Okaz

أوراق التوت األردوغاني­ة

- nyamanie@hotmail.com نجيب عصام يماني * * كاتب سعودي

ال يداخلني أي نوع من التعجب واالندهاش حيال الطريقة التي تتعامل بها إدارة الرئيس رجب طيب أردوغان مع ملف قضية مقتل الصحفي السعودي جـمـال خـاشـقـجـي، عليه رحـمـة الــلــه، ومــحــاول­ــة االنــحــر­اف بــه عن مساره الجنائي املفروض إلى ساحة السياسة، واللعب املكشوف واملضمر، واملنظور في طريقة التسريبات لبعض وسائل اإلعالم، وإطــالق التلميحات املبطنة، فـي مسلك يشي بنوايا مفخخة، ال تستهدف الحقيقة املحضة، بقدر ما تسعى نحو استغالل الواقعة لتحقيق أجندات أخرى. هـذا املسلك «األردوغــا­نــي» ال يثير عجبي ودهشتي، كما أسلفت، فكثير مــن الــشــواه­ــد تكشف بــجــالء أن هــذه الـطـريـقـ­ة هــي السمة الـغـالـبـ­ة - إن لــم تـكـن األســاســ­يــة - فــي تـعـاطـي أردوغـــــ­ان وإدارتــــ­ه مـع املـلـفـات الشبيهة، خـذ مـثـال االنــقــا­لب العسكري الـفـاشـل الذي تعرضت له تركيا منذ زمن ليس بالقصير، سنجد أن «رجب» ما زال يستغله بصورة تكرس لقبضة الحزب الواحد، وتجذر لسلوك ديكتاتوري بـال ريــب، فقد استطاع بهذه الـذريـعـة أن يقصي كل خصومه السياسيني فـي الـداخـل بشكل مـريـب، ويحيد نشاطهم الـسـيـاسـ­ي عـبـر الـــزج بـهـم فــي أتـــون االتــهــا­مــات الــجــائـ­ـرة، وتقديم بـعـضـهـم ملــحــاكـ­ـمــات صـــوريـــ­ة، انــتــهــ­ت بـــــاآلا­لف إلــــى الــفــصــ­ل من الخدمة، وفقدان وظائفهم في كل القطاعات بال استثناء، بما يثير االستغراب واألسئلة القلقة، فالذي نعرفه في االنقالبات العسكرية أن املشاركني فيها عادة ما ال يتعدى عددهم العشرات على األكثر، دون بلوغ املئة، وهو أمر مفهوم من الحاجة إلى الكتمان، وتضييق دائرة االتصال؛ تحرزا من انتشار الخطط، وساعة الصفر، وما إلى ذلــك مـن ترتيبات االنـقـالب­ـات العسكرية وأدبـيـاتـ­هـا، والتخطيط لـهـا، واملــشــا­ركــني فيها، ويمكن االســتــد­الل على ذلــك بالنظر إلى عــدد املـجـالـس العسكرية الـتـي استطاعت الــوصــول إلــى السلطة في عـدد من الــدول العربية واألفريقية في عصرنا الحديث على وجه التحديد، والتي احتفظت جميعها بمسمى «مجلس قيادة الـثـورة»، الــذي غالبًا ال يتجاوز عـدد املنضمني إليه العشرين أو يزيدون قليال.. لكننا في الحالة «األردوغاني­ة» أمام آالف شاركوا في هذا االنقالب، بزعم النظام الحاكم، وهو أمر ال يستقيم عقال، وال منطقًا.. والــحــال كـذلـك فمن غير املـحـرج على اإلطـــالق القول إن «أردوغــــا­ن» استطاع الــركــوب على ظهر الديموقراط­ية لبسط سلطان الديكتاتور­ية فـي أرجــاء تركيا باستغالل هــذه الواقعة، مــســنــو­دا فــي ذلـــك بــآلــة إعـالمــيـ­ـة نـشـطـة، وقــودهــا اآليديولوج­ية اإلخوانية بنزعاتها املعروفة. وواقــــع الــحــال كــذلــك يـشـيـر إلـــى أن أردوغـــــ­ـان اســتــطــ­اع أن يدجن الساحة السياسية التركية لصالح حزبه بشكل يضمن له البقاء في السلطة بنزعة «السلطان» اآلمر، وال تعدو العملية االنتخابية التي تجري في تركيا بهذا الشكل كونها مجرد استغالل إلحدى الــوســائ­ــل الــديــمـ­ـوقــراطــ­يــة فــي اإليــهــا­م بــالــحــ­ريــة، واالنــســ­جــام مع أدبيات املجتمعات األوروبية، والحال املشاهد على أرض الواقع على غير هذا الظاهر على اإلطالق. ولكن يبقى معارضو الخارج شوكة في حلق أردوغــان وسلطته، ومظهر ذلــك يتجلى فـي سعي «رجــب» الـــدؤوب مـن أجــل القبض عـلـى غـريـمـه الـــلـــد­ود؛ فـتـح الــلــه غــولــن، بـحـجـة قــيــادتـ­ـه لالنقالب العسكري، والحكم عليه بذلك من قبل القضاء التركي، ويتولى أردوغــــا­ن بنفسه مهمة مــطــاردة «غــولــن» وبـعـض مـنـاصـريـ­ه في أقـطـار الـعـالـم، حـامـال حكم قضاته فـي حقيبته، ومـلـوحـًا بـه في زياراته للبلدان التي تؤوي هؤالء املعارضني لحكمه، على نحو ما جرى في زيارته لجمهورية أملانية االتحادية أخيرًا، حيث لم يكتف باملطالبة في حدها املتسم باألعراف الدبلوماسي­ة؛ بل وجه انتقادًا للحكومة األملانية في إيوائها للمعارضني واالنقالبي­ني - على حد زعمه -؛ ليقابل ذلك بهجوم معاكس من قبل القيادة األملانية في صـورة انتقادات واضحة وصريحة للمسالك غير الديموقراط­ية التي انتهجها في موضوع االنقالب العسكري الفاشل، واستغالل ذلـك فـي تصفية خصومه السياسيني، غير معترفني بما انتهت إليه محاكمه من إدانات، بما يسقط عنها أي التزام بالتسليم.. مما أدخل «أردوغان» في حرج بالغ، خصوصا أن تلك الزيارة شهدت الــعــديـ­ـد مــن املــظــاه­ــرات املــنــدد­ة بحكومته ومـــا اقـتـرفـتـ­ه فــي حق معارضيها.. واملدهش أن «رجب» وصف الزيارة بـ«الناجحة»! إن ما جرى لـ «أردوغان» في أملانيا، كان له نظير في الواليات املتحدة األمريكية، وسيكون له مثيله في كـل األقـطـار، طاملا ظـل «رجب» يـقـوم بوظيفة «اإلنــتــر­بــول»، ويــطــارد مـعـارضـيـ­ه بـهـذه الطريقة التي ال تنسجم مع وظائف رئيس الـدولـة، فلو كـان منسجمًا مع روح الديموقراط­ية التي يدعيها؛ لترك لألجهزة املعنية أن تقوم بــأداء مهامها دون إمـــالءات أو خطابات ديماجوجية تجيشية، أو أساليب قمعية، عندها سيحترم العالم قـضـاءه، ويلتزم بما يـصـدره مـن أحــكــام، ويـسـاعـد فـي إنـفـاذهـا بما يستطيع تحقيقًا للعدالة، وبخالف ذلك؛ فمن «الغباء» إلزام دول راسخة في قواعد اللعبة الديموقراط­ية، باملساعدة في تكريس نفوذ ديكتاتوري، عبر مشهد هزلي ساذج في املسرحيات األردوغاني­ة.. ولهذا أكاد أجزم أن مشهد التعامل مع االنقالب العسكري سيكون حاضرًا عند «رجب» في ملف «خاشقجي».. إن تـركـيـا األردوغـــ­انـــيـــة بشكلها الــحــاضـ­ـر، وسـيـاسـتـ­هـا املاثلة تعيد إنتاج الدولة العثمانية بشكل أو آخر، في زمن ال يحتمل «الـــســـا­لطـــني»، وال يـفـسـح مـــجـــاا­ل لـــ«الــظــل الـــعـــا­لـــي»، و«األحـــــا­لم االستعالئي­ة»، وطـاملـا بقيت مثل هــذه األحــالم واقــرة فـي العقل الـقـائـد لتركيا الــيــوم، فسيظل وجــودهــا فــي املـحـيـط األوروبي قلقًا من الناحية السياسية، وكأنها مستنبة جغرافيًا في غير مـوضـعـهـا الــالئــق بــهــا، ولـــن تــنــال حــظــوة الــدخــول فــي االتحاد األوروبي مهما داومت القرع وهي على هذه الحالة املتأرجحة ما بني إكمال شروط الديموقراط­ية على املنهج األوروبــي، ونوازع الـتـسـلـط عـلـى وقـــع اإلرث الـعـثـمـا­نـي. كـمـا سـيـظـل وجــودهــا في أطراف الشرق األوسط اليوم، مسورا بالريبة، ومحفوفا بالحذر، تثقله ذاكــرة التاريخ بما صنعته الـدولـة العثمانية، وتنتاشه شواهد الحاضر بما تصنعه اآليديولوج­يا اإلخوانية التي تسير مفاصل الدولة األردوغاني­ة، مذكرًا بما يفعله رجب مع إسرائيل التي يملك عالقات مميزة معها وفـي نفس الوقت يضحك على السذج واملضحوك عليهم أنـه نـار عليهم في خطاب تحريضي ممجوج.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia