الفلسفة من اجلانب اآلخر

من صور التقدم التعليمي الذي تخطو خطواته وزارة التعليم فـي بـالدنـا هـو إقــرار دراســة علم الفلسفة مـن ضمن املقررات الــدراســيــة بـاملـرحـلـة الــثــانــويــة؛ لــذلــك أرى أن يـتـم استعراض شخصيات قـدمـت للفكر العربي خـالصـة فلسفتها وأسست قواعد فلسفية تخدم اإلنسانية وأخالقياتها األصيلة. أول هــرم هــذه الشخصيات هـي شخصية ابــن املقفع األديب الفيلسوف الـعـاقـل صـاحـب الـحـكـمـة، فـقـد جـمـع بــن الحكمة والعقل الفلسفين على أحسن ما يكون الجمع، ليس األدب عـنـده مـجـرد هـواجـس تـداعـب نفسه وتجنح بـه إلــى الخيال والولوج في عالم الوهم، وليست فلسفته نزعة ألهوائه، إنها حكمة اإلنسان الذي أشبعت روحه بحب الخير ونشر الفضيلة بن الناس، وإحقاق الحق وحب الناس والرأفة بهم، واإلشفاق عليهم، يبحث عن الحقيقة التي هي هدف العقالء، فإن كانت الحقيقة مرغوبًا فيها، تعود بالخير على الناس أوال، وعلى نفسه ثانيًا عمل على إظهارها والترويج لها، وإلباسها الثوب الجميل بأحسن مـا تكون عليه الصياغة األدبــيــة، لتتلقاها النفوس واألفكار، وإن كان إظهار الحقيقة مرًا تغاضى عنه، وعـزلـهـا، أو على األقـــل حـــاول أن يجعل ضــررهــا نفعًا، إنها الحكمة، إنـه علم األخــالق، ليس مجرد سفسطة تتعب الفكر بال فائدة. لقد كـان ابـن املقفع فيلسوفًا حكيمًا مصلحًا، لم يكتِف بهذا الــغــالل الــفــكــري والــحــكــمــة عــنــده، وإنــمــا أحــاطــهــمــا بأخالق رفــيــعــة ســامــيــة عــالــيــة ال يـتـحـصـلـهـا إال الــقــلــيــل. وال غرابة فـي ذلــك، فعلم األخــالق رافــد ثــٌّر مـن روافــد الفلسفة، لقد ضم ابـن املقفع بن جنحيه نفسًا متوقدة تطمح إلـى املعالي من مـراتـب الــشــرف، ونـفـس أديــب تعشق الـجـمـال، نفسًا صاحبة همة وذوق فريدين، ال ترضى بالقليل من رفيعات األخالق، نفسا تضيف إلى الحكمة باقة الشمائل التي ترفع صاحبها إلـى مصاف الرجولة الـفـذة، أولـهـا اإليـثـار، وثانيها املروءة، وثالثها الشجاعة، أضـف إلـى ذلـك اإلنسانية بكل ما تحمله من معان، العفاف، الرحمة، الحفاظ على الصداقة والصديق، والنبل والشهامة و.....و.... مما يحصن الحكمة مـن النزوع والجنوح إلى بيداء الجفاف الخلقي، فال تصير الحكمة جسدًا بال روح. وتــرجــع أســبــاب ضــــرورة تـضـمـن دراســــة فـلـسـفـة ابـــن املقفع املناهج الدراسية من رأيــي إلـى أن الرجل عـاش في املجتمع العربي الذي يضع مكارم األخالق في مقدمة صفاته، اإلقدام والــشــجــاعــة والـــكـــرم والـــوفـــاء بـالـعـهـد واإليـــثـــار وغــيــرهــا من مكارم األخالق واإلعالء من شأن الدين وما يتبعه من القناعة والـرضـا بما قسم الـلـه، انغمس ابــن املقفع فـي هــذا املجتمع، وتـشـربـت نفسه هــذه الـصـفـات وأشـبـعـت بـهـا، وأضـــاف إليها الحزم والتدبير. لــقــد غــطــت حـكـمـتـه جـمـيـع جــوانــب الــحــيــاة األســاســيــة، املثل والـقـيـم السامية الـتـي هـي جـوهـر األخـــالق عند الــفــرد، حياة املجتمع أفــــرادًا وجــمــاعــات، تعظيم أمــر الــديــن، ثــم الحكومة بجانبيها: الحاكم واملـحـكـوم، الحكومة التي يجب أن تقوم على العدل واإلنصاف، واإلحسان إلى الرعية، املسيء يعاقب، واملحسن يكافأ، املـسـاواة بن الجميع، كلهم كأسنان املشط، ال فضل لعربي على أعجمي، وال ألســود على أبيض إال بما يـقـدمـه للمجتمع مــن خــيــر، وبــقــدر امـتـثـالـه لـلـقـانـون، وحب الخير، أما املحكومون فعليهم الطاعة، وبذل النصح للحاكم ما استطاعوا، ومعاونته في تطبيق العدالة واملساوة وإحقاق الحق.