Okaz

الدستور: تعديله وَخْرقه!

-

الدستور هو مؤسسة سياسية قائمة بذاتها، دون أن تكون بحاجة إلى رموز أو حقائب أو بيروقراطية أو مقاعد سلطوية.. أو إلى مبان وأجهزة ومؤسسات حكومية. كما أن الدستور، باإلضافة إلى كونه مواد وفقرات وفصوال وأبوابًا مكتوبة، وأحيانًا قد تكون غير مكتوبة، ال يشارك في حركة الصراع على السلطة.. ويظل حكمًا نافذًا في حركة الصراع في ما بن أفـــرع الـحـكـومـ­ة املختلفة، وضـبـط آلــيــات الـعـالقـة فــي ما بينها، وفقًا لصيغة الفصل بـن السلطات.. أو افتراض التعاون بينها. الــدســتـ­ـور بــهــذه املــكــان­ــة املــؤســس­ــاتــيــة الــرفــيـ­ـعــة الحاكمة والنافذة بن مؤسسات السلطة، في داخل املجتمع وحتى مجال حركتها الخارجي، فإن نفوذه وسطوته ومضمون حجية منطقية وجـوده تختلف من نظام سياسي آلخر، تبعًا ملستوى التنمية السياسية في املجتمعات املختلفة.. وتاريخية شرعية أنظمة الحكم فيها.. ومدى دقة وانتظام حــركــة مــؤســســ­ات الــحــكــ­ومــة.. وعــالقــت­ــهــا مـــع مؤسسات املجتمع املدني، وموقفها من قضايا الحقوق والحريات في املجتمع. لنفهم الفرق بن دساتير الــدول املختلفة، ومـا إذا كانت مـــواد الـدسـتـور وأحـكـامـه تحظى بمكانة نــافــذة وفعالة في النظام السياسي، من عدمها، علينا أن ننظر بإمعان في طريقة تعديله واإلضـافـة إليه. علينا بـدايـة: أن نقرر حقيقة أن الدستور ليس نصًا مقدسًا منزال من قوة غيبية قاهرة، ال يمكن التدخل في نصوصه وأحكامه بالتعديل واإلضافة. أي دستور، في حقيقة األمر، ال يعدو كونه وثيقة سياسية تمت كتابتها من قبل بشر في مرحلة تاريخية سابقة لنشوء الدولة، أو الحقة لقيامها. لكن األصل: يعد الدستور بمثابة عقد اجتماعي لنشوء السلطة السياسية في املجتمع، ومن ثم قيام الكيان السياسي (الدولة). الدستور، كما سبق ذكـره قد يكتب في ظل دولـة قائمة. في هذه الحالة ال يكون وثيقة منشأة لكيان الدولة، بقدر ما هو وثيقة لتنظيم أو إعــادة تنظيم لسلطة سياسية قــائــمــ­ة. أيـــضـــًا: فـــي هــــذه الــحــالـ­ـة األخـــيــ­ـرة لــســنــا بصدد الحديث عن دستور ذي مكانة قانونية وأخالقية فاعلة، بقدر ما يكون عبارة عن إعــادة كتابة نظام قيم جديد، لعهد ناشئ ليس بالضرورة يتمتع فيه الدستور بمكانة سياسية وقانونية وأخالقية رفيعة ونافذة، كتلك التي يتمتع بـهـا فــي صـيـغـة عـقـد اجـتـمـاعـ­ي مـنـشـئ للسلطة تمهيدًا لقيام الدولة. هذا الفرق بن الدساتير في ما يخص تاريخية كتابتها، هو الـذي يشكل الفرق بن دستور يتمتع بمرونة كافية لـتـعـديـل­ـه.. وآخـــر يـسـهـل خـــرقـــه ويـفـقـد بـالـتـالـ­ي حجيته األخــالقـ­ـيــة والــقــان­ــونــيــة.. وفــاعــلـ­ـيــتــه الــســيــ­اســيــة. لــكــن ال تعني مرونة التعامل مع الدستور التطاول على الغاية من كتابته.. والتالعب بمضمون نصوصه، وفقًا للهوى السياسي لحركة السلطة وقيمها في املجتمع. النوع األول من الدساتير، التي تحمل نصوص وأحكام تـعـديـلـه­ـا بـمـوجـب آلــيــات تــتــفــا­وت درجــــة مـرونـتـهـ­ا من نظام سياسي آلخر يمثل نموذجها الدستور األمريكي. الــدســتـ­ـور األمــريــ­كــي هـــو فـــي حـقـيـقـة األمــــر وثــيــقــ­ة عقد اجتماعي أنشأ السلطة السياسية، تمهيدًا لقيام الدولة، بدأ في ديباجته، بعبارة: نحن شعب الواليات املتحدة... وضعنا ورسمنا الدستور اآلتي. وبما أن نتاج الدستور كان نشوء السلطة السياسية، ومن ثـم قيام الدولة وفقًا للغايات التي وردت فـي ديباجة الـدسـتـور، فـإن دستور الـــواليـ­ــات املــتــحـ­ـدة مــن أكــثــر دســاتــيـ­ـر الــعــالـ­ـم جــمــودًا، إذ يقتضي إجراء أي تعديل عليه موافقة ثالثة أرباع أعضاء الكونغرس.. أو ثالثة أرباع أعضاء السلطات التشريعية في الواليات. من هنا يصعب التالعب بدستور الواليات املتحدة، إن لم يستحيل إعادة كتابته... واألهم: تستحيل عملية خــرق أحكامه وتـجـاوز نصوصه، دون املساومة عـلـى اســتــقــ­رار الــواليــ­ات املــتــحـ­ـدة.. وانــضــبـ­ـاط الحكومة الفيدرالية، وضمان عدم جنوحها لالستبداد.. واحترام ضمان حقوق وحريات مواطني الجمهورية. أمــا الـدسـاتـي­ـر األخــــرى، الـتـي تتغير بتغير قـيـم وحركة الـــنـــظ­ـــام الـــســـي­ـــاســـي.. وتــغــيــ­يــر رمــــــوز الــســلــ­طــة وحركة مؤسساتها، فإنه ليس من الصعب فقط إعــادة كتابتها وفقًا لهوى النخب الحاكمة... بل إنه مع وجودها ليست هناك من ضمانات عملية دون خرق نصوصها وتجاوز أحكام مضمونها، مع االدعاء باحترامها. كثير من دساتير العالم األخرى تجري عملية إعادة كتابتها عشرات املرات، تبعًا لتغيير نخب الحكم فيها، خاصة تلك التي تأتي عن طريق االنقالبات العسكرية.. والحروب األهلية، والثورات االجتماعية. معظم دساتير دول أمريكا الالتينية جرت إعـــادة كتابتها عـشـرات املــــرات.. وكثير مـن دساتير دول عاملية وجـودهـا مثل عدمها.. وبعضها ال يساوي املداد الذي كتبت به، نظرًا لعدم احترامها والتمادي في خرقها، رغم وجودها. لـلـحـكـم عــلــى اســتــقــ­رار وتـــقـــد­م مـجـتـمـع مـــن املجتمعات السياسي والحضاري، البد من قـراءة الدستور.. وإمعان النظر في طريقة تعديله.. والتبصر في تاريخية ظروف كتابته.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia