Emarat Al Youm

تأمالت في العالقة بين الفلسفة والفكاهة

- د. كمال عبدالملك * * باحث زائر في جامعة هارفارد

أظهرت يل قراءايت باإلنجليزي­ة يف العالقة بني الفلسفة والفكاهة أن بنية النكات وبنية املفاهيم الفلسفية مصنوعتان من املادة نفسها، فكل واحدة منهما تتحدى العقل بطرق مماثلة. وذلك ألن الفلسفة والنكات تنطلقان من الدافع نفسه، وتتجهان نحو الغاية ّنفسها: إرباك إحساسنا بالطريقة املعتادة التي تسري بها األمور، وقلب عواملنا رأسا عىل عقب، وكشف حقائق مخفية، وغري مريحة يف كثري من األحيان، عن الحياة وطرائق البشر يف التفكري والتصرف. ما يسميه الفيلسوف الجاد استنتاج ًا منطقي ًا يسميه الكوميديان الساخر «قفشة». وهذه الحوارات الفلسفية/ الفكاهية يمكن أن نسميها «فيلوفكاهية»، هدفها التعليم والرتويح معا، عىل طريقة ساعة لقلبك وساعة لعقلك. الفلسفة التجريبية دعونا نبدأ بهذه النكتة الكالسيكية التالية من نوادر جحا. ظاهريا، يبدو األمر مجرد بالهة مضحكة، ولكن عند الفحص الدقيق، ندرك أنها تدخل يف صميم الفلسفة التجريبية الربيطانية، التي تطرح السؤال: أي معلومات يمكننا االعتماد عليها؟

طلب جار جحا استعارة حماره ملشوار، فرد جحا كاذبا: آسف يا جاري العزيز، كان بودي ولكن الحمار ليس هنا، فقد ذهب ابني بالحمار إىل السوق، وما كاد جحا يتم كالمه حتى مأل الحمار البيت

ًً نهيقا، فقال الجار: أنت تكذب يا جحا؛ أنا أسمع الحمار يمأل البيت نهيقا، فكيف تقول إنه يف السوق؟ فرد جحا: ماذا تقول يا جاري العزيز؟ أكن لك املودة وأمد لك يد العون وألقي عليك السالم، وت ّصدق الحمار وال تص ّدقني؟

ال شك يف وجود الدليل الحيس هنا عىل وجود الحمار، ولكن جحا يتحّدى الواقع ويثري بصفاقة سافرة سؤاالً حول ماهية البيانات املؤكدة، وملاذا تعترب مؤكدة. يف هذا املشهد يطلب جحا من جاره االعتماد عىل اعتبارات معنوية، غري مادية (الصداقة، املودة، وحسن الجوار) عوضا عن الدليل املادي والحيس الدامغ (صوت نهيق الحمار).

هذه االدعاءات الجحوية ليست بعيدة عن عاملنا املعاصر. يف سياق الدفاع عن التصريحات الكاذبة حول العدد الكبري لألفراد الذين حضروا احتفال تنصيب دونالد ترامب، أصرت كيليان كونواي، صاحبة عبارة «حقائق بديلة» ومستشارة الرئيس السابق، عىل صحة ادعاءاتها بوجود جماهري غفرية يف االحتفال، عىل الرغم من وجود الصور واألدلة الدامغة عىل كذب االدعاءات، وأكدت بصفاقة وجود alternativ­e“”facts حقائق بديلة، حقائق عىل الشعب األمرييك أن يصدقها، فمصدرها شخص يجب تصديقه (ترامب)، ألنه فاز يف االنتخابات.

أليس من املفارقة أن يتشابه جحا العربي مع كيليان كونواي األمريكية؟ من قال إن الشرق والغرب صنوان ال يلتقيان أبدا؟ الفلسفة الوجودية )Existentia­lism( ماجد: هل تعلم يا أحمد أنني أحيانًا أتمّنى أن أكون مثلك. أحمد: وما منعك أن تكون مثيل؟ أنت تستطيع أن تكون مثيل أو مثل أي شخص، ألم يقل فالسفة الوجودية إن اإلنسان يمكن أن يصنع شخصيته؟ فأنت يمكن أن تكون الشخصية التي تتمناها. ماجد: فكرة جيدة؛ ألنني أتمنى أن أكون طويال مثلك. طبعا هناك حدود لقدرتنا عىل تشكيل شكلنا وسماتنا وواقعنا، عىل الرغم من أن جان بول سارتر، الفيلسوف الوجودي، يذكر أن «الوجود يسبق الجوهر أو املاهية»، وهذا معناه أن الواقع األسايس حولنا هو وجودنا، وكل إنسان منا يصنع شخصيته الخاصة به حسب رغبته.

ولكن سارتر بالغ يف فكرته هنا؛ فبالتأكيد توجد حدود لقدرتنا عىل اخرتاع شخصيتنا وفق ما نريده. اسمحوا يل أن أتخيل هذا املشهد ليك أوضح هذه النقطة:

لو أن عصفورة ضربت جرس باب شقة جان بول سارتر يف باريس، وسألته هذا السؤال: «عمو جان بول، عمرك فكرت أن تكون عصفورة؟» لربما جعله السؤال املفاجئ يراجع فلسفته الوجودية وإيمانه بقدرته عىل تكوين الشخصية التي يختارها لنفسه، أو ربما ضحك وهو يقول: «فكرة رائعة» ‪!c’est tres bonne idée‬ وهذا مشهد آخر يؤكد حدود القدرة عىل اخرتاع الشخصية: بقرتان يف الحقل يف فرتة انتشار وباء «جنون البقر»، البقرة األوىل سألت الثانية: «ما رأيك يف وباء جنون البقر»؟ ردت البقرة الثانية وقالت بهدوء شديد: «أّما إنك بقرة بصحيح! ما عالقة البقر بطائرة هليكوبرت مثيل»؟

 ?? ??
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates