ثورة الأنظمة الاقتصادية والديمقراطية: إعادة اختراع الطريق الثالث

كينيث نوردبيرج Revolutionizing Economic and Democratic Systems: Reinventing the Third Way By: Kenneth Nordberg, Palgrave Macmillan, 2017,277 pp., 123,04 €, 9783319406329 عرض: باسم راشد، باحث في العلوم السياسية

يجادل كينيث نوردبيرج، الباحث في العلوم الاجتماعية بجامعة "أوبو أكاديمي" في فنلندا، بأنه على الرغم من التأثيرات الراديكالية للثورات الصناعية التي شهدها المجتمع الغربي وصولاً إلى الثورة الصناعية الرابعة، فإن هذه التأثيرات لم تمتد للهياكل السياسية والاقتصادية القائمة في المجتمع الغربي، فكيف يمكن استبدال هذه الهياكل بأخرى قادرة على مواكبة التطورات العالمية المتسارعة؟ هذا هو ما يجيب عنه في كتابه الصادر تحت عنوان "ثورة الأنظمة الاقتصادية والديمقراطية: إعادة اختراع الطريق الثالث".

ع �سر « �لحوكمة �لجديدة »

يركز الجزء الأول من الكتاب على الطرح النظري لمفاهيم الحوكمة في أعقاب الثورات الصناعية ومراحل تغيرها وتداعياتها، حيث أصَّل نوردبيرج لمفهوم "الحوكمة الجديدة"؛ والتي تعني التحول من سيطرة الحكومة المركزية ذات الطابع البيروقراطي الهرمي إلى تأسيس هيكل أو نظام لا يُفرض من الخارج بقدر ما ينتج عن تفاعل هيئات الحكم الفاعلة والمؤثرة في النظام السياسي للدولة.

ويؤكد الكاتب أن حدود دور الدولة قد انتقل خلال العقود الماضية من المركزية إلى تعدد المراكز بمعني أن الدولة لم تعد الفاعل الوحيد في العملية السياسية والاقتصادية، وعلى الرغم من ذلك تضطر الحكومة المركزية إلى التدخل في بعض الأحيان لمساعدة بعض الشركات لإنتاج سلع قادرة على المنافسة.

ويري أن هناك العديد من المشكلات المرتبطة بتطبيق هذا المفهوم فمن ناحية لا تستطيع المجتمعات المحلية إدارة أمورها بالطريقة المثلى، ومن ناحية أخرى مازالت الحكومة المركزية تفضل الاعتماد على الخبراء في اتخاذ القرارات الاقتصادية، على الرغم من أن بعض هؤلاء الخبراء لا يكونون على درجة من الاحتكاك الكافي بمشكلات المواطنين.

وقد أطلق الكاتب على هذه المشكلات "مأزق المجتمعات الغربية" واقترح في هذا الصدد أن يتم الاعتماد على الهياكل التشاركية التي تعزز الشراكة بين جميع أطراف المجتمع مع إعطاء مزيد من الاهتمام لتعليم المجتمعات المحلية مفاهيم مثل "تعلم السياسات، والتعلم عبر الحدود، والتعلم الاجتماعي"، وهو ما قد يساعد على تأهيلهم بالخبرة الكافية لإدارة شؤونهم، فضلاً عن أنه سيحقق مكاسب اقتصادية وديمقراطية لكل الأطراف، حيث سيعطي مزيداً من الشرعية للحوكمة ويساهم في تحقيق النمو.

�إعادة �ختر�ع «�لطريق �لثالث»

شهدت العقود الأخيرة تغيراً كبيراً في دور الدولة، بحيث أصبحت الدولة أقوى فيما يتعلق بالسياسات الخارجية والإقليمية، فيما تراجعت قوتها على المستوى المحلي لصالح الفاعلين داخل المجتمعات المحلية.

ومن ثم، يتوجب إعادة تفسير دور الدولة، بحيث تحتفظ بقوتها مع التنازل عن بعض سلطاتها لصالح المجتمعات المحلية، على ألا يعني ذلك الوصول لدرجة عالية من اللامركزية المطلقة، بل يجب أن تكون للدولة القدرة على السيطرة على شبكات الحوكمة المختلفة داخل المجتمعات المحلية، مما يساعد الدولة على الحفاظ على شرعيتها، أو بعبارة أخرى الانتقال من نظام Governance() إلى نظام .)Metagovernance(

وتتعلق إعادة اختراع الطريق الثالث بفكرة الارتباط بين الجوانب الاقتصادية والسياسية للحوكمة، حيث يفترض هذا الطريق إتاحة المشاركة السياسية الفعالة لجميع أفراد المجتمع، مما يؤثر بالإيجاب على النواحي الديمقراطية والاقتصادية على السواء، وذلك لن يتم إلا من خلال تعميق مفاهيم الديمقراطية التشاركية، وشبكات الحوكمة، وأنشطة ومفاهيم التعلم متعددة المستويات، وهو ما سيجعل المواطن أساس عملية اتخاذ القرار، ويتيح فرصة للتنمية والنمو الاقتصادي.

تجارب دولية ناجحة

تعميقاً لهذا الطرح النظري المكثف الذي أفرد له نوردبيرج مساحة كبيرة من كتابه، استعرض الكتاب حالات دراسة لإقليم "بوهيانما" Ostrobothnia() في غرب فنلندا، وقام بعرض نظام الإدارة والحكم الفنلندي والمراحل التي مر بها وصولاً لنظام حكومة ملائم للسياق الفنلندي، ويساعد على النمو الاقتصادي والابتكار، كما استعرض نظام الحوكمة النرويجي وكيف تم تأسيسها.

ثم استعرض بعد ذلك النظام الاقتصادي المعروف باسم ما "بعد الفوردية" Post-Fordist(،) وهو النظام الأكثر انتشاراً في غالبية الدول الصناعية، ويقصد به التحول من نمط تقسيم العمل بصرامة إلى شبكات تشاركية مترابطة ومتفاعلة تؤثر على بعضها البعض، كما قام بعقد مقارنة بين كل من النرويج وفنلندا لتوضيح أهم الدروس المستفادة من تجارب كلا الدولتين، وإجمالاً، يمكن القول إن طبيعة التعقيد والتشابك السائدة في العالم تدفع باتجاه تأسيس نظام حكم لا مركزي شبكي على أن تكون الدولة قادرة على التدخل حينما يتطلب الأمر.