة للثروة. وال شك أن مؤسسات التعليم العالي تلعب دورًا حيويًا في غـرس عادات التعلم مدى الحياة في وقت مبكر، وفي إنتاج مواطنني متعلمني مدى الحياة يجددون حياتهم باملعارف واملهارات بشكل منتظم ملواكبة -أحيانًا استباق- التطورات الجديدة في تخصصاتهم أو مساراتهم املهنية. وبالتالي فيتوقع أن تكون الجامعة قادرة على توفير الفرص التي تسمح للفرد -وليس الطالب فقط- باالنخراط في البحث والتطوير من خال فصول فعلية أو افتراضية أو مزيج منهما. لقد أصبح من الشائع الحديث عن مصطلحات تتمحور حولها الخطط الدراسية والبرامج التدريبية مثل «التعلم النشط»، «التعلم القائم على املشاريع»، «مهارات قابلة للتحويل»، «التعلم املتكامل مع العمل» و«مجموعات الوظائف املهارية». هذه األشياء ليست ضرورية للحصول على وظيفة فحسب ولكن للمنافسة مع اآلخر في اقتصاد رقمي وتغير تقني مذهل يجتاحنا (مع العالم) وهـذا يستدعي تجهيز أعضاء هيئة التدريس بنماذج تدريسية حديثة وتدريبهم على املنهجيات التفاعلية ودمجها مع أساليب تدريسية راسخة. برأيي أن أحد االشتراطات الضرورية اآلن هي أن تتحول الجامعات ومؤسسات التعليم العالي إلى جامعات متعلمة -Learning unive sities وهي حالة خاصة بمفهوم املنظمات املتعلمة، وهي املنظمة التي تعمل باستمرار على زيادة طاقتها وقدرتها على استشراف وتشكيل املستقبل الذي تأمل تحقيقه وتعمل على اكتساب قدرات تمكنها مــن الـتـعـامـل مــع عـالـم متغير ومــتــســارع شـديـد التعقيد والغموض. هذه املنظمة من املهم أن يتعلم منسوبوها باستمرار كيف يتعلمون وكيف يستفيدون من األخطاء والتجارب السابقة. وبالتالي علينا أن نتوقع رؤية الجامعات تعمل بجد لتهيئة بيئات آمنة ملناقشة مختلف اآلراء البناءة. ولعل هذا الشرط يساهم عند تحقيقه في عملية التحول النهائي املنشود وهو تحقق مجتمع متعلم .learning society