هل ميكن للغراب أن يدر حليبًا !
كان ذلك قبل عقدين من العمر الشقي، حينما صـادفـت فـي حياتي كائنا، وهبته فرحي، وبــــيــــادر إخــــالصــــي ومــحــبــتــي، وأسكنته البحر، وجنبته الزوابع، وأضفيت عليه من خيالء روحي، وظل في جغرافية حياتي حائما كفراشة، ومنهمرا كبرق عــتــيــق، ظــل يـقـاسـمـنـي رزقــــي وعــرقــي وجــــــذوري، وكنت أدفـع به إلى الشمس عله يغتسل بالضوء، وبعد عقدين من العمر الشقي، اكتشفت أنـه، فاحشة عظمى، وأكذوبة أحالم كفيف، قرصان من قراصنة املاء واليابسة والهواء، سـمـسـار يـبـيـع بــاملــزاد أســـرة الــعــرائــس فــي يـــوم زفافهم، وحـلـيـب األطــفــال قـبـل قـدومـهـم، واسـتـحـال إلــى طاووس تحيطه دائرة هشة من الظل الكثيف، يمارس من خاللها أرشفة أيامه التي انقضت، ويجتر في فضائها أمجاده الباهتة، وأحاط نفسه بقطيع من القطط الداجنة، وقطيع من الدجاج الــذي ال يتقن اإلبـاضـة، وقطيع من الخرفان املعدة للذبح يوميا، واستمر يرتدي قبعات مختلفة في كــل حفلة تـنـكـريـة، يعبر بـهـا أبــخــرة املحتفلني بحتفه، وأغــنــيــات الــراقــصــني عـلـى مــثــواه األخــيــر، وإذا كــان ثمة فرح حملته الحياة لي على كفها، فهو يوم انسحابه من حياتي، كان انسحابه من حياتي فجرًا باسمًا، وإذا جاء ك الفجر انطلق كي ترى األشياء على حقيقتها، وإذا أقبل الليل توقف، فال مكان لك في الظلمة، توقف، وابدأ بحثك عــن فـجـر جــديــد، فـهـذا الـعـالـم الــرحــب حـافـل بالشموس، وتأبطت عصاي، كي أمشي بعيدا، عندما تحمل عصي الثقة، يطيب لـك البعاد، وتنبسط األرض تحت قدميك، وتـفـتـح لــك الــجــبــال أبـــوابـــًا، كــي تـعـبـر أوديــتــهــا، وتدشن مراعيها، وتسمع غناء رعاة آخرين بلغات شتى، وبقدر الــلــغــات الــتــي تـسـمـعـهـا تــحــتــرم لــغــة مــهــدك، وأبجديتك األولــــى، أمــا هــو فـقـادتـه مسالكه الــوعــرة، وأقــدامــه التي كانت تسير في دروب لزجة ال تنتهي، إلـى الغوص في الوحل، وحدث الطوفان، الطوفان ال يحدث قبل أن يبتل وجه األرض بحبات الرذاذ األولى، تحول إلى ذلك الحمار الذي انغرست قائمتاه في مستنقع وحل مجهول، فال هو قادر على مواصلة الحياة قبل أن يكبو، وليس بمقدوره أن يـسـتـعـيـد تـــوازنـــه، كـــي يــضــمــن انــســحــابــًا مــشــرفــًا من البيدر، لقد فقد اللحظة األكثر أهمية في الحياة، لحظة االنعطاف نحو ما هو أكثر شموال، وأعظم شأنًا، أن يعلن توبته عن الشرف، أصبح مثل حصاد أوقف منجله، في نصف دورته حول أعواد القمح، ظل املنجل معلقا في يده املنكمشة في كف مهشم األصابع، بينما تطايرت بضعة سنابل فـي الـهـواء، يذكرني مـا هـو فيه بقصة «الغراب» الذي اصطاده قناص بعد أن وصل به الحنق تجاه قيام الغراب بخطف وسرقة كل ما تقع عليه عيناه، ووضعه فـــي الــقــفــص، فـــي ســاحــة الــبــيــت، وكـــــان األطـــفـــال يأتون ملشاهدته وكذلك الضيوف القادمون من القرى املجاورة، بينما يقبع الغراب في زاوية قفصه، ينتف ريشه ويولول كل صباح، صاحت به البقرة في حظيرتها، أيمكنك أن تنتج لترًا واحدًا من الحليب مقابل ما سرقته كي يطلق صاحبي سراحك؟ كال أجاب الغراب ممتعضا، إذًا لن تنال من الطعام إال ما أخلفه لك من فضالت، صمت الغراب، ثم عاود نتف ريشه، هل يمكنك أن تحمل «شواال» من القمح على ظهرك من الحقل إلى املنزل؟ سأله الحمار القابع وراء «معلفه» ملوحًا بذيله يمينًا ويسارًا، كال أجـاب الغراب، بـكـل مــا أوتـــي مــن الــقــرف واالمــتــعــاض، إذًا كــف عــن هذا االمتعاض، أنت ال تدر حليبًا وال تحمل أسفارًا، وتسرق ما ليس لـك، أنـت غير مجد لـذوي االهتمامات الخاصة، واســتــمــر الــغــراب يـنـتـف ريــشــه، رفـيـقـي والـــغـــراب تـــوأم ال انفصام بينهما، لنهاية مثيرة لألسى، لكنها ال تتنافى مع منطق عفونة الكائنات!