Trending Events

مراكز الفكر:

فاعل صاعد مؤثر في عملية صنع السياسات في الشرق الأوسط

- د. إيمان رجب خبيرة بوحدة الدراسات الأمنية والاستراتي­جية، ورئيسة تحرير دورية ”بدائل“، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتي­جية

د. إيمان رجب

على الرغم من تحول مراكز الفكر إلى ظاهرة عالمية، سواء من حيث قدرة بعض هذه المراكز على فتح فروع لها في مناطق مختلفة من العالم، على نحو جعلها فاعلاً عالمياً(1،) أو من حيث تحولها إلى نافذة تستطيع من خلالها الدول والحكومات، وأيضاً الفاعلون من غير الدول، أن يخلقوا شبكات دولية وإقليمية تمكنهم من التأثير على نحو يخدم مصالحهم الاستراتيج­ية؛ فإن هذه المراكز لم تحظ بدراسات وافية في الدوائر الأكاديمية والبحثية العربية، كما لم تدرس بصورة كافية من الباحثين الغربيين المهتمين بمنطقة الشرق الأوسط (2.) وعلى سبيل المثال، لا توجد كتب تؤرخ لنشأة أعرق هذه المراكز في المنطقة على غرار تلك الكتب التي تصدر في الولايات المتحدة الأمريكية، ويظل تاريخها يتناقل من جيل لآخر(3).

حول هذه القضية تناقش الدراسة أسباب انتشار وتزايد عدد مراكز الفكر في منطقة الشرق الأوسط، وخريطة توزيعها داخل دول المنطقة، وتسلط الضوء على أنواع مراكز الفكر، وكيف أضحى بعضها بمنزلة ”سلطة“ناعمة جديدة تمتلك تأثيراً واضحاً في صنع السياسات، وذلك عبر سبعة أنماط من التأثير، تتراوح ما بين ضبط أجندة السياسات وإمكانية صياغتها وأحياناً المشاركة في تنفيذها، مروراً بمحاولة أن تكون مراكز الفكر منتديات للحوار بين التيارات السياسية المختلفة من أجل محاولة حل صراعات ما، وصولاً إلى التأثير في المجال العام. كما تناقش الدراسة أبرز التحديات التي تواجه عمل مراكز الفكر في منطقة الشرق الأوسط.

اأولً: مراكز الفكر في منطقة السرق الأوسط

لا تنبع محدودية الاهتمام بتطور مراكز الفكر وتأثيرها في عملية صنع السياسات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من محدودية عدد مراكز الفكر فيها، حيث يلاحظ تزايد عدد هذه المراكز في المنطقة من 218 مركزاً في عام 2008 (من أصل 5465 مركزاً على مستوى العالم)، إلى 521 مركزاً في عام 2014 (من إجمالي 6681 مركزاً على مستوى العالم)1(،)طالع الجدول رقم 1( كما ورد في التقرير السنوي الصادر في يناير 2015، عن جامعة بنسلفانيا، والذي يعنى بتصنيف مراكز الفكر في العالم منذ عام 2008.

ويعد تقرير جامعة بنسلفانيا من أهم المصادر والمراجع العالمية الأكثر استخداماً فيما يخص تصنيف مراكز الفكر، رغم ما يحتويه من سلبيات، فهو يقدم مؤشرات استرشادية مهمة، لكن يغلب عليه الطابع الكمي، ولا يعبر بالضرورة عن الخريطة الكاملة لمراكز الفكر في الدول التي يغطيها التقرير، بسبب المنهجية التي يتم اعتمادها في إعداد التقرير، ألا وهي تسجيل المراكز لنفسها على موقع التقييم الخاص بجامعة بنسلفانيا. وبالتالي لا يتم الرصد والتقييم إلا للمراكز المدرجة على الموقع. 1- أسباب تصاعد الاهتمام بمراكز الفكر في الشرق الأوسط لا تعكس محدودية هذا الاهتمام بمراكز الفكر حقيقة التأثير المتزايد الذي أصبحت تمارسه في سياسات الدول في منطقة الشرق الأوسط، خاصة في الفترة التالية على الثورات العربية، والتي أحدثت تحولاً فارقاً في العلاقة بين مراكز الفكر العاملة في المنطقة ودوائر صنع القرار المختلفة فيها؛ حيث يلاحظ بصفة عامة تزايد اعتماد الحكومات في المنطقة على مراكز الفكر باعتبارها آلة للسياسات (Policy machine ) في التعامل مع قضايا أصبح من الصعب أن تتعامل معها الحكومات بمفردها كما كان الوضع في السابق)5،( فقد أصبحت الحكومات، لاسيما في حالة الدول التي شهدت ثورات، تواجه قضايا غير تقليدية، ومعقدة، على نحو أوجد حالة أشبه بالعاصفة الكاملة (Perfect storm) ، لم يعد التعامل معها بسياسات النظم القديمة التي أهملت دور مراكز الفكر والأبحاث ممكناً إلى حد كبير.

وفي هذا السياق لم تعد المعلومات حول ما يجري، والتي توفرها مراكز المعلومات التي تتبع مؤسسات الدولة، كافية لاتخاذ قرار ما أو تبني سياسة معينة؛ وهو ما دفع الحكومات إلى الاستعانة بخبرة مراكز الفكر، في التعامل مع تلك القضايا. وهناك شواهد كثيرة وممارسات متعددة في المنطقة تؤكد ذلك، منها تضاعُف عدد هذه المراكز خلال ست سنوات، ومنها أن قدرة هذه المراكز على التنافسية الإقليمية والعالمية أصبحت تمثل مكانة مضافة للدولة ولصورتها في الخارج، ومنها أيضاً، على سبيل المثال، دعوة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى ضرورة تعظيم دور المراكز البحثية المصرية، وتعزيز قدرتها على دعم عملية صنع القرار في الدولة)6).

كما يلاحظ أن مراكز الفكر تحولت إلى أداة تستخدمها بعض حكومات المنطقة للتأثير في دوائر صنع القرار الغربية على نحو يخدم مصالحها، بدلاً من توظيف جماعات الضغط للقيام بهذه المهمة؛ وهو ما أدى إلى انتشار نوع جديد من مراكز الفكر هو ما يعرف باسم (Phantom Think Tanks ) ، وتعد واشنطن مقراً لهذا النوع من مراكز الفكر، والتي أصبحت تقوم بأدوار تشبه شركات العلاقات العامة ولوبيات الضغط في كثير من الأحيان.

إلى جانب ذلك، أصبح من الواضح أن حجم الزخم السياسي الذي أوجدته الثورات العربية، صاحبه تزايد الرغبة من قوى الشارع ومن المواطن العادي في الحصول على تحليلات تتعدى الطابع الخبري أو الصحفي الذي تعبر عنه الصحف المطبوعة أو المواقع الإخبارية أو القنوات الفضائية، والتي نجحت في كثير من الأحيان في توفير بث مباشر لما يحدث في العديد من دول المنطقة؛ وهو ما ترتب عليه بالتبعية إعادة تعريف دوائر صنع القرار التي تستهدفها مراكز الفكر بالتأثير، لتصبح شبكات صنع السياسات (Policy-making networks )، وليس دوائر صنع القرار(Decision-making circles )، لأن تأثير مراكز الفكر لم يعد يرتبط فقط بمن هم في السلطة، وإنما أيضاً بالكيانات المحتمل وصولها للسلطة، مثل الأحزاب السياسية،) وجماعات المصالح المختلفة والقطاع الخاص، وقوى الشارع التي أصبح من الواضح أن لديها القدرة على التأثير في سياسات الدول الداخلية والخارجية، وكذلك تغيير طبيعة النظم التي تحكم. 2- خريطة توزيع مراكز الفكر في الشرق الأوسط تكشف خريطة انتشار مراكز الفكر في دول الشرق الأوسط، استناداً لتقرير جامعة بنسلفانيا لعام 2014، إلى تصدر مصر قائمة هذه الدول فيما يتعلق بعدد المراكز التي رصدها التقرير، والتي بلغت 57 مركزاً، تليها إسرائيل بواقع 56 مركزاً، في حين جاءت سلطنة عُمان ثم ليبيا في نهاية القائمة.

ويعتمد تقرير بنسلفانيا على تصنيف مراكز الفكر وفق نوعية القضية التي تهتم المراكز بدراستها، وكذا من حيث النطاق الجغرافي، ودرجة استقلال المركز عن الدولة. ويقدم هذا التقرير إحصائيات عن عدد وانتشار مراكز الفكر في العالم بحسب توزيعها المناطقي في ست مناطق جغرافية( )، تشمل آسيا، ووسط وجنوب أمريكا، وأوروبا، والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأمريكا الشمالية، وأفريقيا جنوب الصحراء، و oceania. وكما هو واضح بالشكل المرفق (ص 15،) يتركز في إقليم الشرق الأوسط 7.87% من إجمالي هذه المراكز، في حين يتركز في أمريكا الشمالية 30.05% منها.

كما تكشف قائمة ترتيب مراكز الفكر على مستوى العالم لعام 2014، والتي وضعها تقييم جامعة بنسلفانيا وفقاً لأفضل 150 مركزاً، عن وجود 6 مراكز فقط بمنطقة الشرق الأوسط ضمن هذه القائمة، جاء في مقدمتها مركز كارنيغي للشرق الأوسط (كارنيغي بيروت)، والذي احتل الترتيب رقم 37 عالمياً (مع ملاحظة أنه فرع لمركز كارنيغي الأمريكي، أي أنه بالأحرى غير شرق أوسطي)، ثم مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتي­جية (51،) يليه المركز التركي للدراسات الاقتصادية والسياسية (74،) ثم مركز الفكر الليبرالي التركي (87،) ثم مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (104،) ثم مركز الخليج بالمملكة العربية السعودية (125).

وحول ترتيب مراكز الفكر داخل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فقد قدم تقييم جامعة بنسلفانيا قائمة بأول 55 مركزاً في المنطقة، حيث تأتي في المرتبة الأولى مراكز الفكر الإسرائيلي­ة بواقع 12 مركزاً، تليها مصر )10 مراكز(، ثم تركيا )5 مراكز(، ثم المغرب ولبنان )4 مراكز(، ثم كل من الإمارات وقطر والكويت والأردن بواقع 3 مراكز فكر لكل دولة )طالع الجدول رقم 2).

ثانياً: مراكز الفكر.. فاعل دولي له «�سلطة» ناعمة

عادة ما يتم التعامل مع مراكز الفكر على أنها كيانات قادرة على سد "الفجوة" بين العمل الأكاديمي الذي عادة ما يمتاز بطابعه النظري، وبين العمل السياسي، وهي وفق تعريف جيمس ماجين منظمات تقوم بتحليل قضايا السياسات العامة، وتنتج تحليلات وأبحاث وتوصيات موجهة لصانعي السياسات، لتمكنهم من اتخاذ قرارات سليمة حول تلك القضايا"( ).

وتكشف الممارسة العملية عن بدء تكون سلطة ما لمراكز الفكر، يمكن تسميتها بالسلطة الناعمة (Soft authority )، سمحت بتحول هذه المراكز إلى فاعل في حالات معينة ذي طبيعة إقليمية، وفي حالات أخرى ذو طبيعة دولية، قادر على توجيه أو التأثير في مسار التفاعلات الإقليمية والدولية.

وترتكز "السلطة" الناعمة التي تتمتع بها مراكز الفكر على عدد من العوامل، يتمثل أولها في أن هذه السلطة قاصرة على القضايا التي تعمل عليها هذه المراكز بصورة رئيسية، وبالتالي فهي سلطة محدودة.

وينصرف العامل الثاني إلى امتلاك العاملين فيها المؤهلات الأكاديمية التي توفر لهم مهارات البحث الأساسية بصرف النظر عن انتماءاتهم السياسية، وهو ما يمنح شرعية للنتائج والتوصيات أو بدائل السياسات التي يطرحونها( ).

ويتعلق العامل الثالث بقدرة هذه المراكز على التواصل مع دوائر صنع السياسات، حيث كانت القاعدة العامة التي تحكم عمل مراكز الفكر منذ عقود هي أن صانعي القرار هم من يبحثون عن أعمال المراكز، أو أنهم يلجأون إليها وقت الأزمات، فكان التأثير وقتياً ومرتبطاً بأزمات محددة، وبناء على طلب من الحكومات، ولكن الآن أصبحت القاعدة العامة أن مراكز الفكر هي التي تذهب لدوائر صنع السياسات، فكثير منها يعمل وفق منطق العرض الذي يخلق الطلب (Supply-driven ). market

ويرتبط العامل الرابع بأن قوة مراكز الفكر لا ترتبط بالمعلومات لأنها ليست مراكز معلومات، وإنما بالقدرة على التحليل والتقدير للتطورات المرتبطة بقضايا محددة، وبالقدرة على إعادة تأطيرها (Re-framing)، وعلى نقل الخبرات من حالات أخرى، وعلى طرح بدائل سياسات للتعامل معها؛ وهو ما يجعل بعض هذه المراكز قادراً على التأثير في الصراعات وعلى تحديد الممارسات الاجتماعية والتأثير فيها( ).

وعلى سبيل المثال، ساهم معهد بروكنجز (Brookings Institutio­n) الأمريكي في تصميم خطة مارشال الخاصة بإعادة بناء أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وهي التي أثرت في مسار التطور السياسي والاقتصادي لهذه الدول. كما لعب مجلس العلاقات الخارجية في الولايات المتحدة الأمريكية دوراً رئيسياً في تطوير سياسة الاحتواء ضد الاتحاد السوفييتي أثناء فترة الحرب الباردة( ).

ويلاحظ أن هذه "السلطة" الناعمة لمراكز الفكر تتضاعف في المراحل الانتقالية التي تمر بها الدول، سواء بسبب الثورات أو الاحتلال أو الاضطرابات الداخلية، حيث تعد هي الجهة القادرة على التعامل بدرجة ما من "الموضوعية" مع تعقيدات هذه المراحل، على نحو قد يمنحها "سلطة" أكبر من تلك التي قد تتمتع بها في الظروف الطبيعية.

ويعد اتساع نطاق تأثير مراكز الفكر تطوراً مهماً، وذلك بعد أن ظل كل من الطبيعة المحلية أو الوطنية لمراكز الفكر من حيث نشأتها في دول معينة، واهتمامها بمواضيع محددة قد تكون ذات طبيعة نوعية مثل القضايا الاقتصادية أو الأمنية أو الاجتماعية، هما السمتان المسيطرتان لفترة طويلة من الزمن على عمل هذه المراكز. ويمكن هنا تحديد صورتين لاتساع نطاق تأثير دور مراكز الفكر ليتعدى الحدود الوطنية للدول التي تنتمي إليها بحكم النشأة:

الأولى هي اتجاه بعض مراكز الفكر للتوسع جغرافياً من خلال إنشاء أفرع لها في مناطق مختلفة من العالم، منذ أعلنت مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي (Carnegie Endowment for Internatio­nal Peace ) الأمريكي في عام 2007 عن رؤيتها لدورها باعتبارها أول مركز فكر عالمي (Global Think)، Tank وكونها المنصة التي يتم من خلالها "تلاقي ما يفكر فيه العالم مع ما تفكر فيه مؤسسة كارنيغي حول سياسات

الولايات المتحدة، وتوفير ذلك التفكير لمتلقين عالميين") )، حيث يمتلك كارنيغي - إلى جانب مقره في واشنطن - فروعاً في بكين وبيروت وبروكسل وموسكو) كما يمتلك معهد بروكنجز - إلى جانب مقره في واشنطن - فروعاً في قطر والصين والهند) ).

ويعد المعهد الدولي للدراسات الاستراتيج­ية (The Internatio­nal Institute for Strategic Studies ) في لندن، نموذجاً آخر لهذا النوع من المراكز، حيث يمتلك عدة مكاتب في مناطق متفرقة من العالم، وينظم سنوياً مؤتمرات حوارية تناقش القضايا الخاصة بهذه المناطق. وعلى سبيل المثال يخصص المعهد مؤتمر "حوار المنامة" لمناقشة القضايا التي تخص منطقة الخليج، كما يناقش مؤتمر "حوار شانجريلا" القضايا الخاصة بمنطقة آسيا، في حين يهتم مؤتمر حوار كارتاجينا (Cartagena Dialogue )، نسبة إلى مدينة كارتاجينا في كولومبيا، بمناقشة القضايا التي تهم الدول الآسيوية ودول أمريكا اللاتينية المطلة على المحيط الهادي) ).

أما الصورة الثانية، فتبدو في مشاركة مراكز الفكر في المناقشات الخاصة بقضايا متعدية الحدود، وسعيها إلى طرح بدائل أو سياسات للتعامل مع تلك القضايا، مثل تحرير التجارة في السلع الزراعية، معتمدة في ذلك على شبكة من العلاقات مع الحكومات والمنظمات غير الحكومية التي تعمل على القضية ذاتها، حيث أصبحت مراكز الفكر أحد الفاعلين المؤثرين في الحوكمة العالمية (Global Governance ).

وإلى جانب ذلك، يلاحظ تزايد أهمية مراكز الفكر كعامل مضاعف (Multiplier) لقوة بعض الدول على المستوى الإقليمي، أو للمكانة الإقليمية لها، أو للصورة الإقليمية أو الدولية لها، وهو ما يتم التعبير عنه بمحاولات بعض الدول أن تطرح نفسها كمركز أو منصة إقليمية لمراكز الفكر. ولكن هذا التوجه المهم لصورة الدولة لا يمنع من وجود ضغوط خاصة بالسماح لهذه المراكز بالعمل بحرية، من دون رسم خطوط حمراء "ناعمة" للقضايا التي تناقشها، والتي قد يغلب عليها الطابع الدعائي أحياناً على حساب الطابع البحثي والفكري( ).

وعلى سبيل المثال، تسعى مدينة جنيف السويسرية - استكمالاً لكونها مقراً لإطلاق المبادرات الخاصة بالحوكمة العالمية - إلى طرح نفسها كمدينة تدعم وتحفز وتنشر مفاهيم الحوكمة العالمية( وفي الشرق الأوسط، تسعى تركيا، على سبيل المثال، إلى طرح نفسها كبؤرة لمراكز الفكر في الشرق الأوسط) وذلك على الرغم من محدودية عدد مراكز الفكر العاملة فيها. كما أن قطر سعت لذلك من خلال استضافتها مقر معهد بروكنجز، وهو الأمر ذاته فيما يتعلق باستضافة بيروت لمركز كارنيجي.

ثالثاً: اأنواع متعددة من مراكز الفكر

يمكن القول إن تطور مراكز الفكر يرتبط بصورة رئيسية بالسياق المحيط بها، فهي تتأثر في حالات كثيرة بالأوضاع السياسية في الدولة التي تنشأ فيها، وكذا بالبيئة المحيطة، والتي تحدد نوع مركز الفكر وطبيعة نشاطه وكيفية تواصله مع دوائر صنع السياسات المختلفة، فعلى سبيل المثال، ارتبطت نشأة مركز التقدم الأمريكي (Center for American Progress) بخسارة الديمقراطي­ين في انتخابات الرئاسة الأمريكية في عام 2000 ). وهناك اتجاه يصنف مراكز الفكر إلى عدة أجيال من حيث تاريخ النشأة، فهناك المراكز التي نشأت خال النصف الأول من القرن العشرين، وهناك جيل مراكز الثمانينيا­ت من القرن العشرين، وهناك جيل مراكز عقد التسعينيات، ثم هناك جيل مراكز ما بعد الألفية الثالثة( ).

لكن تفضل هذه الدراسة التمييز بين مراكز الفكر بالنظر إلى طبيعة النشاط ونوعية التأثير الذي تمارسه في دوائر صنع السياسات، من خال استهدافها للدوائر المختلفة، سواء السياسية أو الأكاديمية، التي تؤثر فيها. واستناداً لذلك، يمكن التمييز بين ثاثة أنواع من مراكز الفكر، وهي:

1- المراكز ذات الطبيعة "المختلطة" أو "المزدوجة": تجمع بين كونها مركزاً بحثياً يغلب عليه الطابع الأكاديمي، وبين كونها مركز فكر، وعادة ما يرتبط دورها كمركز فكر كما تكشف عن ذلك خبرة منطقة الشرق الأوسط بمرحلة الأزمة التي تمر بها الدولة، ومثال على ذلك مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتي­جية، والذي تأسس في مصر عام 1968 من أجل محاولة فهم إسرائيل بشكل أكبر، وذلك بعد حرب 1967.

وتكشف الخبرة العملية أيضاً عن أن تفعيل دور هذه المؤسسات كمراكز فكر، يكون في أحيان معينة بناء على طلب من دوائر صنع القرار، وهذا النوع من المراكز يشبه الجامعات، حيث تتكون في أغلبها من حملة الدكتوراه، وعادة ما تصنف على أنها جامعات بدون طلاب) Universiti­es (without ). students

ويلاحظ نجاح بعض مراكز الفكر في أن تحافظ على استدامة هذه الطبيعة المزدوجة، فإلى جانب ما تصدره من أبحاث ودراسات وكتب تناقش أفكاراً وقضايا ذات طبيعة أكاديمية، أو تهم الدوائر الأكاديمية، فإنها تصدر أيضاً "تقديرات سياسات" و"دراسات سياسات"، وتطرح توصيات للتعامل مع قضايا محددة، سواء كانت تتعلق بالسياسات العامة أو السياسات الخارجية. ويكاد تقترب مؤسسة كارنيغي من هذا النوع من المراكز، حيث لديها جهة معنية بالتواصل مع الحكومات، وأخرى مع الأكاديميي­ن، وثالثة مع وسائل الإعلام) ). 2- المراكز التي تهتم بالتدريب وبناء القدرات (:)Do-Think Tanks تعمل في الغالب في مجال التنمية المجتمعية والتمكين السياسي لفئات معينة، ومثال على ذلك American Action Forum الذي أنشأه الحزب الجمهوري الأمريكي في عام 2009 بعد خسارة جون ماكين في انتخابات الرئاسة 2008، وذلك بهدف تكوين جيل جديد من السياسيين الجمهوريين( ). وثمة نوع من هذه المراكز يدافع عن قضايا محددة (Advocacy Think Tanks) مثل المرأة وحقوق الإنسان والحكم الرشيد وغيرها، إما لأسباب أيديولوجية أو تاريخية أو غيرها، وبالتالي يرتبط مجال عملها بتلك القضايا فقط. 3- المراكز التي تعد مراكز فكر نقية (Pure Think Tanks ): تهتم بدعم عملية صنع القرار من خلال مناقشات موضوعية للقضايا التي تهم دوائر صنع القرار، وتتسق معظم إصداراتها مع طبيعة كونها مراكز فكر، أي أنها (Policy-oriented)، سواء من حيث الحجم أو المحتوى، وتشمل "تقديرات السياسات"، و"دراسات السياسات"، وورش العمل التي تناقش "قضايا سياسات" محل جدل، ومن هذه المراكز (المعهد الملكي للعلاقات) الدولية "شاتام هاوس" (Chatham House ، والمركز الإقليمي للدراسات الاستراتيج­ية بالقاهرة) ويمكن

القول إن وجود أي من هذه المراكز في أي منطقة في العالم، يعكس مستوى التقدم في الدوائر الأكاديمية ومستوى إدراكها لمتطلبات التأثير في عملية صنع السياسات المتعلقة بالقضايا التي تهتم بها.

رابعاً: �سبعة اأنماط لتاأثير مراكز الفكر

يرتبط دور مراكز الفكر في عملية صنع السياسات بامتلاك القدرة على التأثير في هذه العملية، وتشكل هذه القدرة ثلاثة عوامل، يتمثل أولها في وجود "عقول" داخل هذه المراكز أو كما يطلق عليه (think tankers ) قادرة على التعامل مع قضايا السياسات التي تهتم بها هذه الدوائر، وتمتعها بمهارات مرتبطة بالبحث الموجه سياسياً (policy-oriented research)، سواء كانوا من حملة الماجستير أو الدكتوراه في العلوم السياسية أو الاجتماعية، أو لهم خبرة عملية في الجهاز التنفيذي للدولة ولكن تتوافر لديهم معرفة بأساسيات البحث؛ فنوعية هذه العقول تحدد دور المراكز في عملية صنع القرار، وما إذا كانت ستقتصر على تعميق النقاش حول قضايا محددة، أم ستلعب دوراً أيضاً في تطوير سياسات واستراتيجي­ات للتعامل مع تلك القضايا.

وينصرف العامل الثاني إلى درجة فهم هذه المراكز لدوائر صنع السياسات المستهدفة وطبيعة العلاقات بينها، وإمكانية الوصول لها والاحتفاظ بقناة اتصال "دائمة" معها.

ويتعلق العامل الثالث بكون الأنشطة التي تقوم بها وما تنشره من تحليلات سياسات وتقديرات ودراسات سياسات "يهم" أو يقترب من أولويات دوائر صنع القرار. ويمكن تحديد عدد من الأدوار التي تقوم بها مراكز الفكر في عملية صنع القرار، من أبرزها: 1- ضبط الأجندة: أي تحديد القضايا التي يمكن أن تهتم بها دوائر صنع السياسات، أو اقتراح سياسات محددة للتعامل مع قضية معينة. ويلاحظ أن هذا الدور غير قاصر على المراكز المدافعة عن قضايا محددة، حيث تعمل غالبية مراكز الفكر بأنواعها المختلفة على توظيف علاقاتها بدوائر صنع السياسات للفت الانتباه لقضايا معينة، فعلى سبيل المثال، نجحت مؤسسة هيرتدج (Heritage Foundation) الأمريكية في صياغة وثيقة (for Mandate Leadership ) بعد فوز رونالد ريجان في الانتخابات الرئاسية في عام 1980، واحتوت الوثيقة على 200 توصية سياسية حول كيفية إدارة القيادة الأمريكية الجديدة لقضايا السياسات العامة، واستجابت إدارة ريجان إلى حوالي 60% منها( ). وترتبط قدرة مراكز الفكر على لعب هذا الدور بطبيعة العلاقات التي تحتفظ بها مع ما أسماه جون كينجدون، تيار السياسات (Policy stream )، وهو يتألف من جماعات الباحثين والمتخصصين والمدافعين عن قضايا محددة، وكذلك التيارات السياسية ، والتي تشكل السلطتين التشريعية والتنفيذية في الدولة، فضلاً عن قدرتها على تعزيز ما هو متوفر من معلومات عن القضايا والمشاكل الضاغطة على هذه التيارات( ). 2- حراس البوابات (Gate Keepers ): تكشف الممارسة العملية في الدول الغربية وبعض الدول الشرق أوسطية، عن أن مراكز الفكر بقدر ما تستطيع أن تطرح قضايا محددة، فإنها أيضاً تكون قادرة على استبعاد قضايا أخرى من نطاق اهتمام دوائر صنع السياسات المختلفة، إما نتيجة انشغالها بالنقاش الدائر حول قضايا محددة دون تقديم خيارات، أو أنها تستبعدها من النقاش فتكون هناك قضايا (Non-decision .)making issues

ويعد عدم اهتمام مراكز الفكر الأوروبية أو الأمريكية المعنية بإقليم الشرق الأوسط، وكذلك مراكز الفكر العربية، بتحليل إمكانية وقوع الثورات في عدد من الدول العربية كأداة للتغيير مثالاً على هذا الدور، حيث انشغلت هذه المراكز بتوصيف الوضع السياسي في هذه الدول، أو بالضغط من أجل تعزيز حقوق الإنسان فيها أو الاستمرار في عملية التحول الديمقراطي. 3- "ترانزيت" للقيادات السياسية: تعد مراكز الفكر بمنزلة باب خلفي للحكومات) (Revolving door to government )، سواء بالنسبة للمسؤولين السابقين أو الأكاديميي­ن الذين لديهم طموح سياسي، على نحو يجعلها قادرة على تكوين جيل من السياسيين يجمعون بين الخبرة العملية والخلفية الأكاديمية.

ويرتبط مثل هذا الدور بدرجة الانفتاح المتبادل بين مراكز الفكر ودوائر صنع القرار، وهو موجود بصورة كبيرة في الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، شارك دينيس روس في تأسيس معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى (The Washington Institute for Near East Policy ) في عام 1985، ثم عمل مبعوثاً خاصاً للشرق الأوسط عام 1993 في عهد الرئيس بيل كلينتون، وتم تعيينه مبعوثاً خاصاً لمنطقة جنوب غرب آسيا منذ 23 فبراير 2009 أثناء تولي هيلاري كلينتون منصب وزيرة الخارجية، ثم عمل منذ 25 يونيو 2009 في مجلس الأمن القومي مساعداً خاصاً للرئيس الأمريكي، وكان مسؤولاً في المجلس عن المنطقة المركزية التي شملت الشرق الأوسط والخليج وأفغانستان وباكستان وجنوب آسيا، وفي نوفمبر 2011 استقال من منصبه وعمل محاضراً في جامعة جورج تاون. 4- صياغة السياسات: حيث تبادر مراكز الفكر بصياغة سياسات معينة للتعامل مع قضايا محددة، وتقييم التداعيات المترتبة على اتباع أي من تلك السياسات، وتوفير الشرعية لها. ويتوقف لعبها هذا الدور على مدى قربها من دوائر صنع القرار، ومدى توفر خبرة عملية لها في التعامل مع هذه القضية. فعلى سبيل المثال، لعبت مؤسسة الحوار الدولي (Internatio­nal Dialogue Foundation ) دوراً مهماً في تشجيع الحوار بين العالم الإسلامي وأوروبا، وأطلقت مبادرات تضمن استدامة ومؤسسية هذا الحوار( ). 5- تنفيذ السياسات: يرتبط ذلك بقدرة مراكز الفكر على تحويل الأفكار والسياسات

الجديدة إلى برامج وممارسات يمكن تنفيذها، ويرتبط هذا الدور بمراكز -Do) (tanks بصورة رئيسية، خاصة حين يتعلق الأمر بقضايا تنموية. وفي حالات أخرى، تلعب مراكز الفكر دور الوسيط بين الحكومات ومنظمات المجتمع المدني أو مراكز الفكر الأخرى(33 ). 6- منتدى للحوار بين التيارات السياسية المختلفة: تقوم مراكز الفكر حالياً باستضافة الأطراف المتصارعة في حالة الدول التي تعاني من صراعات، وذلك بهدف طرح مبادرات لتسويتها، سواء نجحت مثل هذه المبادرات أم لم تنجح. ويدخل ضمن هذا النوع المراكز التي توفر منصة للمفاوضات غير الرسمية التي تعرف باسم المسار الموازي )2 Track) أو Track). 1.5 (

وعلى سبيل المثال، طرح معهد الحوار الدولي مبادرة لوقف القتال في سوريا، والتي تقوم على وقف القتال في حمص، ثم نقله إلى مدن أخرى، مستفيداً في ذلك من احتفاظه بقنوات اتصال مع العديد من الفاعلين المؤثرين في الصراع هناك منذ العام 2011، مثل الجماعات المسلحة الكردية، والجماعات المسلحة السنية)34،( كما لعب مركز الدراسات الاستراتيج­ية والدولية (Center for Strategic and Internatio­nal CSIS - Studies) الأمريكي دوراً مهماً في حوار Track 1.5 الذي عقد في سيول، والذي ضم ممثلين عن المركز إلى جانب ممثلين عن معهد الشؤون الخارجية والأمن الوطني الكوري الجنوبي، ومعهد الصين للدراسات الاستراتيج­ية في يوليو 2013، وذلك بهدف مناقشة إجراءات بناء الثقة وتحقيق الأمن والسلام بين الكوريتين)35). 7- تثقيف الجمهور والتأثير في المجال العام: تهتم به مراكز الفكر التي تتبنى تعريفاً موسعاً لدوائر صنع القرار، بحيث تشمل من هم في السلطة، أو من يؤثرون عليها من قادة الرأي العام أو قوى الشارع أو صانعي القرار المحتملين من الأحزاب السياسية، والنشطاء السياسيين، وذلك من خلال المحاضرات العامة والدورات التدريبية.

ويلاحظ تزايد هذا الدور بالنسبة لمراكز الفكر العاملة في إقليم الشرق الأوسط بعد الثورات العربية، حيث نشأ عدد من المراكز الجديدة التي تعنى بتقديم دورات تدريب نوعية، كما اتجهت المراكز القائمة فعلاً في هذه الدول لتنظيم محاضرات تثقيفية أو تنفيذ برامج بناء قدرات لنواب المجالس البرلمانية، أو الباحثين المعاونين فيها، خاصة أنه قد صاحب هذه الثورات تحول في طبيعة النخب الحاكمة، ووصول نخب جديدة للسلطة لم تتوفر لها خبرة العمل السياسي نتيجة طبيعة النظم القديمة. ويمنح هذا الدور مراكز الفكر قدرة افتراضية على التحول إلى أدوات لتعبئة الجماهير. تجدر الإشارة، إلى أن هناك جدلاً مستمراً حول كيفية وإمكانية قياس تأثير مراكز الفكر في عملية صنع السياسات، وهل يقتصر التأثير على طرح أفكار جديدة أم بقدرتها على تحويل تلك الأفكار إلى سياسات؟، لاسيما أن مراكز الفكر تهتم تاريخياً بزيادة "عدد" منتجاتها بدلاً من توسيع نطاق "دوائر" تأثيرها( 36 ).

هذا الجدل دفع بعض مراكز الفكر إلى لعب أدوار تتخطى الخط الفاصل بين كونها مراكز فكر وكونها لوبيات ضغط، خاصة في حالة مراكز الفكر التي يتم إنشاؤها من قبل الحكومات كمراكز يبدو تنظيمياً أنها مستقلة، ولكنها من الناحية العملية تعد صوتاً لتلك الحكومات، وهو ما يعرف باسم (Phantom Think Tanks )، والتي تتميز بها العديد من مراكز الفكر الأمريكية على وجه التحديد.

ويلاحظ اتجاه بعض مراكز الفكر أثناء سعيها لتعظيم تأثيرها في عملية صنع السياسات إلى تجنب التخلي عن الخط الفاصل بين كونها مراكز فكر، وبين تحولها إلى لوبيات ضغط، من خلال تبنيها استراتيجيا­ت داخلية من أجل ضمان وصول أفكارها لدوائر صنع القرار، وكذلك اتجاهها لتوسيع النشاط التسويقي لإصداراتها على نحو أوجد ما يسمى (Marketing think tanks)، حيث يتم الاهتمام بصورة أكبر بالعلاقات العامة إلى جانب العمل البحثي، بل إن مخصصات نشاط الاتصال الخارجي بلغت على سبيل المثال 40% من ميزانية مركز التقدم الأمريكي في عام 2008، وكان إجمالي ميزانيته خلال هذه السنة 27 مليون دولار، ولديه 180 باحث، وعدد كبير من المدونين)37.( كما يلاحظ اتجاه العديد من مراكز الفكر إلى الاعتماد على شبكة من العلاقات تضم أطرافاً رسمية وغير رسمية من أجل تعظيم تأثيرها في عملية صنع القرار)38).

وإلى جانب ذلك، أصبح هناك اهتمام مضاعف بقياس تأثير مراكز الفكر باستخدام المؤشرات الكمية، من خلال عدد مرات ظهور العاملين فيها في وسائل الإعلام للتعليق على أو تحليل أحداث محددة، وبعدد مرات الإشارة لأعمال المركز في وسائل الإعلام، وبعدد المنتجات في الشهر أو السنة، وبعدد المتابعين لصفحة المركز على موقع الفيس بوك أو تويتر، وغيرها من المؤشرات الكمية، وذلك على حساب الاهتمام أحياناً بمؤشرات كيفية تتعلق بنطاق تأثير الأفكار التي تطرحها مراكز الفكر في عملية صنع القرار، وما إذا تبنتها دوائر صنع القرار وتحولت إلى سياسات فعلية أم لا.

خام�ساً: ثمانية تحديات رئي�سية لمراكز الفكر في ال�سرق الأو�سط

يرتبط استمرار قدرة مراكز الفكر بأنواعها المختلفة على الحفاظ على دورها في صنع السياسات بقدرتها على طرح أفكار أو سياسات تساعد على "إدارة" التحولات شديدة التعقيد التي أصبحت سائدة اليوم، سواء في داخل الدول أو في الأقاليم أو في العالم، وهي تحولات بقدر ما أدت إلى تزايد أهمية مراكز الفكر باعتبارها مصانع للسياسات يمكن الاعتماد عليها من قبل الحكومات، إلا أنها تفرض عليها تحديات من نوع جديد مختلف عن تلك التي درجت العادة على مناقشتها في الدوائر المهتمة بدور مراكز الفكر، والتي تعلقت بصورة رئيسية بمسألة تمويل مراكز الفكر)39،( ويرتبط هذا التحدي بقدرة هذه المراكز على تطوير شبكة من العلاقات تضمن مضاعفة تأثيرها، تشتمل على: الرؤية والسوق والعنصر البشري والمال، وذلك وفقاً ل :"جيمس ماجين")40 ).

ويلاحظ أن التحديات التي تواجهها مراكز الفكر نتيجة تعقد البيئة التي تعمل فيها تعد أكثر وضوحاً في حالة مراكز الفكر العاملة في إقليم الشرق الأوسط، نظراً للتحولات الكبيرة التي يشهدها الإقليم منذ الثورات العربية، والتي استدعت من مراكز الفكر، سواء حديثة النشأة أو تلك التي تعمل منذ فترة طويلة، إعادة النظر في طريقة عملها، والتكيف بصورة ما مع التحولات التي تشهدها المنطقة. ويمكن إيجاز أبرز التحديات التي تواجه عمل مراكز الفكر في الشرق الأوسط فيما يلي: 1- القدرة على التكيف مع المتغيرات الجديدة: ثمة قضايا جديدة تتحدى ما ساد عن منطقة الشرق الأوسط في مراكز الفكر طوال الفترات الماضية من أفكار نمطية)41،( وذلك من قبيل الاهتمام بقوى الشارع باعتبارها قوى جديدة تؤثر على عملية صنع القرار، وتصاعد دور الفاعل "المهجن" (Hybrid actor) في السياسات الإقليمية، وتنامي تأثير الفاعلين المسلحين الذين ظل الاهتمام بهم محدوداً مقارنة بحجم الاهتمام بالدولة، والتي أصبحت بدورها تمر بتحولات لم تعد معها مفاهيم الدولة الفاشلة أو الدولة الديمقراطي­ة تصلح للتعامل معها.

ويزداد هذا التحدي تعقيداً في حال ارتباطه بحاجة مراكز الفكر للحفاظ على القدرة التنافسية لها، لاسيما في ظل تزايد المنافسة لها من قبل شركات الاستشارات، والمؤسسات القانونية، وشبكات الأخبار)42،( وهنا ترتبط قدرة مراكز الفكر بالحفاظ على قدر من التخصص في عملها، وبممارستها للبحث البيني، أي الذي يضم أكثر من حقل من العلوم (interdisci­plinary)، وتطوير أطر متعددة الأبعاد تعالج قضايا محددة. 2- القدرة على ماحقة الأحداث ووضع التوصيات: تستدعي التحولات الراهنة أن يقوم عمل مراكز الفكر على السرعة والدقة في الرصد والتحليل وفق توجه المدى الأقرب (short termism )، واللجوء إلى العمل الميداني، من أجل الحصول على متابعة دقيقة لما يجري. وتكشف الممارسة العملية عن أن هذه الإشكالية جعلت بعض مراكز الفكر غير قادرة على الحفاظ على جودة منتجاتها، حيث انزلقت نحو العمل الصحفي من خلال سيطرة الاهتمام بتحليل الأحداث الجارية على حساب تقديم مقترحات أو توصيات لصانعي السياسات. 3- عدم التحول إلى مراكز للكام (Talking Tanks ): أصبحت التحليلات والتقديرات الخاصة بمراكز الفكر، خاصة المتعلقة بالأزمات المشتعلة، مادة أو محتوى للقوات الإخبارية الدولية والإقليمية والمحلية؛ وهو ما قد يقلل من تواصلها مع دوائر صنع القرار، أو يقلل من قدرتها على تقديم تحليلات وتقديرات وتوصيات لدوائر صنع القرار في الدولة بسبب دخول الإعلام طرفاً لعرض منتجات هذه المراكز. 4- تزايد تأثير الرقابة الذاتية على عمل مراكز الفكر: يعتبر تزايد تأثير الجهات المانحة على عمل المراكز بعداً جديداً، فهذه الجهات لم تعد متمثلة في المنظمات الدولية، مثل هيئة المعونة الأمريكية أو الاتحاد الأوروبي، كما كان الوضع من قبل، وإنما أصبحت الحكومات جهات مانحة رئيسية للعمل على قضايا محددة، ويعبر عن هذا التحدي تزايد المطالبات في العديد من الدوائر في الولايات المتحدة خلال عامي 2013

و2014، بالكشف عن الجهات الممولة لمراكز الفكر العاملة فيها(43.( واستجابةً لذلك أعلن مركز التقدم الأمريكي قائمة الممولين الخاصة به)44،( وكذلك أعلن كل من مركز بروكنجز، ومركز الدراسات الاستراتيج­ية والدولية CSIS، والمجلس الأطلنطي (Atlantic Council ) عن قائمة الممولين الخاصة بهم( 45 ). 5- فجوة الأجيال: تسيطر على بعض مراكز الفكر، سواء الغربية أو الشرق أوسطية، نخب من أجيال متقدمة عاصرت أحدثاً تاريخية محددة، وبعضها غير قادر على مواكبة التطورات التي يشهدها العالم أو الإقليم، وبعضها لا يستطيع الانفتاح على أجيال جديدة من الباحثين، أو يوجد كوادر بحثية وقيادات جديدة، حيث يؤثر ذلك على نوعية التحليل والتقدير الذي يصدر عن مراكز الفكر، والذي يظل حبيساً أحياناً لأفكار وأطر تقليدية، وربما لا يكون قادراً على معالجة قضايا أصبحت تؤثر على حياة الناس اليومية. 6- التطوير المستمر وتحديث أطر ومستوى العمل: يتعلق ذلك بضخ دماء جديدة، إما نتيجة عدم امتلاكها برامج زمالة (Fellowship programs ) تسمح بتوفير قناة يمكن من خلالها استضافة العاملين في الجهاز التنفيذي للدولة بعد خروجهم من الخدمة، خاصة في حالة المراكز الشرق أوسطية، أو نتيجة عدم وجود تقييم دوري لقدرتها على التأثير في دوائر صنع السياسات. وعلى الرغم من اهتمام العديد من مراكز الفكر بتطوير آليات تسمح بتقييم عملها من خلال استحداثها فِرقاً داخلية تعنى بتطوير المنتجات، أو ضبط جودة التحليلات)46،( أو تعنى بالتطوير الأكاديمي وما يرتبط به من الحفاظ على جودة المنتجات ورفع كفاءة الباحثين، وتعزيز وضع المركز إقليمياً ودولياً، وكذلك تطوير القدرات الإدارية للمركز؛ فإن هذه الممارسات لاتزال محدودة وغير واسعة الانتشار)47). 7- غياب أطر تنظيمية متكاملة لعمل مراكز الفكر: على خلاف الوضع في الولايات المتحدة، حيث يوجد قانون ينظم عمل مراكز الفكر والأبحاث باعتبارها كيانات غير هادفة للربح، ويعفيها من الضرائب)48،( لا توجد أطر مماثلة في دول الشرق الأوسط. ففي حالة مصر على سبيل المثال، يتم إشهار هذه المراكز إما كمنظمة غير حكومية أو كشركة، وهي مسألة تؤثر على قدرة هذه المراكز على الاستمرار في عملها بقدر من الاستقرار. 8- القدرة على طرح الأفكار والتفاعل مع الدوائر الخارجية: يمثل تمايز منتجات ومخرجات مراكز الفكر التي تعمل في الشرق الأوسط عن ما هو سائد وتقليدي لدى الدوائر الأخرى الخارجية، الأكاديمية والسياسية، تحدياً كبيراً، فرغم الميزة التي تتمتع بها هذه المراكز كونها تقع في قلب التحولات، وبالتالي تقدم تحليلات وتقديرات وربما نماذج كمية من داخل الإقليم؛ فإن جماعات المصالح من الخبراء أو شبكة المراكز الأوروبية أو الأمريكية التي تهتم بإقليم الشرق الأوسط غير قادرة على التفاعل مع ما يصدر عن مراكز الفكر بالإقليم، إما لأنها تغرد خارج السرب نتيجة أن لديها توجهاً محافظاً على خلاف التوجه الديمقراطي أو الليبرالي المميز للمراكز الغربية، وإما نتيجة عدم قدرة تلك المراكز الشرق أوسطية على ترجمة أعمالها للغة الإنجليزية، وهو ما يجعل قدرتها على التأثير محدودة، حتى فيما يتعلق بالقضايا الشرق أوسطية التي يهتم بها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مثلاً.

خاتمة:

فرض تحول مراكز الفكر إلى مؤسسات "مختلطة"، تجمع في تكوينها بين الأكاديميي­ن والمتخصصين في التسويق والصحفيين والسياسيين، إلى جانب أنها تمثل الحلقة الوسيطة بين الدوائر الأكاديمية ودوائر صنع السياسات، تحديات تتعلق بتعزيز جودة ما يصدر عنها من تحليلات وتقديرات ودراسات سياسات، وتخصيص موارد تضمن ذلك، ويظل إشكالية حقيقية تواجهها بصورة مستمرة، خاصة المراكز العاملة في المنطقة العربية، وهي إشكالية تؤثر على استدامة السلطة "الناعمة" التي تتمتع بها مراكز الفكر.

ومع أنه لاتزال المناقشات الخاصة بتأثير مراكز الفكر في عملية صنع القرار تتعامل معها كفاعل خارجي، فإن التحولات التي تشهدها العلاقة بين دوائر صنع القرار ومراكز الفكر على تنوعها تفيد بأنه في حالات محددة، أصبحت هذه المراكز طرفاً مباشراً في عملية صنع القرار، خاصة في حال تحول العاملين فيها إلى قيادات "محتملة"، أو رؤساء "محتملين" للحكومات، كما في حالة مراكز الفكر الأوروبية والأمريكية، ولذا يطرح غياب هذه الممارسة في حالة المراكز العاملة في المنطقة العربية تحدياً أساسياً، حيث ستظل تؤثر في عملية صنع السياسات من خارجها وليس من داخلها.

ويمكن القول أخيراً إنه بقدر ما تعد مراكز الفكر بصفة عامة مهمة في توفير جيل من صانعي القرار في القطاعين الحكومي أو القطاع الخاص، لاسيما في حال وجود برامج أو آليات تسمح باستضافة وقتية لأحد المسؤولين التنفيذيين، فإنها تواجه تحدياً خاصاً بالحفاظ على الخط الفاصل بين كونها مراكز فكر وبين كونها "نادياً" للسياسيين، فضلاً عن قدرتها على إيجاد أجيال متتالية من (Think Tankers )، قادرة على تحقيق الاستدامة لتأثيرها في عملية صنع القرار، وتطوير أفكار وسياسات مبتكرة، تساعد صانعي القرار على تنوعهم على إدارة التحولات التي تشهدها دولهم.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates