مخطط العني وأبوظبي.. مزج األصالة والتحديث
انسجام بني القائد واملعماري.. حّول املستحيل إلى واقع
في مايو ،1972 أسس مخلوف املكتب العربي للتخطيط والعمارة الذي أنجز من خالله العديد من املشروعات والتخطيطية في اإلمــارات، كما أنـه أنتدب كأستاذ محاضر في كلية الهندسة بجامعة اإلمارات في العامني الدراسيني 84/83 .85/84و ولهذا كله، يمكن القول إن مخلوف كان شاهدا من شهود العصر على تحديث مدينتي أبوظبي والعني وتحويلهما من مدن صحراوية إلى حواضر كوزموبولينية بتوجيه وإرشــاد من الشيخ زايــد -رحمه الله- الــذي أرادهـمـا مدنا تجارية وتواكب العصر وفق أحدث الخطط العمرانية. ووفقا لهذه الرؤى السديدة، قام مخلوف بإعداد دراسة علمية محكمة بعد أن تعرف على معالم أبوظبي وتاريخها وتكوينها الثقافي واالجتماعي في الخمسينات والستينات حينما كانت صغيرة الحجم، محدودة السكان، متواضعة االحتياجات واإلمكانيات، وال تتجاوز أدوار مبانيها الدور الواحد، وال تتسع طرقاتها ملرور سيارة واحدة، وسط ظروف طبيعية ومناخية قاسية. كانت توجيهات الشيخ زايد -آنذاك- تستهدف توفير حياة كريمة لإلنسان، وتشكيل مكان أمثل ملعيشته وحياته واستقراره من النواحي االجتماعية واالقتصادية مع املحافظة على أصالة املكان وقيم الزمان املتوارثة.. فال مواقع ذات قيمة أثرية تزال.. وال أشجار أو نخيل تقطع، وإنما يتم التجديد واملحافظة والصيانة بأساليب علمية مبتكرة. وهكذا، وبدعم وثقة غير محدودين من قبل الشيخ زايد، شمر مخلوف عن ساعده وراح يضع التصاميم والهياكل التخطيطية لتعمير وتحديث أبوظبي مستثمرا في ذلك كل ما تعلمه وراكمه من خبرات وتجارب. في هذا السياق، يخبرنا املستشار اإلعالمي املصري شعيب عبدالفتاح في مقال ضمن سلسلة مقاالته عن (أبناء مصر في الخارج) ما مفاده أن أول ما فكر فيه مخلوف عند تخطيطه ملدينة أبوظبي كان خلق مساحات شاسعة من الحدائق العامة كي تكون بمثابة عنصر تجميل للمدينة وعنصر ترويح للمواطن والوافد، ثم راح يهيئ مواقع ملختلف الخدمات واملرافق التي تستجد الحاجة لها مستقبال، مع الحرص على زيادة املسافات الفاصلة بني املباني املتقابلة، وهو ما أتاح مرونة فائقة لجهة تصميم شبكات الطرق الرئيسية وامليادين التي تتوسطها، وتشييد الجسور والجزر الفاصلة بني اتجاهات الطرق. كما حرص مخلوف على حفر قناة حول جزيرة أبوظبي لتسيير املالحة حولها، وقام بتعميق املياه الضحلة لتخفيف نسبة الرطوبة، واستخدم نتائج الحفر في كسب أراض عمرانية في جزيرة أبوظبي، مما أضفى عليها طابعا جماليا مميزا إلى درجة أنها اختيرت في عام 2005 كواحدة من بني أجمل املدن العربية، إن لم يكن أجملها على اإلطالق. مما ال شـك فيه أن الـرجـل واجــه تـحـديـات جسيمة ومـعـوقـات كثيرة فـي عمله، خصوصا أن مهمته كـانـت فــي حقبة الـسـتـيـنـات، حـيـث املـعـلـومـات شحيحة وأدوات الـعـمـل بدائية والتكنولوجيا بعيدة مقارنة بما توفر في العقود التالية. غير أن اإلرادة والعزيمة انتصرت على كل التحديات. وفي هذا السياق، قال مخلوف لصحيفة اإلتحاد :)5/9/2018( «إلى جانب مسؤوليات القائد (يقصد الشيخ زايد) السياسية على املستويات املحلية واإلقليمية والـدولـيـة، كانت استجابته لتلك التحديات ببذل الجهود الـدائـبـة عبر سـنـوات متتالية، لـم يمض منها يــوم دون مباشرته إدارة املـهـام العمرانية بمختلف جوانبها كالتوجيه واملراجعة واملتابعة امليدانية والحسم والبت وتسهيل الصعاب وتذليل العقبات واملضي بعزم وعزيمة نحو الهدف دون تراجع وصوال إلى ما نراه اليوم في أرجاء البالد من نهضة عمرانية شـامـلـة». وأضــاف مخلوف أن الكثير مـن املـشـروعـات العمرانية والخدمية التي ألح عليها الشيخ زايد في مخطط مدينة أبوظبي، بدت لبعض املسؤولني آنذاك ضربا من الخيال وبعيدة املنال أو مستحيلة التحقيق. ويتذكر مخلوف ما جرى عند التقائه الشيخ زايـد في قصر البحر سنة ،1974 حيث كان مـوضـوع اللقاء تسمية الـشـوارع الرئيسية فـي مدينة أبوظبي، فيقول فـي كتاب مذكراته سالف الذكر: «اختار الشيخ زايد األسماء املعروفة اآلن في املدينة، وهي في مجملها ذات دالالت حكيمة: الوفاء لألجداد من آل نهيان.. وتأكيد اإلحساس باملدى الجغرافي ألبوظبي، شوارع مهمة بأسماء أماكن جغرافية: دملا، بني ياس، البطني. ومن املعاني الدالة على أهدافه نحو أبناء وطنه اختياره اسمًا فريدًا ألحـد أهـم شــوارع أبوظبي (شــارع الـسـعـادة)، وهذا يذكرني بما قاله أرسطو عن املدينة املثالية؛ أن تكون بجانب تأدية وظيفتها األساسية: (توفير املأوى والحماية لسكانها) مصدرًا لسعادة اإلنسان». ولعل أفضل دالئل االنسجام واالندماج بني القائد زايد واملهندس مخلوف تجلت في صورة فوتوغرافية متداولة يظهر فيها الرجالن وهما جالسان على األرض بتواضع وأمامهما رسـم تخطيطي مجسم ملدينة أبوظبي، حيث يبدو مخلوف وهـو يشرح بتعمق تفاصيل املخطط، بينما يستمع الشيخ زايد باهتمام واضح.