Okaz

معاناة احلنني!

-

الـــعـــو­دة فــي الــيــونـ­ـانــيــة تـعـنـي مــعــانــ­اة الــحــنــ­ن، وهذه املـعـانـا­ة هـي إحــدى املشاعر الــنــادر­ة، الـتـي منحها الله لإلنسان، هـي لـذة سـريـة، مخرج لـا وعــي، كأنك تمشي فــي متجر كـبـيـر، وفــجــأة، تـجـد نفسك دون تـوقـع أمـــام حــائــط، مكسو بمرآة كبيرة، فتتوقف مندهشًا، هذا ما يحدث لنا مع الحنن، نحتفظ بذكريات كثيرة، ال نستعيد كل تلك الذكريات، حتى يصفعك الحنن، كمرآة على سطح حائط كبير، الحنن ينشط الذاكرة، يوقظها، يحركها، هـذا هو قانون الــذاكــر­ة، تسقط أجــزاء كثيرة من حياتنا، تخلص اإلنسان مما ال يحب، وتطغى األشياء التي نحبها على الـذاكـرة، تظهر على هيئة الحاضر، وتبتلع املشهد، وهذا ما حدث لي وأنا أستقل عربتي تحت منزل املرحوم «عـبـدالـلـ­ه خــيــاط» بعد أن فـرغـت مــن واجــب الــعــزاء، ظهر لي وجهه األسمر، لفني املكان بضباب واقعة قديمة من زمـان األجاويد، حاضرة على نحو حميم وحـي، أعلمني يـومـهـا الـحـبـيـب «قــيــنــا­ن الــغــامـ­ـدي» بـتـوقـف أبـــي وجدي «عبدالله جفري» عن الكتابة في «عكاظ» احتجاجًا على موقف الرقيب مـن مقال لــه، وكــان ذلــك يحدث كثيرًا، من مـقـاالت أبــي وجــدي الـنـاريـة، وأنـهـى مكاملته مـالـك يـا أبا فــراس إال «الــعــمــ­دة»، وكـنـا نلقب «عـبـدالـلـ­ه خـيـاط» بذلك اللقب لتاريخه العريض وسنه وصلته بالجميع، اتصلت حينها بأبي زهير ما إن فرغت من مكاملة قينان، ألبلغه بــمــا حــــدث، ســألــنــ­ي ضــاحــكــًا، أيـــن أنـــت اآلن؟ أجــبــتــ­ه في املستشفى، فطلب مني أن أحضر إليه في منزله، والذي لم يكن يبعد عن املستشفى كثيرًا، وجدت الباب مفتوحًا فلم أحتج إلى أن أطرقه، وهكذا عرفنا بــاب «الـعـمـدة»، أطـلـق ضحكة بلورية فـي وجـهـي وتمتم وهو يرتدي غترته وعقاله، بلهجته املاكرة املغلفة بالبراءة، «ما راح يبطل صاحبك مـن جـنـانـه»، وكــأن أبــا زهير على بينة أن دخــل أبــي وجدي الوحيد من الكتابة، ونحن في العربة اتصل بأبي وجدي وطلب منه أن ينتظره أسفل منزله وهو بكامل مابسه وأخبره أنه يريد أن يذهب معه إلى مكان ما ألمر ضــروري!! ما إن وصلنا حتى أحسست بحجم الدهشة على وجـه أبـي وجــدي، وهـو يراني مع أبـي زهير، بـدا لي أبا وجدي كطفل مذعور، تحدث إليه أبو زهير بنبرة تأنيب، عن توقفه عن الكتابة، تلك النبرة التي ال يجرؤ غيره أن يتحدث بها مع أبي وجدي، كان عبدالله جفري كأجنبي يبذل ما في وسعه لينطق بالكام، شاحب الوجه ومتلعثم الكام، غمغمات كانت تنطلق من حنجرته، لم تلبث أن اختفت وهو يحتل املقعد الخلفي من العربة، اتصل أبو زهير بالدكتور هاشم عبده هاشم وكان حينها رئيس تحرير صحيفة عكاظ ومديرها الـعـام، وأبلغه بأنه في الطريق معي ومـع أبـي وجــدي، ما إن وصلنا حـتـى بـــدأ الــحــديـ­ـث عــن أســبــاب الــتــوقـ­ـف واحــتــد النقاش عن موقف الرقابة والرقيب، األمر الذي أغضب أبا زهير، وأبو زهير عندما يغضب، ينثني جلد جبهته ويتجعد، وتكتسي شفته العليا أخاديد عمودية رفيعة، بينما تقفز التجاعيد لوجهه وذقنه، قال بقسوة، ستعود للكتابة من يوم غد، قالها بقسوة محببة، ابتسم أبو وجدي، خيل لي أن ابتسامته كانت حزينة وبريئة، ما جرى بعد ذلك، أخذ الدكتور هاشم عبده هاشم، الرجل الذي صنعته موهبته وعلمه وموقفه، وتوهج مشاعره، يعطي ما يعطي على الــرغــم مــنــه، يـعـطـيـه اســتــجــ­ابــة إللــحــاح روحــــه ونخوته، استمر يحب طوال حياته على الرغم من أن طبيبًا سخيفًا حذره من خطر الحب على دقات قلبه، أخذ يداعب ويمازح أبـــا وجــــدي ويــكــثــ­ر مــن إطـــرائــ­ـه كــكــاتــ­ب، واخــتــتـ­ـم حديثه قائا: كنت سأحرجك مع قرائك بنشر مقاالت قديمة لك، ولن أوقف مخصصاتك فمروءتي تمنعني أن أفعل ذلك، قالها بنبرته الــوقــور­ة، وبجد حزين وصــوت يتهدج، امـتـألت نفسي غبطة ورضـــى، رغــم ازدحـــام املـشـاعـر فـي خــاطــري، شملت الـفـرحـة كل كياني، حتى أحسست أنني أكاد أطير منها وأنا أسمع أبا وجدي يقول للدكتور هاشم: حاضر سأعود للكتابة من يوم غد، هذه واقعة من زمن األجـاويـد، عن أسماء عاشت لغزًا آخـر من ألغاز الـذاكـرة الرحب، الذي كلما تركناه خلفنا، يصبح أشد طغيانًا كلما اختفى عزيز من حياتنا، يعلو صـوت من الـعـدم، يدعونا إلـى الـعـودة، إلـى لحظة تصير أغلى، فأغلى، هذا هو ما أعنيه بمعاناة الحنن!!

 ??  ??
 ??  ?? د. فؤاد مصطفى عزب* fouad5azab@gmail.com
د. فؤاد مصطفى عزب* fouad5azab@gmail.com

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia