Trending Events - Future Report

صلح ويستفاليا:

إرساء القواعد المؤسسة للعلاقات الدولية المعاصرة

- رانيا مكرم باحثة بمركز الدراسات السياسية والاستراتي­جية بمؤسسة الأهرام

تعـد معاهـدة صلـح ويسـتفاليا المنعقـدة فـي عـام 1648 مـن أهـم الاتفاقيــ­ات الدوليــة فــي التاريــخ الحديــث، إذ أدت هــذه المعاهــدة إلــى إيقــاف الحــروب الدينيــة فــي أوروبــا التــي امتــدت لمــدة ثاثيــن عامــاً، وترجــع محوريــة هــذه الاتفاقيــ­ة فــي التاريــخ الحديـث إلـى نجاحهـا فـي إرسـاء المبـادئ الحاكمـة لبنيـة الـدول القوميـة والقواعـد المنظمـة للعاقـات الدوليـة، وإن عجـزت عـن تحقيــق الســام الدائــم بيــن الــدول الأوروبيــ­ة.

اأولاً: اأطراف المعاهدة

أنهــت معاهــدة صلــح ويســتفالي­ا حــرب الثاثيــن عامــاً، والتــي اندلعــت فــي عــام 1618 كصــراع دينــي بيــن الكاثوليــ­ك والبروتســ­تانت فــي ألمانيــا، ثــم اتســع ليشــمل القــارة الأوروبيــ­ة بأكملهــا، وقــد أدى تعــدد الأطــراف المتحاربــ­ة إلــى طــول أمــد الحــرب، وجعــل مــن الصعوبــة بمــكان التوصــل إلــى ســام شــامل. وقــد بــدأت مفاوضــات الســام فــي عــام 1643، فــي مدينتـي "مونسـتر" و"أوسـنابروك" فـي مقاطعـة ويسـتفاليا، فـي شــمال غــرب ألمانيــا، واســتمرت المفاوضــا­ت خــال خمــس ســنوات كاملــة، والتــي تزامنــت مــع اســتمرار الحــرب)1.)

وقـد ضمـت مفاوضـات اتفاقيتـي صلـح "ويسـتفاليا" كاً مـن الإمبراطـو­ر الرومانـي فردينانـد الثالـث، وممثلـي ممالـك إسـبانيا، وفرنســا، والإمبراطو­ريــة الســويدية، والجمهوريـ­ـة الهولنديــ­ة، وأمـراء الإمبراطور­يـة الرومانيـة، وملـوك المـدن الإمبراطور­يـة الحـرة، حيـث التقـت الحليفتـان فرنسـا والسـويد، مـع خصومهمـا إســبانيا والإمبراطو­ريــة الرومانيــ­ة، والدويــات التابعــة لهــا، وهولنـدا، وذلـك بحضـور 176 مفاوضـاً يمثلـون 196 حاكماً)2.)

ثانياً: نتائج المعاهدة

أقـرت المعاهـدة العديـد مـن المبـادئ المهمـة التـي أدت إلـى إنهـاء الحــرب والوصــول إلــى تفاهمــات بيــن الأطــراف المتنازعــ­ة، ورســخت هــذه المبــادئ بدايــة جديــدة للعاقــات الدوليــة، ومــن أهــم هــذه المبــادئ: 1- مبــدأ ســيادة الــدول الداخليــة والخارجيــ­ة: إذ تنفــرد الدولــة بممارســة ســلطاتها داخــل حدودهــا، وذلــك مــن خــال إصــدار قراراتهـا المسـتقلة، وعـدم الخضـوع لقـوى خارجيـة مـن شـأنها التأثيـر علـى إرادتهـا، سـواء كانـت قوى دينيـة أو سياسـية، ووفق هـذا المبـدأ مـن حـق الـدول الحفـاظ علـى مصالحهـا بالكيفيـة التـي تراهــا علــى أن تتحمــل عواقــب وتداعيــات خياراتهــا، وبالتالــي أرسـت المعاهـدة، وفـق هـذا المبـدأ، تعـدد مراكـز القـوى ممثلـة للـدول المسـتقلة)3.) 2- مبـدأ عـدم التدخـل فـي الشـؤون الداخليـة للـدول: وهـو مبـدأ يكفـل لـكل دولـة اختيـار أنمـاط أنظمتهـا السياسـية والاقتصادي­ـة، وأوضاعهــا الاجتماعيـ­ـة والثقافيــ­ة الخاصــة بهــا مــن دون الخضـوع لتأثيـر أطـراف خارجيـة، وعلـى باقـي الـدول احتـرام هــذه الخيــارات، وعــدم الســعي إلــى تغييرهــا أو التقليــل مــن شــأنها. 3- مبــدأ الدولــة القوميــة: وهــو المبــدأ الــذي أســس لعاقــة الفــرد بالدولــة، وحــدد ولاء الفــرد لجنســيته وقوميتــه لا للكنيســة التابــع لهــا، حيــث فصلــت المعاهــدة بيــن اعتقــاد الفــرد الدينــي

وبيـن ولائـه القومـي، وفصلـت بيـن الديـن والسياسـة، كنـوع مـن الإجــراءا­ت الاحترازيـ­ـة التــي هدفــت إلــى منــع انــدلاع حــروب دينيـة مجـدداً فـي المسـتقبل، وبالتالـي فقـد أصلـت للفكـر العلماني، إن جــاز التعبيــر. وقــد شــغل ديــن الحــكام والشــعب حيــزاً كبيــراً مــن اهتمــام المفاوضيــ­ن، حتــى توافقــوا علــى صيغــة "الشــعب علــى ديــن حاكمــه"، بينمــا نــص أحــد بنــود المعاهــدة علــى أن الأميــر أو الحاكـم الـذي يغيـر دينـه يعـرض نفسـه لـزوال ملكـه، وأراضيـه الخاضعــة لحكمــه، وقــد دافــع المتفاوضــ­ون عــن هــذا المبــدأ كضمانـة لتجنـب تجـدد الصـراع الدينـي، كمـا سـمحت المعاهـدة بتكويـن جيـوش عسـكرية للأمـراء الألمـان وكذلـك عقـد تحالفـات، بشــرط ألا يمــس ذلــك إمبراطــور الإمبراطور­يــة الجرمانيــ­ة) .)

ثالثاً: جغرافيا جديدة

أسـهم توقيـع معاهـدة صلـح ويسـتفاليا بيـن أطرافهـا المتصارعـة فــي خلــق واقــع جغرافــي جديــد للقــارة الأوروبيــ­ة، بعــد أن لقــي 30% مــن ســكان الــدول المتناحــر­ة حتفهــم فــي الحــرب التــي اســتمرت علــى مــدار ثاثيــن عامــاً، فقــد تــم تقســيم ألمانيــا إلــى حوالــي 350 دويلــة صغيــرة، كمــا تــم الاعتــراف بالكنتونــ­ات السويســري­ة، وكذلــك المقاطعــا­ت الهولنديــ­ة، حيــث حصلــت كل مــن هولنــدا وسويســرا، وتوســكاني­ا، ولــوكا، وبارمــا، وســافوي، ومانتـوا علـى اعتـراف رسـمي مـن قبـل المفاوضيـن باسـتقالهم، كمــا أرســت المعاهــدة مبــادئ التمثيــل الدبلوماسـ­ـي بيــن الــدول القديمــة والــدول الجديــدة الناشــئة عقــب الانفصــال) .)

وعلــى الرغــم مــن المبــادئ التــي أقرتهــا المعاهــدة بغيــة الحفـاظ علـى اسـتقال الـدول الجديـدة والقديمـة، فـإن هنـاك دولاً قــد اســتفادت مــن المعاهــدة أكثــر مــن غيرهــا، حيــث أصبحــت فرنســا بعــد المعاهــدة فــي عــداد الــدول العظمــي، وحظيــت دول أخـرى بمكاسـب كبيـرة كهولنـدا وسويسـرا تمثلـت في اسـتقالهما،

أمــا الــدول التــي خســرت مــن الاتفاقيــ­ة، فتمثلــت فــي الإمــارات الألمانيـة المنقسـمة، فقـد بقيـت هـذه الإمـارات خاضعـة لتدخـات القــوى الخارجيــة ممثلــة فــي فرنســا والســويد والنمســا، بــل وخضـوع عـدد مـن الإمـارات الألمانيـة لحـكام أجانـب)6(. ومـن جهـة ثانيـة، فـإن الاسـتقرار لـم يكـن مـن نصيـب كل الـدول التـي قسـمتها المعاهـدة، فقـد اسـتبدلت معاهـدة ويسـتفاليا الإمبراطور­يـة الرومانيـة بعـدد مـن الـدول المسـتقلة المتنازعـة فيمـا بينهـا، وهـو مـا مثّـل مصـدراً للصـراع فـي كثيـر مـن الأحيـان)7.)

رابعاً: حروب مختلفة

هدفـت معاهـدة صلـح ويسـتفاليا إلـى وضـع نهايـة لحقبـة الثاثيـن عامــاً مــن الحــروب الدينيــة، مــن خــال العديــد مــن المبــادئ التــي أقــرت تبعيــة وولاء الشــعب لدولتــه وليــس للكنيســة، ومــن خــال فصــل الديــن عــن السياســية، وتقليـص صاحيـات الكنيسـة بشـكل كبير، بـل وتحجيـم دور رجـال الديـن وسـيطرتهم علــى الحــكام والشــعوب.

وبالفعــل كانــت حــرب الثاثيــن عامــاً هــي آخــر حــرب دينيــة كبيــرة فــي أوروبــا، ولكــن علــى الجانــب الآخــر عجــزت المعاهــدة عــن إرســاء ســام دائــم، فقــد عــادت الحــرب للظهــور مــرة أخــرى، ولكــن بدوافــع سياســية وتجاريــة، فيمــا تراجــع الدافــع الدينــي للحــرب، وإن ظــل كامنــاً فــي الخلفيــة، وهــو مــا وضــح فـي اسـتخدام شـعارات دينيـة خـال الحربيـن العالميتيـ­ن الأولـى والثانيــة، فاســتخدم علــى ســبيل المثــال الجيــش الألمانــي عبــارة "اله معنــا" ‪Gott mit uns(‬ .)

ويمكــن القــول إن النزاعــات المســلحة التــي شــهدتها أوروبــا بعــد توقيــع معاهــدة ويســتفالي­ا قــد اشــتعلت بالأســاس لأطمــاع سياسـية، خاصـة أن هنـاك بعـض الـدول التـي حظيـت بالنصيـب الأكبـر مـن المميـزات مثـل فرنسـا، فضـاً عـن الطبيعـة التوافقيـة لصلــح ويســتفالي­ا، أي أن بقاءهــا اعتمــد علــى مــدى توافــق أطرافهــا علــى الاســتمرا­ر فيهــا، وبموجبهــا، تــم التخلــي عنهــا عندمـا استشـعر بعـض أطرافهـا القـدرة علـى تجـاوز المعاهـدة، نتيجـة وجـود اختـال واضـح فـي تـوازن القـوى، وقدرتهـا علـى تحقيــق مصالحهــا بصــورة منفــردة)8.)

ولــم تكــن معاهــدة ويســتفالي­ا وحدهــا قــادرة علــى ضبــط الميـزان السياسـي فـي أوروبـا إذ ظهـرت وقـد حدثـت فـي أعقـاب ذلـك مجموعـة مـن التطـورات الدوليـة التـي اسـتلزمت معاهـدات واتفاقيــا­ت أخــرى لتصحيــح أوضــاع اعتــرت نظــام "وســتفاليا" تمثلـت فـي توقيـع معاهـدة "أوترخـت" عـام 1713، والتـي أنهـت بدورهـا سلسـلة مـن الحـروب التـي قادتهـا فرنســا بهــدف تعزيــز نفوذهــا، وتوســيع أراضيهــا علــى حســاب دول جوارهــا، مســتفيدة فــي ذلــك مــن تفوقهــا النســبي وميـل ميـزان القـوى ناحيتهـا، وذلـك إلـى جانــب تزايــد النفــوذ الروســي، واســتقال الولايـات المتحـدة الأمريكيـة عـام 1776، ثــم عــودة فرنســا إلــى المشــهد مجــدداً بثورتهــا عــام 1789، ومــن ثــم عقــد مؤتمــر فينيــا عــام 1815 لإعــادة تنظيــم نمــط العاقــات السياســية فــي القــارة الأوروبيـة. فيمـا مثلـت الحـرب العالميـة الأولـي 1914، والتـي بــدأت أوروبيــة فــي الأســاس حتــى تدخــل الولايــات المتحــدة الأمريكيــ­ة، ســقوطاً مدويــاً للنظــام الــ "ويســتفالي" الــذي أقرتــه المعاهــدة) .)

وفـي النهايـة يمكـن القـول إن معاهـدة ويسـتفاليا علـى الرغـم مــن إخفاقهــا فــي إرســاء ســام دائــم، فإنهــا تظــل الرقــم الأبــرز فــي تاريــخ المعاهــدا­ت الدوليــة، نظــراً لمــا دشــنته مــن مبــادئ سياســية وقانونيــة أصلــت لمفهــوم الدولــة ذات الســيادة غيــر الخاضعــة لاهــوت، فــي ظــل فصــل للديــن عــن السياســة.

علـــى الرغـــم مـــن المبـــادئ التـــي أقرتهـــا المعاهـدة بغيـة الحفـاظ علـى اسـتقلال الـــدول الجديـــدة والقديمـــ­ة، فـــإن هنـــاك دولاً قـــد اســـتفادت مـــن المعاهـــد­ة أكـــر مـــن غيرهـــا، حيـــث أصبحـــت فرنســـا بعـــد المعاهـــد­ة في عـــداد الـــدول العظمـــي، وحظيـــت دول أخـــرى بمكاســـب كبـــيرة كهولنـــدا وسويســـرا تمثلـــت في اســـتقلال­هما، أمـــا الـــدول التـــي خســـرت مـــن الاتفاقيــ­ـة، فتمثلـــت في الإمـــارا­ت الألمانيــ­ـة المنقســـم­ة.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates