Okaz

واشنطن: صراع املؤسسات

-

مــــن أهـــــم مـــخـــرج­ـــات الــنــظــ­ريــة الــســيــ­اســيــة الليبرالية صيغة الـفـصـل بــني الـسـلـطـا­ت. فــي الـنـظـريـ­ة واملمارسة الديمقراطي­ة، وأنــه ال يمكن تصور السلطة السياسية وال حـتـى تــوقــع سـلـوكـهـا وحـركـتــه­ـا، وكــأنــهـ­ـا كــيــان سـيـاسـي متماسك ومتجانس، في مواجهة القيام بمسؤولياته­ا. حتى تتم اإلطاحة بهالة «الـقـدسـيـ­ة الـسـيـاسـ­يـة»، الـتـي كـانـت تشكل عـصـب الـشـرعـيـ­ة السياسية لبعض أنظمة الحكم التقليدية، كــان مـن الــضــرور­ي النظر نـظـرة شك وريــبــة ملـؤسـسـات الـسـلـطـة الـسـيـاسـ­يـة ورمــوزهــ­ا فــي الــغــرب، حـتـى تتم السيطرة على حركتها.. وضمان عدم جنوحها لالستبداد. لـذا كـان الـهـدف: إيـجـاد حكومة ضعيفة، فـي مواجهة حقوق وحريات املواطنني، وذلك ال يتم إال بتفتيت أو تشتيت مؤسسات السلطة ورموزها، لـكـي ينشغلوا فــي حـركـة الــصــراع الـسـيـاسـ­ي فــي مــا بينهم، بـعـيـدًا عن اإلضرار بحقوق املواطنني وحرياتهم... ويبقى، في كل األحوال، مصير مؤسسات السلطة ورموزها في قبضة اإلرادة العامة للناس. إال أن الجدل بزعم أن صيغة الفصل بني السلطات تشكل اقتسامًا حاسمًا ملا يطلق عليه، مجازًا: «كعكة» السلطة السياسية في املجتمع، هو قول في الكثير من «الرومانسية» السياسية، تقترب كثيرًا، من «أساطير» الخيال العلمي. صحيح أن صيغة الفصل بني السلطات تحدد نصيب كل مؤسسة سياسية في النظام السياسي في موارد السلطة السياسية فــي املـجـتـمـ­ع، إال أنــهــا -فــي نـفـس الــوقــت- ال تــرســم حــــدودًا قـاطـعـة بني سلطات وصالحيات كل سلطة تجاه السلطات األخرى. ربما يكون هذا مـقـصـودًا لتحقيق غـايـة إلـهـاء وانـشـغـال السلطات ببعضها البعض، بعيدًا عن تطور أي شكل من أشكال النزوع إلى إساء ة استخدام السلطة، ومن ثم، استبدادها. هناك مناطق رمادية تفصل بني حدود سلطات وصالحيات مؤسسات الحكم، في األنظمة الديمقراطي­ة الحديثة، تشكل حلبة صـراع محتدم عــلــى الــنــفــ­وذ بــيــنــه­ــا، كــثــيــرًا مـــا تــزيــدهـ­ـا نــصــوص الــدســتـ­ـور غموضًا وإبهامًا. في النظام الرئاسي، وحتى في النظام البرملاني، تعد السياسة الـخـارجـي­ـة لـلـدولـة مـن اخـتـصـاصـ­ات السلطة التنفيذية، إال أن قضية السياسة الخارجية، في حقيقة األمر، أكثر تعقيدًا، مما يبدو من حسم ملفها دستوريًا، لصالح السلطة التنفيذية. فــي الـنـظـام الـسـيـاسـ­ي األمــريــ­كــي، مــثــال: مـلـف الـسـيـاسـ­ة الـخـارجـي­ـة، من صـالحـيـات الـبـيـت األبــيــض، إال أن الـكـونـغـ­رس (الـسـلـطـة التشريعية)، يخوله الـدسـتـور الـتـدخـل فــي ملف السياسة الـخـارجـي­ـة، بطريقة غير مباشرة، تجعل حرية تحكم البيت األبيض في ملف السياسة الخارجية، محفوفًا بالصعاب.. ومفرط املحدودية. بداية: كما أن للرئيس األمريكي الحق في تعيني رموز حقيبة الخارجية فــي إدارتــــه، إال أن ذلــك ال يـتـم إال بـمـوافـقـ­ة الـكـونـغـ­رس عـلـى تعيينهم. كــذلــك الــدســتـ­ـور قـسـم اخـتـصـاصـ­ات الـسـيـاسـ­ة الـخـارجـي­ـة بــني الرئيس والكونغرس. في الوقت الذي أعطى الدستور رئيس الجمهورية قيادة الجيش والتعامل مع األطراف الدولية، أعطى الكونغرس سلطة إعالن الحرب وعقد املعاهدات! باإلضافة إلى أن الدستور، حد من حرية البيت األبيض في التعامل مع ملف السياسة الخارجية، بربط تكلفة خدمة أجندتها، بتوفير املوارد الالزمة، لضمان نجاحها، بإرادة الكونغرس. صحيح: يعتبر الرئيس األمريكي املسؤول األول عن السياسة الخارجية، وال يمكن للكونغرس أن يتدخل في ملف السياسة الخارجية، عدا في حاالت نادرة وصعبة من الناحية اإلجرائية، إال أن الكونغرس بإمكانه أن يغير من مسار السياسة الخارجية، تجاه قضية مـا.. أو على األقل عرقلتها، رغمًا عن إرادة الرئيس، خاصة إذا كان األمر يتعلق بالحرب والسالم.. أو له عالقة باحترام القيم الليبرالية للمجتمع األمريكي. على سبيل املثال، تاريخيًا: لم يستخدم الكونغرس سلطاته في إعالن الحرب، إال ثالث مـرات: الحرب األمريكية املكسيكية 13( مايو ..)1846 الحرب العاملية األولى 12( مارس ،)1917 الحرب العاملية الثانية 8( ديسمبر .)1941 رغــم ذلـــك: فــي مــا عـــرف بـاصـطـالح الــحــرب غـيـر املعلنة وعـــدم املصرح بها، دخلت الـواليـات املتحدة، ســواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في حروب لم يعلنها الكونغرس وإن بدا أنه موافق عليها، بصورة أو بأخرى، مثل: الحرب الكورية 19٥0( - ..)19٥3 الحرب الفيتنامية (٥٥91 - ..)197٥ الحرب في البوسنة والهرسك 1992( - )199٥ الحرب على العراق ‪..)2003 ،1990(‬ االنــــــ­زال فـــي بـــيـــرو­ت ‪،)9183 ،19٥8(‬ الــتــدخـ­ـل في الصومال ( .)1993 كل تلك حروب وصراعات عنيفة خاضتها الواليات املـتـحـدة، خــارج حــدودهــا، تحت نـص صالحيات الرئيس فـي الحرب، بوصفه القائد األعلى للقوات املسلحة األمريكية، لم يعلنها الكونغرس، إال أنه لم يعارض قرارها، أيضًا. صـــراع املــؤســس­ــات فــي واشــنــطـ­ـن، يـجـد جــــذوره فــي نــصــوص الدستور الغامضة واملـتـنـا­قـضـة، مــعــًا.. ويظهر فــي سـلـوك مـؤسـسـات الحكم في واشـنـطـن فــي التعامل مــع ملف السياسة الـخـارجـي­ـة. كــل ذلــك مــن أجل تحقيق غاية تشتيت السلطة، وفق صيغة الفصل بني السلطات، حماية لحقوق وحريات املواطنني.. والـحـؤول دون استبداد مؤسسات الحكم ورموزه.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia