أوراق التوت األردوغانية
ال يداخلني أي نوع من التعجب واالندهاش حيال الطريقة التي تتعامل بها إدارة الرئيس رجب طيب أردوغان مع ملف قضية مقتل الصحفي السعودي جـمـال خـاشـقـجـي، عليه رحـمـة الــلــه، ومــحــاولــة االنــحــراف بــه عن مساره الجنائي املفروض إلى ساحة السياسة، واللعب املكشوف واملضمر، واملنظور في طريقة التسريبات لبعض وسائل اإلعالم، وإطــالق التلميحات املبطنة، فـي مسلك يشي بنوايا مفخخة، ال تستهدف الحقيقة املحضة، بقدر ما تسعى نحو استغالل الواقعة لتحقيق أجندات أخرى. هـذا املسلك «األردوغــانــي» ال يثير عجبي ودهشتي، كما أسلفت، فكثير مــن الــشــواهــد تكشف بــجــالء أن هــذه الـطـريـقـة هــي السمة الـغـالـبـة - إن لــم تـكـن األســاســيــة - فــي تـعـاطـي أردوغـــــان وإدارتــــه مـع املـلـفـات الشبيهة، خـذ مـثـال االنــقــالب العسكري الـفـاشـل الذي تعرضت له تركيا منذ زمن ليس بالقصير، سنجد أن «رجب» ما زال يستغله بصورة تكرس لقبضة الحزب الواحد، وتجذر لسلوك ديكتاتوري بـال ريــب، فقد استطاع بهذه الـذريـعـة أن يقصي كل خصومه السياسيني فـي الـداخـل بشكل مـريـب، ويحيد نشاطهم الـسـيـاسـي عـبـر الـــزج بـهـم فــي أتـــون االتــهــامــات الــجــائــرة، وتقديم بـعـضـهـم ملــحــاكــمــات صـــوريـــة، انــتــهــت بـــــاآلالف إلــــى الــفــصــل من الخدمة، وفقدان وظائفهم في كل القطاعات بال استثناء، بما يثير االستغراب واألسئلة القلقة، فالذي نعرفه في االنقالبات العسكرية أن املشاركني فيها عادة ما ال يتعدى عددهم العشرات على األكثر، دون بلوغ املئة، وهو أمر مفهوم من الحاجة إلى الكتمان، وتضييق دائرة االتصال؛ تحرزا من انتشار الخطط، وساعة الصفر، وما إلى ذلــك مـن ترتيبات االنـقـالبـات العسكرية وأدبـيـاتـهـا، والتخطيط لـهـا، واملــشــاركــني فيها، ويمكن االســتــدالل على ذلــك بالنظر إلى عــدد املـجـالـس العسكرية الـتـي استطاعت الــوصــول إلــى السلطة في عـدد من الــدول العربية واألفريقية في عصرنا الحديث على وجه التحديد، والتي احتفظت جميعها بمسمى «مجلس قيادة الـثـورة»، الــذي غالبًا ال يتجاوز عـدد املنضمني إليه العشرين أو يزيدون قليال.. لكننا في الحالة «األردوغانية» أمام آالف شاركوا في هذا االنقالب، بزعم النظام الحاكم، وهو أمر ال يستقيم عقال، وال منطقًا.. والــحــال كـذلـك فمن غير املـحـرج على اإلطـــالق القول إن «أردوغــــان» استطاع الــركــوب على ظهر الديموقراطية لبسط سلطان الديكتاتورية فـي أرجــاء تركيا باستغالل هــذه الواقعة، مــســنــودا فــي ذلـــك بــآلــة إعـالمــيــة نـشـطـة، وقــودهــا اآليديولوجية اإلخوانية بنزعاتها املعروفة. وواقــــع الــحــال كــذلــك يـشـيـر إلـــى أن أردوغــــــان اســتــطــاع أن يدجن الساحة السياسية التركية لصالح حزبه بشكل يضمن له البقاء في السلطة بنزعة «السلطان» اآلمر، وال تعدو العملية االنتخابية التي تجري في تركيا بهذا الشكل كونها مجرد استغالل إلحدى الــوســائــل الــديــمــوقــراطــيــة فــي اإليــهــام بــالــحــريــة، واالنــســجــام مع أدبيات املجتمعات األوروبية، والحال املشاهد على أرض الواقع على غير هذا الظاهر على اإلطالق. ولكن يبقى معارضو الخارج شوكة في حلق أردوغــان وسلطته، ومظهر ذلــك يتجلى فـي سعي «رجــب» الـــدؤوب مـن أجــل القبض عـلـى غـريـمـه الـــلـــدود؛ فـتـح الــلــه غــولــن، بـحـجـة قــيــادتــه لالنقالب العسكري، والحكم عليه بذلك من قبل القضاء التركي، ويتولى أردوغــــان بنفسه مهمة مــطــاردة «غــولــن» وبـعـض مـنـاصـريـه في أقـطـار الـعـالـم، حـامـال حكم قضاته فـي حقيبته، ومـلـوحـًا بـه في زياراته للبلدان التي تؤوي هؤالء املعارضني لحكمه، على نحو ما جرى في زيارته لجمهورية أملانية االتحادية أخيرًا، حيث لم يكتف باملطالبة في حدها املتسم باألعراف الدبلوماسية؛ بل وجه انتقادًا للحكومة األملانية في إيوائها للمعارضني واالنقالبيني - على حد زعمه -؛ ليقابل ذلك بهجوم معاكس من قبل القيادة األملانية في صـورة انتقادات واضحة وصريحة للمسالك غير الديموقراطية التي انتهجها في موضوع االنقالب العسكري الفاشل، واستغالل ذلـك فـي تصفية خصومه السياسيني، غير معترفني بما انتهت إليه محاكمه من إدانات، بما يسقط عنها أي التزام بالتسليم.. مما أدخل «أردوغان» في حرج بالغ، خصوصا أن تلك الزيارة شهدت الــعــديــد مــن املــظــاهــرات املــنــددة بحكومته ومـــا اقـتـرفـتـه فــي حق معارضيها.. واملدهش أن «رجب» وصف الزيارة بـ«الناجحة»! إن ما جرى لـ «أردوغان» في أملانيا، كان له نظير في الواليات املتحدة األمريكية، وسيكون له مثيله في كـل األقـطـار، طاملا ظـل «رجب» يـقـوم بوظيفة «اإلنــتــربــول»، ويــطــارد مـعـارضـيـه بـهـذه الطريقة التي ال تنسجم مع وظائف رئيس الـدولـة، فلو كـان منسجمًا مع روح الديموقراطية التي يدعيها؛ لترك لألجهزة املعنية أن تقوم بــأداء مهامها دون إمـــالءات أو خطابات ديماجوجية تجيشية، أو أساليب قمعية، عندها سيحترم العالم قـضـاءه، ويلتزم بما يـصـدره مـن أحــكــام، ويـسـاعـد فـي إنـفـاذهـا بما يستطيع تحقيقًا للعدالة، وبخالف ذلك؛ فمن «الغباء» إلزام دول راسخة في قواعد اللعبة الديموقراطية، باملساعدة في تكريس نفوذ ديكتاتوري، عبر مشهد هزلي ساذج في املسرحيات األردوغانية.. ولهذا أكاد أجزم أن مشهد التعامل مع االنقالب العسكري سيكون حاضرًا عند «رجب» في ملف «خاشقجي».. إن تـركـيـا األردوغـــانـــيـــة بشكلها الــحــاضــر، وسـيـاسـتـهـا املاثلة تعيد إنتاج الدولة العثمانية بشكل أو آخر، في زمن ال يحتمل «الـــســـالطـــني»، وال يـفـسـح مـــجـــاال لـــ«الــظــل الـــعـــالـــي»، و«األحـــــالم االستعالئية»، وطـاملـا بقيت مثل هــذه األحــالم واقــرة فـي العقل الـقـائـد لتركيا الــيــوم، فسيظل وجــودهــا فــي املـحـيـط األوروبي قلقًا من الناحية السياسية، وكأنها مستنبة جغرافيًا في غير مـوضـعـهـا الــالئــق بــهــا، ولـــن تــنــال حــظــوة الــدخــول فــي االتحاد األوروبي مهما داومت القرع وهي على هذه الحالة املتأرجحة ما بني إكمال شروط الديموقراطية على املنهج األوروبــي، ونوازع الـتـسـلـط عـلـى وقـــع اإلرث الـعـثـمـانـي. كـمـا سـيـظـل وجــودهــا في أطراف الشرق األوسط اليوم، مسورا بالريبة، ومحفوفا بالحذر، تثقله ذاكــرة التاريخ بما صنعته الـدولـة العثمانية، وتنتاشه شواهد الحاضر بما تصنعه اآليديولوجيا اإلخوانية التي تسير مفاصل الدولة األردوغانية، مذكرًا بما يفعله رجب مع إسرائيل التي يملك عالقات مميزة معها وفـي نفس الوقت يضحك على السذج واملضحوك عليهم أنـه نـار عليهم في خطاب تحريضي ممجوج.