Trending Events

ماذا تريد كوريا الشمالية؟

- أ. إبراهيم غالي

لا تتوقف كوريا الشمالية عن تطوير برامجها النووية والصاروخية، واستفزاز جارتها الجنوبية عسكرياً بشكل شبه دائم، حتى إن رئيسها “كيم جونج أون” قد هدد مؤخراً بحرق مكتب الرئاسة في سيول، واستهداف القواعد الأمريكية في آسيا وضرب أراضي جوام الأمريكية.

ومنذ وصول "أون" )33 عاماً( للسلطة في ديسمبر 2012، تم إجراء أكثر من 20 تجربة صاروخية، وأربعة تجارب نووية آخرها التجربة السادسة في سبتمبر 2017.

ولا يُبدي قادة بيونج يونج نوايا للتراجع عن ذلك السلوك الخارجي؛ بينما تبدو خيارات إدارة الرئيس الأمريكي "ترامب" محدودة ومرتبكة في التعامل مع الملف الكوري حتى إنه لوَّح بكلٍ من الحرب والعقوبات والتفاوض خال زيارته الآسيوية في نوفمبر 2017... فماذا تريد كوريا الشمالية من وراء هذا التصعيد المتكرر في شبه الجزيرة الكورية؟ ولماذا تصر على تطوير قدراتها النووية والصاروخية؟، ولماذا تقوم على التوالي بأفعال "استفزازية" ضد جارتها الجنوبية واليابان والولايات المتحدة؟.

بقاء النظام وحكم عائلة »‬كيم‪«

إحدى النظريات التي تفسر مسعى الدولة لامتاك الساح النووي أو حتى التخلي عنه هي "العوامل الداخلية"، سواءً ارتبط ذلك ببقاء النظام أو شرعية حكمه داخلياً، أو خلق شبكات مصالح بين القادة السياسيين ومؤسسة الجيش وكافة المؤسسات البيروقراط­ية المسؤولة عن تطوير البرامج النووية والصاروخية والفضائية والعلماء أيضاً.

وهنا يسير "كيم" على خطى جده ووالده؛ إذ يعتبر رئيس كوريا الشمالية أن الاستفزاز وتطوير القدرات النووية وإثبات القوة أمام الجيران هي شروط وجودية لبقاء واستمرار نظامه على قيد الحياة وضمان الحكم داخل العائلة التي حكمت بيونج يونج منذ خمسينيات القرن الماضي، وهذه غاية لا يمكن التعويض عنها بأية حوافز اقتصادية أو اندماج في الاقتصاد العالمي. ولعل الصراع مع الولايات المتحدة هو أكثر الأمور التي تكسبه مثل هذه الشرعية.

الأمن.. واقعية »الجنون الر�سيد«

يعتقد البعض أن "الجنون" هو سمة الزعيم الكوري الشمالي، ويصفه آخرون ب "المتهور المستفز"، ولكن متابعة السلوك الكوري ربما تشير إلى أنه صاحب "مغامرات محسوبة"، أو ما يمكن وصفه ب "الجنون الواقعي الرشيد"، على غرار وصف المدرسة الواقعية في العاقات الدولية سلوك الدول ب "العقانية الرشيدة".

ومع أن سلوك "كيم جونج أون" يبدو "جنونياً" نسبياً، إلا أنه "واقعي للحد الأقصى"، فهو يدرك جيداً أن بقاء النظام وبقاء الدولة ذاتها لا يمكن أن يتحققا إلا بتوافر "الحد الأدنى من الردع الموثوق به"، وأنه يجب تطوير القدرات النووية والصاروخية والتقليدية أيضاً لحماية النفس من تهديدات الخارج.

وقد أثبتت الخبرات السابقة منذ انهيار الاتفاق النووي الأمريكي مع كوريا الشمالية في عام 2002 ثم انسحاب الأخيرة من معاهدة منع

الانتشار النووي عام 2003، وفشل المحادثات السداسية على مدى سنوات، أنه لا يمكن تحقيق الأمن سوى بالسعي للقوة وامتاك عناصرها؛ وهو ما بدا واضحاً مع إجراء أول تجربة نووية كورية عام 2006، إذ تعلمت كوريا الدروس السابقة جيداً؛ فقد وضعتها إدارة جورج دبليو بوش ضمن محور الشر في عام 2002، ورأت بيونج يونج أن نظام القذافي تخلى عن أسلحته النووية وانتهى به الأمر بإسقاط نظامه وقتله، وسقط نظام صدام حسين تحت ذريعة أسلحة الدمار الشامل وانتهى الأمر بإعدامه، والآن ترى بيونج يونج احتمالات تراجع الرئيس "ترامب" عن الاتفاق النووي الإيراني الموقع في عام 2015، وتعتقد أن واشنطن لا يمكن التعامل معها من منطق الضعف في ظل تدخاتها العسكرية في أفغانستان والعراق.

ومن هنا فإن أحد تفسيرات أهداف بيونج يونج تعود با شك لنظرية "الأمن" التي تسيطر على ذهنية قادتها وتصرفاتهم، ولذا يسعون لتحقيق الحد الأدنى من الردع، حيث أضحت كوريا الشمالية دولة "أمر واقع نووي" منذ إجراء تجربتها النووية الثالثة في عام 2013، ويقدر أن لديها ما بين 15 إلى 60 قنبلة نووية، وهذا الحد الأدنى يجب أن يكون فعَّالاً، ولهذا تطور ترسانتها الصاروخية قدر الممكن بحيث تستطيع ضرب أهداف أمريكية بشكل مباشر، وتوضح لدول الجوار قدرتها على "الردع البسيط"، مع الإدراك أنها سوف تخسر في أي معركة عسكرية شاملة، ولكنها ترفع تكلفة الاعتداء لما لا يمكن للآخرين تحمله.

الم�ساومة، اأو كوريا مقابل كوريا

أحد الاقترابات التي قد تفسر أهداف انتهاج كوريا الشمالية سياسة الاستفزاز والتصعيد هو "تحليل سلوك القادة"، فغالباً ما يتصرفون من منطلق إثبات الجدارة أمام الخصوم، بحيث يفضلون تكتيكات "الصدام". وهنا قد تؤدي الاستفزازا­ت العسكرية وغير العسكرية، إلى تحسين شروط التفاوض وفق رؤية هؤلاء القادة.

وإذا ما تم تطبيق ذلك على "كيم جونج أون"، فإنه قد يهدف إلى رفع سقف المطالب أمام واشنطن، وهذا ما يتضح في طلب عدم إجراء مناورات أمريكية مشتركة مع سيول وطوكيو، نظراً لوجود نحو 28 ألف جندي أمريكي قرب حدود كوريا الشمالية، كما أنه قد يفضل التفاوض لاحقاً من منظور القوة، بحيث يحقق أهدافه المختلفة، متمثلة في الاعتراف بكوريا الشمالية "دولة نووية" والحد من الوجود الأمريكي بالمنطقة، وربما العمل على إحياء فكرة "توحيد الكوريتين".

من جانب آخر قد يكون من بين أهداف سياسات الاستفزاز "الشمالية" أن تعيش الجارة "الجنوبية" المنتعشة اقتصادياً في حالة من القلق الدائم، فمقارنة شعب كوريا الشمالية بين وضع الدولتين لا يصب أبداً في صالح بيونج يونج، وهنا قد تعمل نظرية "نظام مقابل نظام"، فإما "كوريا واحدة" بزعامة شمالية، وإما القضاء على الجنوب ونظامه إذا ما اتُخِذت قرارات بإنهاء النظام القائم في الشمال.

"نظرية كل �سيء"

الحيرة والارتباك هما سمة التفاعات والنقاشات داخل الإدارة الأمريكية حول أفضل سبل التعامل مع بيونج يونج، فليس معروفاً على وجه الدقة ماذا يريد "كيم أون" نظرياً وواقعياً، حتى بلغ الأمر مع كوريا الشمالية التوجه نحو مقولة "نظرية كل شيء".

ويمكن القول إن هدف "تحقيق كل شيء" )بقاء الدولة والنظام، والاعتراف بالدولة النووية الجديدة، ورفع العقوبات، وتوحيد الكوريتين تحت زعامة شمالية، وتراجع التهديد الأمريكي( قد يكون هدفاً استراتيجاً طويل المدى جداً، فكوريا الشمالية امتلكت الساح النووي على مدى ثاثين سنة تقريباً.

والآن يشير "ترامب" إلى انتهاء استراتيجية الصبر الأمريكية؛ وهو ما قد تكون بيونج يونج تواجهه باستراتيجي­ة الصبر طويل المدى، والمخططة جيداً؛ حيث يدرك "كيم جونج أون" أن باده لم تتعرض لهجوم أمريكي منذ الخروج من معاهدة منع الانتشار النووي أيام الرئيس "بيل كلينتون"، ولم تستطع الفترات الرئاسية لكل من الرئيسين بوش وأوباما أن تُثنِي بيونج يونج عن مخططاتها، وأن "ترامب" راحل عن السلطة بعد ثاث سنوات، بينما عائلة "كيم" رابضة في الحكم من جيل لآخر.

ولهذا فقد يكون التخطيط الكوري الشمالي في المستقبل هو الاعتماد على احتمالات تراجع الهيمنة الأمريكية، وتشكل محاور مواجهة جديدة في آسيا، بحيث تضمن لها مواقع نفوذ وقوة بالتعاون مع خصوم واشنطن في المنطقة، وهنا قد تقترب شيئاً فشياً، وبمرور الزمن، إلى إمكانية الاتحاد مع كوريا الجنوبية فيدرالياً حتى التوحد معاً في دولة نووية واحدة.

أخيراً، قد يكون السؤال الأبرز بالنسبة للقضية الكورية هو: ماذا تريد الصين؟، فمن المعروف أنه لولا الدعم الصيني لنظام بيونج يونج اقتصادياً وعسكرياً ودبلوماسياً، لما تمكن من الصمود كل هذا الوقت.

الصين أسست لبرنامج باكستان النووي لتحقيق توازن القوى في جنوب شرق آسيا، وهي تساند كوريا الشمالية، وإن تدخلت لتخفيف حدة التوتر تجنباً لاشتعال حرب آسيوية.. إنها تريد مواجهة الاستراتيج­ية الأمريكية في آسيا، وإعادة تشكيل المحاور الإقليمية وفق مصالحها، وفي القلب من ذلك دعم الجار المشاغب لكلٍ من اليابان وكوريا الجنوبية، ويؤيدها ضمنياً في ذلك، بشكل غير مباشر، الرئيس "بوتين" في روسيا.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates