Okaz

ضرورة احلوار وتالقح األفكار

-

يقول الفيلسوف اإلنجليزي برتراند راسل مــتــحــد­ثــا عـــن عــالقــة الــنــهــ­ضــة بــالــفــ­كــر في ســيــاق الــحــضــ­ارة الــغــربـ­ـيــة: «إن النهضة األوروبــي­ــة قامت على نتاج الجهود الفكرية ألكثر من مائة مفكر». وهذا يعني أن مجرى نهر املعرفة في الحضارة الغربية قد سـار عبر األجـيـال املختلفة، تالقحت فيه أفكار أهم الفالسفة بعد أن دخـلـت فـي جــدل وحـــوار فيما بينها، وعدلت أسسها وبنيتها، فتراكمت املعارف التي وضعت األسس الفكرية والعلمية للنهضة األوروبية. توضح لنا تلك املقولة املهمة، الفضيلة الغائبة في مسار حـضـارتـنـ­ا الـعـربـيـ­ة اإلســالمـ­ـيــة، وهـــي الــحــوار وتالقح األفكار واملذاهب وتراكم املعرفة. ومــع غياب تلك الفضيلة خــرج الـعـرب مـن دوائــر صنع التاريخ والحضارة منذ القرن السادس الهجري، وصار كـل صـاحـب رأي يعيش ويفكر فـي جـزيـرة منعزلة عن اآلخرين، وإذا خرج للواقع استقوى بالسلطة، ومارس سياسة اإلقصاء والعدوان على وجود وفكر اآلخر، كما فعل املعتزلة تجاه خصومهم فـي قضية خلق القرآن، ومثلما فعل اإلمام الغزالي تجاه خصومه من الفالسفة. وفي مقال نشر هذا األسبوع بموقع «مـصـراوي» تحت عـنـوان «جـنـايـة اإلمـــام الـغـزالـي والفيلسوف ابــن رشد» عــــرض األكـــادي­ـــمـــي والــكــات­ــب املـــصـــ­ري املــتــخـ­ـصــص في الفلسفة الدكتور أحمد عمر، لجذور التكفير واإلقصاء ورفــض الــحــوار وعــدم قـبـول اآلخـــر، وأثــرهــم فــي جفاف وتصحر حياتنا العقلية. أوضــح الكاتب أبعاد هجوم اإلمام الغزالي في كتابه «تهافت الفالسفة» على الفالسفة ورفـض وجودهم وتكفيرهم، ثم هجوم الفيلسوف ابن رشـد في كتابه «تهافت التهافت» على اإلمــام الغزالي، ومــمــارس­ــة ابــــن رشــــد بـــــدوره نـــوعـــا مـــن اإلقـــصــ­ـاء املرن لآلخرين عندما قال بنخبوية الفلسفة واملشتغلني بها. كـمـا عـــرض لـــدور الـسـلـطـة الـسـيـاسـ­يـة متمثلة فــي بالد املشرق العربي في نظام الوزير السلجوقي «نظام امللك»، ومتمثلة فــي بــالد األنــدلــ­س فــي «يــوســف بــن تاشفني» مؤسس دولة املوحدين وخلفائه في نصرة أفكار اإلمام الــغــزال­ــي، واضــطــهـ­ـاد أصــحــاب األفـــكــ­ـار األخـــــر­ى، ألنها وجــدت أن مذهب الغزالي يحقق أهدافها، ويحفظ لها استقرارها. قــائــال: «لـــو ظــل األمـــر فـيـمـا بينهما فــي دائــــرة الخالف والــنــقـ­ـاش الــفــكــ­ري، بــعــيــد­ا عــن الــســيــ­اســة، لـربـمـا التقى التصوف مع الفلسفة، واعترف كل منهما باآلخر وبحقه في الوجود، دون استبعاد أو إقصاء أو تكفير؛ فالفلسفة تمثل البعد العقلي في اإلسالم، والتصوف يمثل البعد الروحي، وكل منهما ينبع من احتياج إنساني أصيل، ويمكنهما أن يتكامال دون صــدام؛ فتبدأ الفلسفة كما يــبــدأ الـتـصـوف بمسلمة اإليــمــا­ن بـالـلـه والـتـأكـي­ـد على البعد املفارق واملتسامي للوجود اإلنساني، ثم يسعيان مــعــا لـخـلـق وتــطــويـ­ـر مـنـهـج مـمـيـز لــلــوصــ­ول للحقيقة، منهج يجمع بـني الـحـدس والـــذوق الـصـوفـي والتفكير والـبـرهـا­ن العقلي، ويـدفـع بالحضارة اإلسـالمـي­ـة نحو الرقي والتقدم». هــــذا يــعــنــي تـــجـــاو­ز حـــالـــة الــقــطــ­يــعــة بــيــنــه­ــمــا وتالقي أفكارهما وتالقحها، يؤدي إلى تراكم املعرفة، وحدوث نهضة فكرية في سياق الحضارة اإلسالمية. وبناء على ما سبق يمكن القول إن هجوم اإلمام الغزالي على الـفـالسـف­ـة، والـهـجـوم املــضــاد الــذي شنه ضــده ابن رشد، ثم تدخل السياسة بأهدافها البراجماتي­ة في نصرة الغزالي والبطش بالفالسفة، كانت له نتائج كارثية على حضارتنا وحياتنا العقلية؛ حيث رسخ لفعل اإلقصاء ورفــض حضور اآلخــر وفـكـره، فـي حياتنا االجتماعية والـفـكـري­ـة، وأغـلـق بــاب الــحــوار وتـالقـح األفــكــا­ر، وجعل مــن االشــتــغ­ــال بـالـفـكـر شــأنــا نــخــبــو­يــا يــخــص الصفوة العقلية املتهمة دائما من املتشددين بالهرطقة والزندقة والتعدي على الثوابت. وفي العصر الحديث تصاعد هذا اإلقصاء، وانتقل من الـسـب والتحقير وحــرق الكتب والـجـلـد والـحـبـس، إلى القتل على يد الدواعش وقبلهم اإلخونجية والقاعدة، وغــيــرهـ­ـم مــن املــتــشـ­ـدديــن الــذيــن يـسـعـون دائــمــا إلحياء مـــعـــار­ك وصــــراعـ­ـــات املـــاضــ­ـي الــفــكــ­ريــة، بــهــدف القضاء على املخالفني لهم، على نحو يـزيـد مـن مـأسـاة خروج املسلمني من دائرة صنع الحضارة، ويجعلهم يعيشون خارج التاريخ. والسبيل لخروجنا من هذا الوضع البائس، هو الحوار وتــالقــح األفــكــا­ر مــن أجــل مــد الـجـســور بــني االتجاهات املتعارضة، بني املاضي والحاضر، بني املسلمني والعصر الذي يعيشون فيه، ومن أجل أن نصنع ألنفسنا حضورا ودورا وهــويــة مميزة فــي الـعـالـم املـعـاصـر؛ ألن الهوية مــتــجــد­دة ولـيـسـت ثــابــتــ­ة، وهـــي «الــهــويـ­ـة بــنــت الــــوالد­ة، لكنها في النهاية إبداع صاحبها ال وراثة ماض».

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia