Trending Events

هيستيريا دبلوماسية؟

تداعيات "الهجوم الصوتي" على العلاقات الأمريكية – الكوبية

- كارلوس خوسيه جونزاليس

تتسم الدبلوماسي­ة، 1 جانب منها، بالغموض والسرية، وتكون مصدرf دائمv للشك 1 الدول المستضيفة للبعثات الدبلوماسي­ة، خاصة 1 ظل وجود جواسيس ضمن طاقم السفارة يعملون على جمع المعلومات عن الدولة المستضيفة، وهو ما يؤدي أحيانv إb أزمات دبلوماسية بين الدول، يتم على أثرها طرد بعض موظفي السفارة، واعتبارهم أشخاصv غ5 مرغوب فيهم، غ5 أن ا زمة الدبلوماسي­ة التي اندلعت بين كل من الولايات المتحدة وكندا من جانب، وكوبا من جانب آخر، كانت أغرب ا زمات 1 تاريخ الدبلوماسي­ة الحديثة.

وتنذر هذه الأزمة بعرقلة الجهود الرامية إلى إعادة بناء العاقات بين كوبا والولايات المتحدة، والتي كانت تحسنت بفضل زيارة الرئيس باراك أوباما إلى هافانا في عام 2016 بعد أكثر من نصف قرن من العاقات العدائية بين الدولتين.

اأولً: اأبعاد الأزمة الدبلوما�سية

اتهمت الولايات المتحدة رسمياً كوباً بالتسبب في الأعراض التي تعرض لها موظفوها الدبلوماسي­ون، في نوفمبر 2016، سواء في مساكنهم وفي فندق "كابري"، ونتجت عنها إصابة حوالي 30 شخصاً بأعراض عدة، أهمها: طنين في الأذن، وفقدان السمع، والصداع، والأرق، والدوخة، والغثيان، والتعب، وفقدان التوازن، والدوار، والاضطراب الإدراكي، وتورم المخ، وإصابات خفيفة في الدماغ نتيجة الصدمة.

وما يضفي على هذا الأمر مزيداً من الغموض، هو أنه على الرغم من مرور عام على الإباغ عن أول حالة، فإنه لا توجد تفسيرات واضحة أو استنتاجات دقيقة بشأن هذه المسألة، ولاتزال الدوافع والأساليب المستخدمة والجهات المتورطة فيها موضع تخمين1(.)

وتناقضت ردود فعل الولايات المتحدة وكندا على الأحداث. فلقد كانت السلطات الكندية حذرة، وامتنعت عن توجيه اتهام رسمي إلى السلطات الكوبية، بل وأثنت على تعاون كوبا في

التحقيق في الواقعة. وصرّحت المتحدثة باسم الخارجية الكندية، بريان ماكسويل، "إننا ندرك وجود أعراض غير عادية تؤثر على الدبلوماسي­ين الكنديين والأمريكيي­ن وأُسرهم في هافانا. وتعمل الحكومة الكندية بنشاط على التحقق من الأسباب، وتشترك معها في ذلك السلطات الأمريكية والكوبية")2.)

أما الحكومة الأمريكية، فقد ذكرت أن هذه الهجمات متعمدة، وأن "الهجمات استمرت على مدار فترة طويلة من الزمن. ومن الجلي أن شعبنا يعاني هذه الهجمات بسبب بعض الوسائل والطرق المجهولة. وقرار تسمية هذه الأحداث بالهجمات يعكس وجود نمط ثابت لإلحاق الضرر بشعبنا، وليس هناك أي استنتاج آخر يمكننا التوصل إليه")3.)

وأكد الرئيس ترامب هذا الرأي تأكيداً قاطعاً، قائاً "أعتقد أن كوبا كانت على علم بذلك، بالتأكيد. وأنا متأكد تماماً من أن كوبا مسؤولة. إنه هجوم غير عادي، كما تعلمون، ولكنني متأكد أن كوبا مسؤولة، نعم")4(. وحملت وزارة الخارجية كوبا مسؤولية الهجمات المزعومة، وذلك بموجب اتفاقية فيينا للحماية الدبلوماسي­ة)5 .)

ونفت الحكومة الكوبية من جانبها أي مسؤولية عن هذا الشأن، وخصصت ما يزيد على ألفي خبير للتحقيق في تلك الحادثة، وعرضت تعاونها الكامل مع السلطات الأمريكية،

وعلى رأسها مكتب التحقيقات الفيدرالي. وتؤكد كوبا أنها لم تجد حتى الآن أي أدلة على الهجمات المزعومة، وتشكو عدم تعاون الولايات المتحدة، مشيرةً إلى أن المعلومات التي قدمتها الأخيرة، إما متأخرة أو منقوصة)6.)

وقد أشار وزير الخارجية الكوبي، "برونو رودريغيز"، إلى أن الأمر ما هو إلا تاعب سياسي، وأن "... ما يسمى بالهجمات الصوتية، أو أي نوع من الهجمات المزعومة، وأي حادث، عارٍ من الصحة، ويجري الآن تاعب سياسي يهدف إلى الإضرار بالعاقات الثنائية بين البلدين")7(. كما أعلن الوزير أن "كوبا لم ولن تسمح على الإطاق باستخدام أراضيها في أي عمل ضد ممثلين دبلوماسيين معتمدين أو أسرهم. كما تؤكد كوبا مجدداً استعدادها للتعاون في توضيح هذا الوضع")8.)

ثانياً: ا�ستبعاد » الهجوم ال�سوتي «

تثير الأزمة الدبلوماسي­ة العديد من الأسئلة أبرزها: ماذا إذن وراء هذه الحوادث ومن المسؤول عنها؟ هل هي مؤامرة تهدف إلى الإضرار بالعاقات الثنائية، أم أنها حالة من الشك الدبلوماسي؟ وهل استُخدمت تكنولوجيا متطورة أم أن الأمر كله إيحاء نفسي؟ وهل تتحمل كوبا أي مسؤولية في هذا الإطار، سواء أكان بالاشتراك أو الإهمال؟ وهل تستغل الدوائر المتطرفة في كوبا والولايات المتحدة تلك الأزمة لمنع تطبيع العاقات بين البلدين؟ وما هي وجهات النظر إزاء الأمر؟

ويبدو أن المحللين لا يجدون أجوبة على مثل هذه التساؤلات، وهو ما يرتبط بصعوبة إصدار حكم جازم بما تعرض له هؤلاء الدبلوماسي­ون، من دون مراجعة النتائج المعملية، والفحوص العصبية والنفسية، وصور الجهاز العصبي، التي أجربت عليهم، ولا يتوقع أن تعلن وزارة الخارجية الأمريكية بدورها هذه النتائج، وهو ما يجعل من التثبت مما حدث أمراً مستحياً)9.)

وفي ضوء ما سبق، فإن بعض المحللين سعى لتقديم سيناريوهات لما تم، وأحد هذه السيناريوه­ات، هي أن ما حدث نتاج عملية استخباراتي­ة كوبية ضد هؤلاء الدبلوماسي­ين، ولكنها انحرفت عن مسارها، والسيناريو الآخر هو قيام طرف ثالث بمحاولة عرقلة عملية السام مع واشنطن)10.)

وعلى الجانب الآخر، فإن الادعاء الأمريكي بوقوع "هجوم صوتي" ‪Sonic Attacks(‬ ) على دبلوماسييه­ا يعد مستبعداً بدرجة كبيرة، وذلك نظراً لأن المجتمع العلمي اتفق على أن فرضية تنفيذ الهجوم بأسلحة صوتية يعد أمراً مستبعداً، سواء لأن التكنولوجي­ا الازمة للقيام بمثل هذا الهجوم لم تتوفر بعد، أو أن الأعراض التي ذكرتها الولايات المتحدة وكندا تختلف عن الأعراض التي يمكن أن يتسبب فيها الهجوم الصوتي.

فلكي تُسفر الأجهزة تحت الصوتية أو فوق الصوتية عن النتائج التي ذُكرت، يجب أن تتوافر سلسلة من الافتراضات التي يصعب تحققها على أرض الواقع والمتعلقة بالظروف الفيزيائية لمدى الأداة المُستخدَمة في الهجوم وحجمها ودقتها وقوتها، وغيرها من الظروف.

وقد اتفق عدد من كبار الخبراء والمتخصصين مع الرأي السابق، ومن هؤلاء "يورغن ألتمان"، الفيزيائي بجامعة التكنولوجي­ا في دورتموند، و"سيث هورويتز"، عالم الأعصاب السابق في جامعة براون، وجوزيف بومبي، الباحث السابق في معهد ماساتشوستس للتكنولوجي­ا، و"تيموثي لايتون"، أستاذ الموجات فوق الصوتية والصوتيات تحت الماء بجامعة ساوثامبتون، و"جون كين"، مهندس الصوت بجامعة جنوب إلينوي، و"فولتون أرمسترونج"، الضابط السابق في وكالة الاستخبارا­ت المركزية، وغيرهم.

ولم تدع تصريحات هؤلاء الخبراء مجالاً للشك، فلقد صرّح ألتمان بأن "الأمر غير منطقي تماماً بالنسبة لي"، أما أرمسترونج فقال إنه "لا يوجد من يملك جهازاً يقوم بذلك، فمثل هذا الجهاز ليس له وجود"، وأكد هورويتز أنه "لا توجد ظاهرة صوتية في العالم من شأنها أن تسبب تلك الأعراض"، وأضاف بومبي أن "تلف الدماغ وارتجاجه غير ممكنين" باستخدام ساح صوتي، في حين قال لايتون إنه "حتى إذا كان الحديث عن بندقية من تلك التي تستخدم في أفام الخيال العلمي وتصيب شخصاً ما بموجات فوق صوتية لا يمكنه سماعها من على بعد مائة متر، فإن هذا أمر مستحيل")12()11.) وهكذا، يخلص بارثولوميو إلى أن "المشكلة تكمن في أن الفيزيائيي­ن والمختصصين في علوم الصوت لا يعرفون كيف استطاعت الموجات فوق الصوتية )ذات التردد العالي( أو الموجات دون الصوتية )ذات التردد المنخفض( أن تفعل ما ادعت وزارة الخارجية أنه حدث لدبلوماسيي­ها. وهذا يتركنا لاحتمالين: إما وجود بندقية جديدة كتلك التي تظهر في أفام الخيال العلمي أو أي شيء آخر")13.)

قامت الاستخبارا­ت الروسية منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي، باستهداف السفارة ا مريكية 6 موسكو بأشعة الميكروويف منخفضة الحدة، وبنهاية الستينيات، اكتشفت أجهزة الاستخبارا­ت ا مريكية أن السوفييت كانوا يرسلون تلك ا شعة من أجل تنشيط أجهزة تجسس كانت موجودة 6 جدران السفارة ا مريكية 6 موسكو للتجسس.

ثالثاً: اأ�سباب محتملة اأخرى

من التحليل السابق، يمكن استبعاد فرضية وقوع "هجوم صوتي" على الدبلوماسي­ين، ويتبقى هناك احتمالان أساسيان وهما: العوامل البيئية الناتجة بقصد أو بالصدفة، أو العوامل العقلية، في سياق الاضطرابات النفسية الجسدية.

ومن أنصار الاحتمال الأول خبراء مثل جون كين وشارون واينبرغر)14(، وكاثلين كامبل)15(، والمقصود بالعوامل البيئية هنا الفيروسات أو البكتيريا أو العوامل الكيميائية أو حتى السم، ويرون أنه من المعقول القول إن هذه العوامل البيئية قد تكون المسؤولة عن الأعراض التي تعرض لها الدبلوماسي­ون. وفي هذه الحالة، يكون التشخيص هو تسمم أذني نتيجة عناصر، مثل أول أكسيد الكربون مع عوامل أخرى، مثل الموجات فوق الصوتية أو تحت الصوتية.

وبموجب هذه الفرضية، يمكن تصور أن هذا الحادث كان متعمداً، وقد يكون نتاج عمل فصائل مارقة داخل الأجهزة الأمنية الكوبية، أو دولة ثالثة، والمشتبه الأساسي سوف يكون روسيا.

فقد سبق وأن قامت الاستخبارا­ت الروسية منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي، باستهداف السفارة الأمريكية في موسكو بأشعة الميكروويف منخفضة الحدة، وقد سرى شك لدى أجهزة الاستخبارا­ت الأمريكية حينها أن السوفييت كانوا يسعون إلى التأثير على الحالة الصحية أو العقلية للدبلوماسي­ين، أو حتى السيطرة على عقولهم، وبنهاية الستينيات، اكتشفت أجهزة الاستخبارا­ت الأمريكية أن السوفييت كانوا يرسلون تلك الأشعة من أجل تنشيط أجهزة تجسس كانت موجودة في جدران السفارة الأمريكية في موسكو للتجسس على طاقمها)16.)

وقد يكون مثل هذا السيناريو قاباً للتطبيق على الأزمة الدبلوماسي­ة الأخيرة وأن عملية تجسس ترتب عليها تداعيات جانبية طالت الدبلوماسي­ين وأسرهم")17.)

أما أنصار الاحتمال الثاني، فيفترضون أن السبب يرجع إلى عوامل عقلية وإيحاءات نفسية، ومن ذلك تحليل بارثولوميو، الذي يستند إلى ظاهرة تعرف باسم "الهستيريا الجماعية" لتفسير ما حدث للدبلوماسي­ين) .)

الخاتمة

في ضوء التقييمات والتحليات السابقة، يمكن أن نخلص إلى عدد من الاستنتاجا­ت الأساسية، وهي أنه لا توجد أدلة كافية للإشارة إلى الجناة ووسائلهم ودوافعهم، كما أنه ليس من الواضح ما إذا وقعت هذه الأحداث بصورة غير مقصودة أو متعمدة. وفي حالة قبول الافتراض أن الهجوم على الدبلوماسي­ين غير متعمد، فإن الأعراض التي يعانونها سوف تكون نتاج عملية نفسية أو تداعيات غير مقصودة لواقعة تجسس تصادف وقوعها مع عوامل بيئية معينة.

وفي حالة التسليم بأن الهجوم كان متعمداً، فإن الهجوم بأسلحة صوتية سوف يكون أمراً مستبعداً، ولكنه قد يكون نتيجة لوجود عناصر سامة تفاعلت مع عوامل بيئية أخرى، سواء أكانت صوتية أم لا. وعلى أية حال، فالأمر لا يزال مجهولاً، وإذا كانت هذه الفرضية الأخيرة صحيحة، فسيكون الحادث بتورط من عناصر كوبية، ولكنه سيبقي من غير الواضح ما إذا تمت بتصريح رسمي أو بدونه، أو بالاشتراك مع عناصر خارجية )روسيا( أم لا.

ويبقي من المستبعد أن تشن كوبا هجمات على بعثات دبلوماسية أمريكية في الوقت الذي تسعى فيه لتحسين عاقاتها مع واشنطن، وفي ظل انحسار الحكومات اليسارية في أمريكا الاتينية. ومن جهة أخرى، فإنه من المتوقع أن يتم استغال ما حدث سياسياً من جانب الولايات المتحدة لعدم المضي قدماً في تطبيع العاقات الثنائية بين البلدين، خاصة وأن ترامب يعارض هذا التطبيع، ويواجه ضغوطاً من جانب الجمهوريين، مثل السناتور ماركو روبيو، والذي يدعو لاستمرار تحسين العاقات بين البلدين.

وأخيراً، ينبغي التأكيد على ضرورة عدم الاستهانة بالأعراض الصحية التي تعرض لها الدبلوماسي­ون، ولهذا السبب، ونظراً للشكوك الهائلة التي لاتزال قائمة بين واشنطن وهافانا، يجب أن يتجنب البلدان التصعيد الدبلوماسي، ويبذلا جهوداً مستمرة للتعاون لكشف مابسات ما حدث، ولعل الموقف الكندي يعد نموذجاً يحتذى في تلك الأزمة الدبلوماسي­ة.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates