خاتمة الدراسة
عـى الرغـم مـن التحديـات املنهاجيـة والتحليليـة ظلـت دراسـة املسـتقبل يف صـدارة املجـاالت التـي
تحظــى باهتــامم اســتثنايئ يف حقــول املعرفــة األكادمييــة نتيجــة الرتباطهــا الوثيــق بوظائــف العلــم األساســية، خاصــًة مــا يرتبــط منهــا بفهــم الواقــع وتفســره واألهــم محاولــة التحكــم فيــه وضبــط مســاراته، كــام يعــد املســتقبل نقطــة التقــاء رئيســية بــن العلــم والسياســة يف ظــل دافعيــة “صناعــة املســتقبل” لــدى الوحــدات والفاعلــن يف عــامل السياســة.
ولقـد انتقلـت دراسـة املسـتقبل خـالل عقـود ممتـدة مـن التطـور مـن التصـورات اليوتوبية التـي تقوم عـى صياغـة صـور مثاليـة ملـا ينبغـي أن يكـون عليـه حالـة العـامل مدفوعـة بالقيـم واملعايـر األخالقيـة والدينيــة، إىل الدراســة البينيــة املعقــدة للتطــورات القادمــة يف إطــار حقــل “دراســات املســتقبليات” التــي تأسســت عــى التزامــن بــن مسـارات متعـددة للمسـتقبل تـراوح بــن املســتقبليات املحتملــة واملمكنــة واملســتهدفة، وتزايــد االعتــامد عــى التكنولوجيـا املتقدمة وتقنيـات الذكاء االصطناعــي وتحليــل البيانــات الضخمــة ومنــاذج املحــاكاة املعقــدة لتقييــم الســيناريوهات والبدائــل.
وعــى الرغــم مــن ذلــك، ظــل املســتقبل مســتعصياً عــى الدراســة األكادمييــة واالســتراف العلمــي املنضبــط نتيجــة وجــود معضلــة ثالثيـة األبعـاد تعـرض مداخـل فهـم وتحليـل اتجاهـات املسـتقبل، ومتثلـت أركان هــذه املعضلــة يف إشــكاليات مناهــج التحليــل وتعقيــدات عــامل الواقــع والقصــور اإلدرايك لــداريس املسـتقبل املرتبـط بالطبيعـة البريـة وقدراتهـا املحـدودة يف التعامـل مـع الواقــع.
فاألطـر النظريـة واملناهـج يف العلـوم السياسـية تواجـه تحديـات متعـددة يتمثـل أهمهـا يف االختـزال املتعمـد واسـتبعاد املتغـرات غـر القابلـة للقيـاس ومحـاوالت تحويـل الظواهـر ملـؤرشات كميـة وضغـوط إثبـات العلميـة عـر محاولـة صياغـة قوانـن وقواعـد عامـة لتفسـر الظواهـر السياسـية واالجتامعيـة التـي تتسـم بالتغـر الدائـم بسـبب ارتباطهـا بالسـلوك البـري وتقلباتـه ونوازعـه املعقـدة، وهـو مـا ال ينفصـل عـن التحيـز لالسـتقرار يف مداخـل ومناهـج دراسـة الظواهـر السياسـية والتحيـزات السياسـية واملؤسسـية الناتجـة عـن اعتبـارات االنتـامء الوطنـي والتمويـل.
ويتمثـل املسـتوى الثـاين إلشـكاليات دراسـة املسـتقبل يف تصاعـد تعقيـدات الواقـع نتيجـة للتعـدد الالنهـايئ لعنـارص وأبعـاد الظواهـر واسـتحالة الفصـل بينهـا وصعوبـة التعـرف عـى نقطـة لبدايـة أي ظاهـرة أو انتهائهـا وعـدم وجـود عالقـات خطيـة واضحـة بـن األسـباب والنتائـج وانعـدام اليقـن فيـام يتعلـق مبسـارات واتجاهـات التغيـر.
وتزيـد حـدة مشـكلة التعامـل مـع املسـتقبل نتيجـة لقصـور قـدرات املتخصصـن اإلدراكيـة بسـبب مرجعيـة الخـرات السـابقة واالعتـامد عـى مقاربـات تاريخيـة أو أحـداث املـايض يف التنبـؤ واالنتقـاء غـر املوضوعـي للمعلومـات وفقـاً ملـدى اتفاقهـا مـع األنسـاق العقيديـة لألفـراد واالعتـامد عـى منـاذج تقليديـة لتوقـع سـلوك األفـراد واملؤسسـات تقـوم عـى افراضـات الرشـادة املنطقيـة باإلضافـة لالرتباط الالشـعوري بالوضـع الراهـن واملتابعـة غـر املبـارشة لألحـداث اعتـامداً عـى املعلومـات املتاحـة وفقدان القـدرة عـى التصحيـح الـذايت يف حالـة التوصـل السـتنتاجات خاطئـة.
أدت هــذه التحديــات للتغــر يف طبيعــة التعامــل مــع املســتقبل والتخــي عــن محــاوالت التنبــؤ واالسـتراف يف مقابـل الركيـز عـى تطويـر أسـاليب ومداخـل السـتيعاب “صدمـات املسـتقبل” والتكيف مــع التغــرات الرسيعــة والتحــوالت غــر املتوقعــة يف عــامل السياســة انطالقــاً مــن منظــورات واقعيــة، ومــن بــن هــذه املداخــل تعزيــز املرونــة والقــدرة عــى االرتــداد الرسيــع يف املؤسســات والــدول واملجتمعــات واالســتعداد الســتقبال الصدمــات واحتوائهــا.
ويرتبــط ذلــك بالرقــب الحــذر واالنتظــار الكتــامل أبعــاد املوقــف وتجنــب التعامــل بصــورة غــر مدروســة مــع التغــرات يف الواقــع واتجاهــات االســتيعاب واالحتــواء واســتباق حــدوث الصدمــات مــن خــالل تحصــن املجتمعــات والــدول وتعزيــز املناعــة القوميــة، ويضــاف إىل ذلـك توظيـف مسـارات لتشـكيل املســتقبل عــر تحديــد خرائــط العوامــل املحفــزة والقــوى الدافعــة للتغيــر والتعامــل معهــا مبــا يعــزز مــن الفــرص ويــؤدي لراجــع حــدة التهديــدات.
وعـى مسـتوى التعامـل مـع التحـوالت الرسيعـة وغـر املتوقعـة يف الواقـع وتحليـل اتجاهـات التغيـر فـإن مداخـل متعـددة أصبحـت موضـع اهتـامم ضمـن دوائـر السياسـات مثـل تشـجيع التقديـرات غـر التقليديـة وطـرح السـيناريوهات املسـتبعدة واملسـارات غـر املحتملـة واالسـتعداد لهـا، باإلضافـة ألسـاليب تقييـم البدائـل والخيـارات مثـل التقييـامت الجامعيـة والعصـف الذهنـي متعـدد املسـتويات واختبـارات “اختفـاء الخيـارات” وكيفيـة التعامـل مـع املواقـف شـديدة التعقيـد.