الدستور: تعديله وَخْرقه!
الدستور هو مؤسسة سياسية قائمة بذاتها، دون أن تكون بحاجة إلى رموز أو حقائب أو بيروقراطية أو مقاعد سلطوية.. أو إلى مبان وأجهزة ومؤسسات حكومية. كما أن الدستور، باإلضافة إلى كونه مواد وفقرات وفصوال وأبوابًا مكتوبة، وأحيانًا قد تكون غير مكتوبة، ال يشارك في حركة الصراع على السلطة.. ويظل حكمًا نافذًا في حركة الصراع في ما بن أفـــرع الـحـكـومـة املختلفة، وضـبـط آلــيــات الـعـالقـة فــي ما بينها، وفقًا لصيغة الفصل بـن السلطات.. أو افتراض التعاون بينها. الــدســتــور بــهــذه املــكــانــة املــؤســســاتــيــة الــرفــيــعــة الحاكمة والنافذة بن مؤسسات السلطة، في داخل املجتمع وحتى مجال حركتها الخارجي، فإن نفوذه وسطوته ومضمون حجية منطقية وجـوده تختلف من نظام سياسي آلخر، تبعًا ملستوى التنمية السياسية في املجتمعات املختلفة.. وتاريخية شرعية أنظمة الحكم فيها.. ومدى دقة وانتظام حــركــة مــؤســســات الــحــكــومــة.. وعــالقــتــهــا مـــع مؤسسات املجتمع املدني، وموقفها من قضايا الحقوق والحريات في املجتمع. لنفهم الفرق بن دساتير الــدول املختلفة، ومـا إذا كانت مـــواد الـدسـتـور وأحـكـامـه تحظى بمكانة نــافــذة وفعالة في النظام السياسي، من عدمها، علينا أن ننظر بإمعان في طريقة تعديله واإلضـافـة إليه. علينا بـدايـة: أن نقرر حقيقة أن الدستور ليس نصًا مقدسًا منزال من قوة غيبية قاهرة، ال يمكن التدخل في نصوصه وأحكامه بالتعديل واإلضافة. أي دستور، في حقيقة األمر، ال يعدو كونه وثيقة سياسية تمت كتابتها من قبل بشر في مرحلة تاريخية سابقة لنشوء الدولة، أو الحقة لقيامها. لكن األصل: يعد الدستور بمثابة عقد اجتماعي لنشوء السلطة السياسية في املجتمع، ومن ثم قيام الكيان السياسي (الدولة). الدستور، كما سبق ذكـره قد يكتب في ظل دولـة قائمة. في هذه الحالة ال يكون وثيقة منشأة لكيان الدولة، بقدر ما هو وثيقة لتنظيم أو إعــادة تنظيم لسلطة سياسية قــائــمــة. أيـــضـــًا: فـــي هــــذه الــحــالــة األخـــيـــرة لــســنــا بصدد الحديث عن دستور ذي مكانة قانونية وأخالقية فاعلة، بقدر ما يكون عبارة عن إعــادة كتابة نظام قيم جديد، لعهد ناشئ ليس بالضرورة يتمتع فيه الدستور بمكانة سياسية وقانونية وأخالقية رفيعة ونافذة، كتلك التي يتمتع بـهـا فــي صـيـغـة عـقـد اجـتـمـاعـي مـنـشـئ للسلطة تمهيدًا لقيام الدولة. هذا الفرق بن الدساتير في ما يخص تاريخية كتابتها، هو الـذي يشكل الفرق بن دستور يتمتع بمرونة كافية لـتـعـديـلـه.. وآخـــر يـسـهـل خـــرقـــه ويـفـقـد بـالـتـالـي حجيته األخــالقــيــة والــقــانــونــيــة.. وفــاعــلــيــتــه الــســيــاســيــة. لــكــن ال تعني مرونة التعامل مع الدستور التطاول على الغاية من كتابته.. والتالعب بمضمون نصوصه، وفقًا للهوى السياسي لحركة السلطة وقيمها في املجتمع. النوع األول من الدساتير، التي تحمل نصوص وأحكام تـعـديـلـهـا بـمـوجـب آلــيــات تــتــفــاوت درجــــة مـرونـتـهـا من نظام سياسي آلخر يمثل نموذجها الدستور األمريكي. الــدســتــور األمــريــكــي هـــو فـــي حـقـيـقـة األمــــر وثــيــقــة عقد اجتماعي أنشأ السلطة السياسية، تمهيدًا لقيام الدولة، بدأ في ديباجته، بعبارة: نحن شعب الواليات املتحدة... وضعنا ورسمنا الدستور اآلتي. وبما أن نتاج الدستور كان نشوء السلطة السياسية، ومن ثـم قيام الدولة وفقًا للغايات التي وردت فـي ديباجة الـدسـتـور، فـإن دستور الـــواليـــات املــتــحــدة مــن أكــثــر دســاتــيــر الــعــالــم جــمــودًا، إذ يقتضي إجراء أي تعديل عليه موافقة ثالثة أرباع أعضاء الكونغرس.. أو ثالثة أرباع أعضاء السلطات التشريعية في الواليات. من هنا يصعب التالعب بدستور الواليات املتحدة، إن لم يستحيل إعادة كتابته... واألهم: تستحيل عملية خــرق أحكامه وتـجـاوز نصوصه، دون املساومة عـلـى اســتــقــرار الــواليــات املــتــحــدة.. وانــضــبــاط الحكومة الفيدرالية، وضمان عدم جنوحها لالستبداد.. واحترام ضمان حقوق وحريات مواطني الجمهورية. أمــا الـدسـاتـيـر األخــــرى، الـتـي تتغير بتغير قـيـم وحركة الـــنـــظـــام الـــســـيـــاســـي.. وتــغــيــيــر رمــــــوز الــســلــطــة وحركة مؤسساتها، فإنه ليس من الصعب فقط إعــادة كتابتها وفقًا لهوى النخب الحاكمة... بل إنه مع وجودها ليست هناك من ضمانات عملية دون خرق نصوصها وتجاوز أحكام مضمونها، مع االدعاء باحترامها. كثير من دساتير العالم األخرى تجري عملية إعادة كتابتها عشرات املرات، تبعًا لتغيير نخب الحكم فيها، خاصة تلك التي تأتي عن طريق االنقالبات العسكرية.. والحروب األهلية، والثورات االجتماعية. معظم دساتير دول أمريكا الالتينية جرت إعـــادة كتابتها عـشـرات املــــرات.. وكثير مـن دساتير دول عاملية وجـودهـا مثل عدمها.. وبعضها ال يساوي املداد الذي كتبت به، نظرًا لعدم احترامها والتمادي في خرقها، رغم وجودها. لـلـحـكـم عــلــى اســتــقــرار وتـــقـــدم مـجـتـمـع مـــن املجتمعات السياسي والحضاري، البد من قـراءة الدستور.. وإمعان النظر في طريقة تعديله.. والتبصر في تاريخية ظروف كتابته.