Trending Events

الممرات الدولية:

ساحة جديدة للصراع على النفوذ الجيواسترا­تيجي والاقتصادي

- سالي عادل

تسعى الدول الكبرى المناوئة للولايات المتحدة، وعلى رأسها الصين وروسيا، لإحياء نفوذها العالمي وهيمنتها الإقليمية والاقتصادي­ة، عن طريق بناء ممرات تجارية دولية تربطها بآسيا وأوروبا وأفريقيا، والتي من شأنها أن تؤدي إلى تغيير موازين القوى الدولية وتحدي هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على النظام العالمي ومؤسساته المالية.

يسعى هذا التحليل إلى التعريف بأهم الممرات التجارية التي يتم التخطيط لها، وتحديداً مبادرة "حزام واحد طريق واحد" الصينية، وممر "الشمال – الجنوب" الروسي وكيفية توظيفهما من قبل هاتين القوتين من أجل تعزيز مصالحهما الوطنية، بالإضافة إلى تأثيرات تلك المشاريع على توازن القوى في النظام الدولي.

اأولً: مبادرة الحزام والطريق

أعلنت الصين في عام 2013 عن إطاق مبادرة "حزام واحد طريق واحد"، والتي تُعرف كذلك باسم مبادرة الحزام والطريق، وتهدف إلى إعادة إحياء طريق الحرير القديم، وهو عبارة عن مجموعة مترابطة من الطرق تمتد إلى حوالي 10 آلاف كيلومتر كانت القوافل التجارية والسفن تسلكها للسفر بين الصين وأوروبا منذ قبل المياد بمائتي عام حتى فترة حكم العثمانيين للقسطنطيني­ة)1(. وسيربط طريق الحرير الجديد بين شنجهاي ولندن بامتداد 12 ألف كيلومتر، ومن المتوقع أن يمر هذا الطريق بدول تضم حوالي 60% من سكان العالم و30% من إجمالي الناتج المحلي الدولي)2،) وتتكون المبادرة من طريقين أساسيين أحدهما بحري، والآخر بري مكون من 6 ممرات، كما هو موضح في الخريطة)3.)

وقد أعلنت 68 دولة تأييدها للمبادرة، إما لأهميتها الاقتصادية اللوجستية لمرور طريق الحرير بها، ومنها مصر وتركيا وباكستان وكازاخستان، أو نظراً لأهمية الفرص الاستثماري­ة التي تنطوي عليها المبادرة كما في حالة السعودية)4.)

وبخاف الرؤية السائدة، فإن قناة السويس تعد محورية للطريق البحري لمبادرة طريق الحرير، خاصة مع تطوير المنطقة الاقتصادية للقناة لتصبح مركزاً لوجستياً للسفن والبضائع، أما فيما يتعلق بالطريق البري للمبادرة، فإنه لا يمثل خطراً كبيراً عليها كذلك، إذ إن حمولة الطريق البري عن طريق المقطورات أو القطارات أصغر بكثير مما تستطيع الحاويات نقله عن طريق البحر)5(، ومن جهة ثانية، فإن إعان مصر والسعودية اعتزامهما إنشاء جسر الملك سلمان أيضاً سيختصر المسافة إلى أفريقيا بشكل كبير حال اعتماده كطريق رسمي في المبادرة)6 .)

ويتوقع أن تضخ الصين استثمارات تصل

إلى 4 تريليونات دولار لتمويل مشاريع المبادرة المزمع الانتهاء منها عام 7( 2049(، حيث أولت الصين أهمية كبرى لتمويل جزء كبير من نفقات النقل والبناء والبنى التحتية للمبادرة، وقامت بتخصيص 503 مليارات دولار لتوسيع نظام السكك الحديدية الوطنية بحلول عام 2020 للإيفاء بمتطلبات المشروع)8(، إلى جانب إنفاقها حوالي 150 مليار دولار سنوياً لتمويل مشروعات المبادرة في الدول المشاركة)9.)

ويرى البعض أن المبادرة مغامرة صينية، إذ إن تداعيات عدم تحقيق العائد الاقتصادي المتوقع منها سترتد آثاره السلبية على بكين. ويمكن إرجاع الإصرار الصيني على تنفيذ المبادرة على الرغم من تلك المخاطر إلى رغبتها في تحقيق العديد من الأهداف الداخلية والخارجية، والتي يمكن إجمالها على النحو التالي: 1- تعزيز المكانة الدولية: فمن شأن المبادرة مساعدة الصين على الوصول إلى التكافؤ الاستراتيج­ي في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية في آسيا، إذ إن كثيراً من مشروعات المبادرة تخدم أهدافاً اقتصادية واستراتيجي­ة – عسكرية مزدوجة)10،) وعلى سبيل المثال، فإن الاستثمار في الموانئ الممتدة من بحر الصين الجنوبي إلى الساحل الشرقي لأفريقيا )ميناء جوادور الباكستاني وهامبانتوت­ا السريانكي والقاعدة البحرية الصينية في جيبوتي( يتيح لجيش التحرير الشعبي الصيني حرية الوصول إليها، بما يعزز وجوده العسكري والاقتصادي في هذه الدول. وقد أسمت الولايات المتحدة هذه الاستراتيج­ية "سلسلة اللؤلؤ")11 .) 2- استعادة معدلات النمو المرتفعة: إذ تستهدف المبادرة استعادة معدلات نمو الاقتصاد الصيني إلى 10% سنوياً بعد أن تراجع إلى 7% في السنوات الأخيرة، وذلك من خال مساندة الجهود الرامية إلى تحويل الاقتصاد الصيني من نموذج النمو الموجه للتصدير المعتمد على الصناعات الثقيلة إلى نموذج قائم على الاستهاك المحلي والخدمات، وهو ما يضعها في مصاف الدول ذات الدخل المرتفع)12(، كما أن هذه المبادرة ستمكن الصين من تنمية المناطق الطرفية، خاصة تلك التي تشهد نزاعات انفصالية، كما في إقليم شينجيانج والتبت، وهو الأمر الذي سيعزز من الاستقرار الداخلي)13(، ويعزز شرعية الحزب الشيوعي الحاكم. 3- تسويق المنتجات الصينية في الخارج: خاصة في ظل الفائض الكبير الذي تتمتع به بكين في مجال الإنتاج الصناعي، فالاستثمار­ات الصينية في البلدان الأطراف في المبادرة سوف تؤدي إلى ربط اقتصاداتها بالاقتصاد الصيني، فضاً عن النهوض بأوضاعها الاقتصادية، مما يجعلها سوقاً رائجة للمنتجات الصينية)14.) 4- تنويع مصادر الطاقة الصينية: وذلك من خال مد خطوط نقل النفط والغاز من روسيا وآسيا الوسطي إلى الصين، وهو ما سيقلل من اعتماد الصين على الشرق الأوسط للحصول على الطاقة.

وعلى الجانب الآخر، فإن العديد من الخبراء يرون أن المبادرة تواجه العديد من التحديات والصعوبات التي يمكن تلخيصها في النقاط التالية: 1- مدى قدرة الدول على سداد الديون المفروضة عليها: إذ إن الصين ستقوم بتمويل الجانب الأكبر من تنفيذ المبادرة، والمقدر بحوالي 900 مليار دولار)15(، وذلك من خال إعطاء قروض للدول المشاركة في المبادرة، وهو ما يثير التساؤل حول قدرتها على سداد الديون، خاصة في ضوء أن بعضها مثقل بالفعل بالديون، فضاً عن تباين وتنوع القوانين والأنظمة الحاكمة لبيئة الأعمال في الدول المعنية)16(، ومن ثم فإن المبادرة قد تحمل درجة عالية من المخاطرة، وسوف تكون تكلفتها مرتفعة على كل الدول المشاركة فيها. 2- الخلافات السياسية بين الدول: والتي يتمثل أبرزها في التوترات القائمة بين دول آسيا الوسطى بسبب الصراع حول تقاسم الموارد المائية والطاقة)17(. كما أن بعض الدول المحورية لنجاح المبادرة، مثل الهند أبدت اعتراضها عليها لمرورها بإقليم كشمير المتنازع عليه مع باكستان، ولأنها ستقوم بربط الصين بباكستان بشكل مباشر، حتى وإن لم تمر بإقليم كشمير، وبالتالي إضعاف النفوذ والتأثير الهندي في هذه المنطقة)18.) وترتاب أيضاً الدول الأوروبية، مثل ألمانيا من دوافع الصين لإنشاء هذا الطريق معتبرة أنه وسيلتها لبسط نفوذها السياسي والاستراتي­جي على أكثر من قارة، كما تتخوف برلين من قيام الصين بدعم مصانعها وشركاتها، وهو ما يؤثر بالسلب على قدرة المصانع والشركات الأوروبية في أن تصبح شريكاً في تنفيذ مشروعات المبادرة)19.) 3- التحديات الداخلية في دول المبادرة: وتتراوح هذه التحديات بين الفساد في بعض الدول والتنفيذ غير الفعّال للإصاحات الاقتصادية، بالإضافة إلى التوترات الاجتماعية والسياسية والتحديات الأمنية كالإرهاب، التي تشهدها بعض الدول الأطراف في المبادرة)20.)

ثانياً: ممر ال�سمال - الجنوب

تسعى روسيا، من جانبها، لإحياء ممر تجاري آخر كان متعارفاً عليه منذ عدة قرون، والذي كان يصل جنوب آسيا بروسيا وأوروبا عبر بحر قزوين، والذي تراجعت أهميته مع ظهور ممرات تجارية بديلة. وقد تمت إعادة طرح هذا المشروع في عام 2000 تاه توقيع اتفاقية إنشائه في مايو 2002 بين روسيا وإيران والهند، وحالت العقوبات الاقتصادية التي فرضت على إيران وروسيا دون تنفيذه)21.)

ويتضمن ممر الشمال – الجنوب خط نقل بحرياً وخطوط نقل برية وسككاً حديدية لنقل البضائع والحاويات بطول 7200 كيلومتر من الموانئ الهندية، وعلى رأسها ميناء مومباي، مروراً ببعض دول الخليج العربية ثم الموانئ الإيرانية، وأبرزها ميناء "أمير آباد" وميناء "أنزلي"، كما سيكون هناك طريق بري يوازيه خط سكة حديد بجانب الخط البحري، لتعبر البضائع بعد ذلك إلى روسيا عبر بحر قزوين وأذربيجان، ثم منها إلى شمال وغرب أوروبا)22(، ثم يعود لنقل بضائع وحاويات من أوروبا عن طريق روسيا، ثم بحر

قزوين من الشمال إلى الجنوب، وصولاً إلى الموانئ الإيرانية، حيث ستمر البضائع عبر الأراضي الإيرانية عن طريق القطارات أو النقل البري وصولاً إلى بندر عباس ومن هناك إلى دول جنوب وشرق آسيا عبر خطوط فرعية)23 .)

وقد أعربت كل من أذربيجان وتركيا وكازاخستان وأرمينيا وبياروس وطاجيكستان وقيرغيزستا­ن وأوكرانيا وعمان وسوريا وبلغاريا )عضو مراقب( عن انضمامها للمشروع، الأمر الذي سيشكل، في حال إتمامه، ممراً دولياً يختصر الوقت والتكلفة لنقل البضائع والحاويات)24.)

وتختلف دوافع الدول المؤسسة للمشروع ورؤيتها لأهميته، فنجد أن الدوافع الأساسية بالنسبة لروسيا هي زيادة عوائدها الاقتصادية، وإحكام سيطرتها على الأسواق الأوروبية، ومنافسة الدور الصيني المتنامي في وسط آسيا. أما بالنسبة لإيران فهدفها هو كسر عزلتها الدولية وتنشيط اقتصادها وزيادة حجم صادراتها الخارجية.

وتأمل أذربيجان أن تتحول إلى أحد المحاور الرئيسية للممرات التجارية، بما يساعدها على إيجاد مصادر إضافية للدخل، وزيادة نموها الاقتصادي، وتسعى الهند إلى توظيف الممر لدخول بضائعها أسواقاً جديدة ومنافسة الصين، بالإضافة إلى تجاوز باكستان في عملية التبادل التجاري مع وسط آسيا وأفغانستان وإيران، وتحويل موانئها إلى محطات مهمة لدول جنوب وشرق آسيا وإنشاء منطقة حرة بها، وأخيراً ضمان حصة من الموارد الطبيعية بوسط آسيا)25.)

وعلى الرغم من مزايا المشروع المتعددة، فإن هناك صعوبات اقتصادية وجغرافية وسياسية تحول دون تنفيذه بالشكل المأمول أبرزها: 1- الصعوبات الجغرافية: خاصة فيما يتعلق بصعوبة تضاريس الطريق البري، التي سيقطعها الممر داخل إيران، نظراً لمروره بمناطق جبلية وصحراوية، وهو ما سيرفع تكلفة تأمين الحاويات والبضائع، بالإضافة إلى صعوبة، إن لم يكن استحالة، حفر قناة ماحية بين بحر قزوين والخليج العربي. 2- التحديات الاقتصادية: إذ إن هناك حاجة إلى استثمارات كبيرة لإتمام البنى التحتية المطلوبة لأجزاء كثيرة من الممر، وعلى سبيل المثال، تقدر تكلفة إنشاء طرق برية وخطوط سكة حديدية في إيران وحدها بحوالي 20 مليار دولار)26.) 3- الأزمات السياسية والأمنية: التي تشهدها بعض الدول مثل سوريا، ووضع إيران القلق في النظام الدولي، والنزاعات بين أذربيجان وأرمينيا والصراع الروسي – الأوكراني حول شبه جزيرة القرم، وأخيراً تخوف الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية من أثر تعاون روسيا وإيران على خريطة توازنات القوى في المنطقة)27.)

ثالثاً: النعكا�سات على التناف�ض الدولي

ترتبط الممرات التجارية الدولية المزمع إقامتها، في جانب منها، بالتنافس على النفوذ والقوة بين القوى الدولية الرئيسية، لاسيما روسيا والصين والولايات المتحدة، فكما سلفت الإشارة تستهدف بكين من هذه المبادرة تعزيز حضورها ونفوذها الدولي، ولا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لروسيا، ولذلك فإن لهذين المشروعين تداعيات على عاقاتهما البينية، وكذلك على عاقاتهما بالولايات المتحدة.

فقد أيدت روسيا مبادرة الحزام والطريق بشكل رسمي عام 2014 وأكدت التزامها به واتفقت مع الصين على توسيع التعاون بين المبادرة والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، بل ودعت إلى توسيع التعاون ليضم الاتحاد الأوروبي لإقامة أوراسيا الكبرى)28(. وبدوره حاول الرئيس الصيني في أكثر من مناسبة طمأنة نظيره الروسي، وأكد له أن بكين لن تعمل على تجاوز أو تحدي نفوذ روسيا في المنطقة، وأن العاقة بين البلدين سيكون قوامها التعاون والمنفعة المتبادلة.

وعلى الرغم من هذه الإشارات الإيجابية، فإن العديد من الخبراء يشككون في جدوى هذا التعاون، ويؤكدون أن هدف موسكو الاستراتيج­ي من "الاتحاد الاقتصادي الأوراسي" هو تعزيز عاقاتها الاقتصادية ببعض دول الاتحاد السوفييتي السابق في مواجهة القوى الدولية المناوئة، سواء كانت الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو الصين، بينما تضعف المبادرة الصينية هذا التوجه، وذلك من خال ربطها بين الصين ودول آسيا الوسطي والاتحاد الأوروبي)29(. ومن جهة ثانية، فإن تنفيذ هذه المبادرة سوف يترتب عليه تعزيز النفوذ الصيني في منطقة أوراسيا، التي تعتبرها موسكو فناءً خلفياً لها، وتتحسس من أي تواجد أجنبي فيها)30(. ولذلك لا يتوقع أن يحدث تعاون روسي – صيني، ما لم تتوصل الأولى إلى قناعة بأن التعاون مع بكين قد يكون مفيداً في مواجهة

المساعي الغربية الحثيثة للتمدد في تلك المنطقة)31.)

وعلى الجانب الآخر، تسعى الصين لتعزيز دورها على الساحة الدولية، خاصة في مواجهة الولايات المتحدة، وفي هذا الإطار، يمكن النظر إلى مبادرة الحزام والطريق باعتبارها من السياسات في هذا الاتجاه إلى جانب المساعي الصينية لإقامة منظمات دولية مكملة أو بديلة للقائمة، على غرار "البنك الآسيوي لاستثمار في البنية التحتية" الذي ينظر إليه على إنه بديل للبنك الدولي)32(. ومن ثم يمكن النظر إلى المبادرة باعتبارها وسيلة لتحقيق الارتقاء السلمي للصين مع الحد من الخيارات الأمريكية لتطبيق تدابير مضادة)33.)

وتدرك واشنطن جيداً أبعاد التحركات الصينية، وتعمل على احتوائها، فقد كشف مسؤول أميركي في منتصف فبراير 2018 أن الولايات المتحدة تبحث مع أستراليا والهند واليابان مشروع بنية تحتية إقليمي مشترك كبديل لمبادرة "الحزام والطريق" الصينية سعياً لمواجهة اتساع نطاق نفوذ بكين.

وفي الختام، يمكن القول إن الممرات التجارية صارت من أدوات الصين وروسيا لتعزيز فرص صعودها الاقتصادي وزيادة تشابكها في النظام الدولي، بما يعزز من وضعها في النظام الدولي، غير أن فرص النجاح في تحقيق هذا الهدف تتوقف على قدرتها على جني عوائد اقتصادية مربحة من هذه الممرات التجارية المخطط لها، والموقف الأمريكي منها، فضاً عن مدى تعاون القوى الإقليمية المعنية، وهي مهمة لا تبدو يسيرة.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates