Trending Events

بلادي أولًا: إلى أين سيصل انتشار القومية الجديدة؟!

- د. خالد عمر بن ققه

تعيش البشريّة اليوم حالات من التناقض بين الانفتاح والانغلاق، فكري وسياسي واجتماعي ،ً وقد أثر شعار ”بلادي أولاً“سلب على العلاقات الاجتماعية، والمساعي الرامية إلى التعاون وتبادل المعرفة.

يبدو أن ثورة طويلة الأمد من غير المرجح أن تضع أوزارها في المستقبل المنظور تشي بوصول منتظر إلى مرحلة البحث في الأصول، وفي الأعراق، وفي الانتماءات، وهذا يعدُّ شكلاً جديداً لعولمة الاختلافات وتعميق التناقضات داخل كل دولة، وكل شعب. وكل ما نراه اليوم من فعل سياسي على المستوى الدولي من دعوات صريحة لتثبيت نزعة "القومية الجديدة" يهدم الأسس التي قامت عليها الدول.

تشير التطورات الحادثة الحالية، من وصول دونالد ترامب إلى سدة الحكم ودعاويه المستمرة نحو القومية الجديدة، وكذلك ما فعله الشعب البريطاني في خروجه عبر الاستفتاء من الاتحاد الأوروبي، إلى أن مفهوم "القومية الجديدة" لم يعد حالة معرفيّة يتوقع حدوثها أو أنه مجرد طرح نظري، وإنما تحول إلى واقع عملي. بل إنه يتوسع اليوم على مستوى القناعات والقرارات السياسية، وما يتبع ذلك من تغيير في عوالم الاقتصاد والثقافة والمجتمع، كما يفرض إعادة تشكيل الفضاءات داخل جغرافية الدولة الواحدة.

واللافت أن البعض يتولى تصدير الفكر القومي إلى الدول الأخرى، حتى لو أدى ذلك إلى انهيار الدول، أو تفشِّي التطرف والإرهاب فيها، لذلك يتلاقى طرح دعاة القومية الجديدة مع الجماعات الإرهابية لجهة فرض تصوراتهما بالقوة، وأيضاً بإعطاء ذلك التصور بعداً عالمياً.

�أولاً: ملامح �لقومية �لجديدة

بات من الثابت أن النظريات القديمة للدولة الوطنية لم تعد مجدية، فالدولة حالياً وهي تسير نحو المستقبل تبدو محافظة على صفة المواطنة، وإن كانت ستخص بها مجموعة من الشعب على حساب أخرى، بغض النظر إن كانت تمثل الأكثرية أو الأقلية، كما أنها ترسخ وجودها وسيادتها، انطلاقاً من ميراثها التاريخي، نتيجة معاهدة ويستفاليا 1648، التي اعترفت بحدود الدول القومية، وأقرّت الاحترام المتبادل لسيادة الدول على أراضيها ومواطنيها.

وتشي الحالة الراهنة أو الأخرى المنتظرة نحو تغلغل النزعة القومية الجديدة بمخاوف مبررة من الحاضر والمستقبل، ويمكن أن نطلق عليها "عصر فوبيا". والأمر يتعلق بأسئلة مصيرية ووجودية مشروعة منها على سبيل المثال: ماذا سيكون مصير الدول التي تعتمد علاقة الحكام والمحكومين فيها على نظرية العقد الاجتماعي؟ وكيف سيتّم التغيير في ارتباط الدولة المعاصرة بسيادة الرأسمالية وتطورها حتى في الدول التي مازالت تحافظ على ميراثها الاشتراكي مثل: الصين وروسيا؟ وأنّى لها أن تستبدل شكل الدولة في أوروبا في ظل رفض داخلي لهذا التغير؟ وإلى أيّ مدى سيظل النموذج الغربي الأمريكي سائداً في النظام السياسي الدولي؟ وما العمل في ظل تعدد

القطبية من جهة، وتمرد الشعوب من جهة ثانية؟

الأسئلة السابقة وغيرها، تبيّن سواء أكانت إجابتها جاهزة في الحاضر أم هي متعلقة بمستقبل لم تتحدد معالمه بعد أن التصورات التي طرحها المنظرون في تَتَبعهم للتطور التاريخي للدولة خاضعة للمساءلة وإعادة الصياغة من جديد، وهنا مكمن الخوف، لأن اهتزاز القناعات وتغير المفاهيم، واستحداث المرجعيّات وفقدان المكتسبات، تؤدي بالضرورة إلى ظهور إشكاليات في المنظومة القانونية التي تربط أجزاء المجتمع، وسيطرة مطلقة للطبقات والأعراق على سلطة الدولة، وتحول دون تحقق الأهداف المشتركة، وما يتبع ذلك من عجز في تحقيق الأهداف المجتمعة المشتركة، وكل هذا سيؤدي إلى سيطرة طبقة أو جماعة واحدة عن سلطة الدولة بأكملها، من ثمَّ السيطرة على المجتمع، ومن هنا يمكن لنا فهم التظاهرات الحالية في الولايات المتحدة الرافضة لقرارات وسياسة الرئيس رونالد ترامب.

ثانياً: تبعات �لقومية �لجديدة

طرح القومية الجديدة بالصيغ المختلفة، سيترتب عليه ما يلي: 1- تراجع دور الدولة الوطنية على الصعيد الخارجي والغرق في متطلبات الجبهة الداخلية. والشواهد على ذلك فوز الأحزاب القومية المتطرفة في عدد من دول العالم، غير أن تلك العزلة لن تستمر طويلاً، لأنها تختلف مع صيغ التعايش في عصرنا، ولأنها لا يمكن أن تحقق النتائج المطلوبة بل على العكس من ذلك، ستؤدي إلى توتر في شبكة العلاقات الاجتماعية، لأن المجتمعات عموماً، خاصة في الدول الكبرى، تتكون من أقليات متعايشة بصورة واضحة، ولهذه الأقليات امتدادات ومصالح وتفاعل مع الخارج.

لم تعد الدولة الوطنية في المستقبل المنظور ذروة البنيان الاجتماعي، كما لن تتمكن من فرض سيادتها على جميع أشكال التجمعات الأخرى من حيث وسائلها في فرض المبادئ المجتمعية وتنظيم السلوك البشري. وتبعاً لذلك ستتغير في إصدارها القوانين، وكذلك في معاقبة من يخرجون عن سلطتها. 2- القومية الجديدة تقضي بشكل سافر على الميراث البشري المتراكم لقيادة الدول، لأنها متناقضة حتماً مع الدولة القومية بمعناها التقليدي، الذي يعود إلى القرن السادس عشر، ومُنْهية الدولة الوطنية الحديثة ابنة الحرب العالمية الثانية، أو حتى تلك التي تشّكلت في المرحلة اللاحقة بعد بلوغ الحرب الباردة ذروتها. كما لم تستفد من مرحلة طغيان قطب واحد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ومُؤكدة على مخاطر سيطرة العولمة. من ذلك ما تقوم به الولايات المتحدة في الوقت الراهن، فمن جهة انسحبت من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي، وفي الوقت نفسه تصر على التدخل في شؤون الدول الأخرى اقتصادياً وعسكرياً.

هكذا إذن، تتحوّل الوطنية الإيجابية، التي كسبت رهان التعايش والتسامح والتعاون من خلال اعترافها بحقوق القوميات المختلفة، وتأكيدها على حقوق المواطنين وواجباتهم في ظل دولة مدنية، إلى وطنية سلبية. ومن ثم إلى قومية عدائية تقوم على التصنيف والانعزال، والأكثر من هذا إلى عدم الثقة في الأقليات، ناهيك عن تأثيرها المباشر على العلاقات بين الدولة والمواطن والعالم الخارجي.

ولأن هذا يقع في دولة كبيرة على المستوى العالمي، وهي الولايات المتحدة التي تجر قاطرة التغيير سلباً وإيجاباً، يتوقع أن تسير معها على الطريق نفسه دول أخرى ذات تأثير على العالم مثل روسيا والصين. ويبدو أن التعصب سيقابل بمثله، وذلك سيطيل من عمر الجماعات الإرهابية، الدينية منها على وجه الخصوص، وبالتأكيد ستجد في وعود ترامب طرد المهاجرين ”غير الشرعيين“، ومنعه المسلمين من الدخول إلى الولايات المتحدة، ووعده ببناء جدار على الحدود مع المكسيك، ما يمدها بالقوة و"يشرعن" وجودها. لقد تحولت نظرة هذه الجماعات المعتمدة على التطرف والعنف والإرهاب، إلى استراتيجية دولة عظمى، وذلك ما كانت تبغي.

ثالثاً: تو�سع �لقومية �لجديدة

الملحوظ أن القومية الجديدة آخذة في التمدد وعلى نطاق واسع، من ذلك تبنيها تيارات عديدة مثل: اليمينية الشعبوية، وأنصار الحمائية التجارية، ومعارضي العولمة، والرافضين للهجرة، وكذلك المشككين في الاتحاد الأوروبي. ففى بريطانيا نجحت حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي، وفي فرنسا تجاهر ماري لوبن زعيمة الجبهة المتحدة بالعداء للعولمة والتجارة العالمية، وتدعو إلى استفتاء حول مغادرة فرنسا للاتحاد الأوروبي رافعة شعار "لا لبروكسل، نعم لفرنسا".

وفي ألمانيا يصّعد حزب "البديل لألمانيا" خطاب الكراهية ضد المهاجرين والأقليات، وكذلك الحال في النمسا وحتى الدنمارك، وفي جميع أنحاء العالم، تتجه القومية العرقية لأن تصبح قوة سياسية ضخمة - بداية من القومية الهندوسية والصينية المتزايدة، وحتى صعود الأحزاب السياسية المناهضة للهجرة في الغرب كما ذكرنا سابقاً، مروراً بما يقدم عليه الاَن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تعامله مع الأكراد في الداخل، ومع الجوار الإقليمي، خاصة سوريا.

العالم على الرغم من رحابته يضيق على الجميع، ويزيد من ضيقه هذا النفور، وتحول معظم البيئات الحاضنة للقوميات والإثنيات إلى بيئات رافضة وطاردة، وهذا يشي باشتعال حروب ضمن دوائر متعددة، ومزيد من نمو الحركات الجهادية والطائفية.

 ??  ??
 ??  ?? د. خالد عمر بن ققه كاتب وصحفي جزائري
د. خالد عمر بن ققه كاتب وصحفي جزائري

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates