Okaz

الغاز وآفاق الصراع املستقبلي في حوض البحر املتوسط

-

يقول ابن خلدون، واضع فلسفة التاريخ، إن الحوادث يرتبط بعضها ببعض ارتــبــاط العلة بـاملـعـلـ­ول، أي أنــه لـو تشابهت الــظــروف، لتشابهت تبعًا لذلك الوقائع، فمعرفة الحاضر معرفة صحيحة، تعد الوسيلة املضمونة إلى معرفة املاضي واملستقبل. واملــاضــ­ي يـقـول، إن هناك نفطًا وبكميات كبيرة، اكتشف فـي منطقة الشرق األوسط، تسابقت عليه القوى االستعماري­ة للسيطرة على منابع الطاقة، أدى النزاع بينها، وبصورة غير مباشرة، إلى حصول حرب عاملية أولـى، لم ترو الدماء التي أسيلت فيها عطش محبي السلطة واملال، فأعقبتها حرب عاملية ثانية، علها تطفئ جذوة هذا الحب. والحاضر يقول، إن هناك احتياطيات هائلة من الغاز، اكتشفت في قاع شرق البحر املتوسط، الذي تطل عليه دول كل من تركيا ولبنان وسوريا وإسرائيل ومـصـر والــيــون­ــان وقــبــرص، وســط تــداخــل الــحــدود البحرية بينها، وتوسع واحدة على حساب األخرى. وإذا كــان التنافس االسـتـعـم­ـاري على الــثــروا­ت النفطية ينحصر بـني الدول الـكـبـرى، فـالـيـوم وفــي ظــل اقـتـصـاد الــســوق، تــرى الـشـركـات الـعـاملـي­ـة صاحبة الثروات التي تضاهي ثروات الدول، هي األخرى تدخل ميدان التنافس، وإن كانت تقف خلف دول باحثة عن النفوذ والسيطرة، وهـو موضوع يزيد من تعقيد الصراع الغازي، قياسًا بمثيله النفطي. فالصراع من أجل النفط كان يقوم على الغزو والسيطرة املباشرة على جميع أراضي الدولة، إال أنه وفي الوقت الحالي، من الصعب القبول بنظرية االحتالل لجميع أراضي الدولة املالكة لثروة ما، كما كان يجري في السابق، وإنما يكفي احتالل الحقل الغازي، عبر شركات تملك من املال والتقنية، ما لم تملكه دولة، مما يؤهلها ألن تكون هي املفاوض في ترسيم الحدود واقتسام حقول الغاز بينها وبني غيرها من الشركات، تبعًا للتسهيالت التي تقدمها البلدان التي تقع ضمن حدودها البحرية تلك الحقول. لــذا فــإن عـلـى الـــدول الـتـي تـتـنـازع للسيطرة عـلـى أكـبـر قــدر ممكن مــن مياه البحر، أن تقرأ التجربة العظيمة، التي مـرت بها دول الشرق األوســط، حيث نفس تجربة االستكشافا­ت هـذه، التي أدت إلى ظهور النفط كمادة سال لها لـعـاب الـــدول الـكـبـرى، أدت كـذلـك إلــى مـجـيء بريطانيا وفرنسا إلــى املنطقة، بعد انسحاب روسيا بسبب ثورتها البلشفية، مخلية بذلك الساحة لهاتني الدولتني، تتقاسمان الثروات فيما بينهما بطريقة أو بأخرى. وهذه التجربة التاريخية للدول النفطية املطلة على الخليج العربي، قد تكون خير معني لدول البحر املتوسط في قضية االستفادة من ثروة الغاز، ال لغرض الحصول عليها فقط. فهناك فرق بني أن تملك الشيء، وبني أن تملكه وتستفيد منه. بمعنى آخـر، أن دول الخليج استطاعت االستفادة من ثروتها النفطية قــدر اإلمــكــا­ن، وبــنــت مـدنـهـا عـلـى أحـــدث طــــراز، بسبب نـجـاحـهـا بالتفاوض مـع الــدول الكبرى وشركاتها، الطامعة بتلك الــثــروا­ت. وهـنـاك مـن لـم يحسن التدبير والتفاوض، كإيران والعراق، لينتهي بهما األمر إلى عدم االستفادة من ثرواتهما ًالنفطية، بل وانقالب الثروة إلى مشكلة أدت إلى دخولهما في صراعات، بدال من تطورهما. الصراع يحتدم في الشرق األوسط بسبب هذه الثروة الجديدة، والتي سوف تــكــون عــمــاد الـطـاقـة فــي املـسـتـقـ­بـل، فـإسـرائـي­ـل تـسـابـق الــزمــن مــن أجــل وضع اليد على الحقول املكتشفة، والسيطرة كذلك على ممر الطاقة عبر قبرص. واستطاعت إلــى اآلن أن تسوي األمــر مـع مصر والـيـونـا­ن، وستبدأ بتصدير الــغــاز، لتبقي لبنان فـي تـنـازع معها حــول مسألة املـيـاه اإلقليمية، فـي وقت تعصف بلبنان الخالفات السياسية، بينما إسرائيل تقطع أشواطًا في عمليتي االستخراج والتصدير. أما تركيا، فسوف تكون غارقة في صراعها مع اليونان حول قبرص من جهة، وحول املياه اإلقليمية بني قبرص واليونان ومصر من جهة أخرى، وقد تكون مصر وبسبب أزمتها االقتصادية، استخدمت سياستها الناعمة مع إسرائيل وقبرص واليونان، لتستريح القاهرة من مشاكل املستقبل بني هذا لك وذاك لي، وهي طريقة قد تكون مناسبة لظروف مصر الراهنة. وإذا أفلس االتحاد السوفيتي من كعكة الطاقة في الشرق األوسط، فإن اليوم روسيا، ترفع شعار ال تهاون مع حصتنا، وستكون أحد أهم محاور السيطرة على املنطقة، مصححة بذلك كبوة ستالني، التي حاول تصحيحها بعد ذلك، ولكن والت حني مندم. فقبضة روسيا على الساحل السوري، من الصعب فكها، وهي نقطة املرتكز. الواليات املتحدة من جانبها، ستكون مايسترو الشركات املستثمرة، ومسيطرة على املعابر في الوقت ذاته، فهي مهمة اقتصادية أوكلت إلى الرئيس ترمب، وقــد تـكـون إحــدى أهــم أسـبـاب توليه إدارة البيت األبــيــض، فالرجل ذو عقل اقتصادي بحت، وسيكون أمل الشركات األمريكية في االستحواذ على أكبر قدر ممكن من االستثمارا­ت. القضية األخــرى في املـوضـوع، هي إمكانية حصول القتال بني الــدول املطلة عـلـى الـبـحـر املــتــوس­ــط، وأحـــد أهـــم املــواجــ­هــات املـحـتـمـ­لـة، سـتـكـون بــني تركيا واليونان من جهة، وبني لبنان وإسرائيل من جهة أخرى. وحيث أن مثل تلك املواجهات العسكرية سوف لن تكون في صالح إسرائيل، املستفيد األول وقد يكون األخير من هذه الثروة، فإن إبقاء الخالفات دون وصولها إلى املواجهة العسكرية بني هذه الدول، سيصب في صالح الدولة العبرية، ذلك إنه سيعطل مـن فــرص استثمار الـغـاز بـالـصـورة املطلوبة مـن قبل دول البحر املتوسط، بينما إسرائيل تكون قد قطعت مراحل متقدمة في السيطرة على سوق الغاز العاملي، فقضية قبرص ستبقى إسفني الخالف بني األتراك واليونانين­ي، وأحد أهم معرقالت االستفادة من الغاز. كما أن الصراعات السياسية بني الفرقاء اللبنانيني سوف تجهض أي محاولة لـالسـتـفـ­ادة مــن ثــــروات الـبـلـد، إضــافــة إلــى بــقــاء الـتـوتـر فــي عــالقــة لـبـنـان مع إسرائيل، مع عدم قدرتها على املواجهة العسكرية، لتنضم لبنان إلى معسكر التنازع دون االستفادة من الثروة الغازية. ويبقى املوضوع األهم في كل ذلك، هو ما يجري في سوريا، والتي من خاللها سـوف تتحدد االستراتيج­ية املستقبلية لغاز الشرق األوســط، عبر التسوية املنتظرة بني الالعبني الدوليني على املـيـدان الـسـوري. فال يــزال الكل يضغط للحصول على أكبر قدر ممكن من املكاسب في املنطقة، مهما طال أمد الصراع، فمن يملك الغاز، سيكون مالكًا ملحرك الطاقة املستقبلية.

• ينشر هذا املقال بالتزامن مع «سبوتنيك عربي»

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia