لماذا تصفي موسكو الجواسيس الروس في أوروبا؟
منذ إعلان خبر محاولة اغتيال العميل الروسي المزدوج السابق سيرغي سكريبال وابنته يوليا، في مدينة سالزبيري البريطانية في 5 مارس 2018، والعلاقات الروسية - الغربية تشهد تدهوراً ملحوظاً لم تشهده منذ انتهاء الحرب الباردة. تعد الدول الأوروبية، خاصة ألمانيا، في موقف لا تُحسد عليه، فبعد أن طردت ألمانيا أربعة من أعضاء السفارة الروسية في برلين قابلتها موسكو بالمثل، واستدعت في أعقاب ذلك السفير الألماني في موسكو يوم 29 مارس 2018، إلى جانب استدعاء موسكو سفراء أكثر من 25 دولة أوروبية وغربية. وعلى الرغم من هذه الأجواء "المتعكرة"، تحاول ألمانيا إرسال رسالة الى موسكو بأنها "مجبرة على طرد دبلوماسيين روس" - بسبب ضغوط واشنطن وبروكسل - لإظهار التضامن مع بريطانيا، وذلك من خال تأكيد برلين أنها تريد الحوار مع موسكو.
إن محاولة اغتيال عميل بريطاني
مزدوج لم تكن الأولى من نوعها، فقد سبقها مقتل الجاسوس الروسي السابق ألكسندر ليتفينينكو، الذي توصل تحقيق بريطاني إلى أن الرئيس فاديمير بوتين وافق على الأرجح على قتله بمادة البولونيوم - 210 المشعة عام 2006. غير أن الواقعة الأخيرة كانت مرتبطة بحسابات سياسية روسية أمريكية بريطانية، ساعدت على رفع وتيرة التصعيد.
اغتيالت متبادلة
تعتبر تصفية جواسيس مزدوجين داخل أجهزة الاستخبارات، خاصة من قبل الدول والأنظمة الشمولية، "حقاً" تحتفظ به، وترى فيه أمراً "شرعياً" لحماية مصادر معلوماتها المرتبطة بأمنها القومي. وما قامت به روسيا ليس العملية الأولى ولن تكون الأخيرة. فلماذا هذه الضجة، ما دامت الاستخبارات البريطانية MI) )6ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية )CIA( ذاتها تنفذ عمليات اغتيالات داخل أروقة الاستخبارات الروسية؟ وهل خضعت ردود أفعال الغرب لضغوط
ومصالح سياسية؟
بالتأكيد، فإن موسكو تهدف من عمليات الاغتيال هذه إلى التخلص من خرق استخباراتي معلوماتي أمني يمثل نزيفاً يجب إيقافه. فكلما تركت روسيا عماءها المزدوجين في حماية الغرب زاد استهداف الغرب لها، بسبب ما يقدمونه من بيانات ومعلومات عن عماء وشبكات تضر كثيراً بأمن روسيا. كذلك فإن محاولة اغتيال سكريبال تبعث برسالة إلى عماء مزدوجين آخرين، ربما غير مكشوفين بعد، بالتوقف عن عمليات التجسس.
لا يستطيع الشخص أن يتصور شعور ضابط مخابرات يشهد إعدام زميل له، كان يشاركه العمل قبل أيام. والحياة داخل أجهزة الاستخبارات لم تكن قطًّ حياة مترفة، إذ تستدعي تعايشاً مستمراً مع الانضباط والمخاوف والقلق، وقد يخسر فيها الشخص حياته. والعماء داخل أجهزة الاستخبارات يبقون تحت الشبهات حتى إذا وصلوا الى قمة الهرم. والصعود السريع ربما يثير الكثير من التساؤلات. وحتى حصول
العميل على معلومات ووثائق ذات سرية عالية، يجعل جهاز الاستخبارات يعيد تدقيق سجله من جديد، فا توجد ثقة مطلقة. والشكوك التي لا تقوم على أساس يمكن أن تدفع العميل إلى أن يكون "مرتداً" او مزدوجاً.
والجاسوسية عملية معقدة، إذ يمكن في لحظة أن يتحول العميل داخل أجهزة الاستخبارات من مسؤول عن تعقب العماء إلى عميل مطارد وتحت قبضة زميل آخر يحقق معه، وهذه مشاعر صعبة لا يعرفها إلا من عاشها. وهناك آلية إدارية داخل أجهزة الاستخبارات، هي "أمن الأفراد والمنشآت"، معنية بمراجعة سجات العماء وتطورات حياتهم وعاقاتهم العائلية والشخصية وحساباتهم المصرفية، وهم يخضعون بين فترة وأخرى إلى التدقيق والمراقبة البشرية والمراقبة الفنية للتأكد من ولائهم.
ال�سفارات جنة العملاء المزدوجين
السفارات والبعثات الدبلوماسية في الخارج هي المكان الأفضل لتجنيد العماء المزدوجين. وقبل ترشيح العميل للعمل في الخارج، خاصة تحت غطاء العمل الدبلوماسي، يتم تدقيق ومراجعة تاريخه داخل الجهاز من جديد، وتؤخذ بالحسبان درجة ولائه. والشيء الذي لا يمكن كشفه من قبل أقسام "أمن أجهزة الاستخبارات" هو ما يدور بذهن العميل المرشح للخارج، وهل سيتحول الى عميل مزدوج أم لا؟ وهناك الكثير من دوافع تحول العماء إلى عماء مزدوجين، منها الدوافع الأيديولوجية أو المادية، أو الرغبة في إشباع الحاجات الذاتية والتحدي الداخلي بالوصول إلى أعلى درجة في العمل الاستخباري المحترف.
لقد تحول سقوط جدار برلين وانتهاء الحرب الباردة إلى بوابة لصراعات جديدة بين الغرب والشرق. إذ أصبح الجميع في مواجهة موسكو، والأخيرة في مواجهة الجميع )الغرب(، فكيف استطاعت موسكو تحقيق نجاحات وتجنيد عماء من الغرب؟
لا توجد دولة قوية بدون جهاز استخبارات فعال. وقد اشتهرت الاستخبارات الروسية FSB() بعملياتها الاستباقية الهجومية، ضد وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وأجهزة الاستخبارات في بريطانيا ودول غربية أخرى. وهذا يعكس قدرات الاستخبارات الروسية وإمكاناتها، وحجم ما تُنفقه موسكو على الكوادر البشرية والتدريب. وما يدعم هذه الفكرة أن الرئيس بوتين هو الابن البار لاستخبارات السوفييتية KGB(،) وهو لم يتردد في استثمار تجربته تلك في إدارة الحكومة بعقلية استخباراتية. ولألمانيا لدى بوتين مكانة خاصة، وبالمقابل منحته برلين مكانة متميزة أيضاً، على الرغم من العقوبات المفروضة على موسكو.
بوتين وميركل.. علاقات وثيقة
يتحدث بوتين الألمانية بطاقة، وبشكل استثنائي استضافه البرلمان الألماني أكثر من مرة ليلقي خطابه باللغة الألمانية، وساعده إلمامه بالتاريخ والثقافة الألمانية أيضاً، فقد خدم كعميل سري في ألمانيا الشرقية لسنوات طويلة. والمستشارة الألمانية تتحدث الروسية بطاقة، إذ خضع مسقط رأسها، مدينة دريسدن )في ألمانيا الشرقية سابقاً( للسيطرة الروسية حتى عام 1990. والعاقات الحميمة بين البلدين لا يمكن إخفاؤها، على الرغم من الأجواء "المتعكرة".
لقد استعادت ألمانيا مئات الآلاف من الألمان من روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي السابق، وكان تاريخ وجودهم هناك يعود إلى أكثر من جيل، وهم يتحدثون الروسية ولا يتحدثون الألمانية إطاقاً، وجرى دمجهم في المجتمع
الألماني، وحصلوا على امتيازات كثيرة. وهؤلاء يتعاطفون مع روسيا ومع سياسة بوتين، وهناك جذور عائلية وروابط قربى بين مواطني البلدين، وهذا ما يجعل العاقات الروسية - الألمانية تختلف عن عاقات روسيا مع دول الغرب الأخرى.
تداعيات عمليات الغتيال
تسعى روسيا دائماً إلى إضعاف دول الغرب، وقد أربكت عمليات اغتيال العماء المزدوجين أجهزة الاستخبارات البريطانية. وما ينبغي أن تفعله بريطانيا تحديداً هو سحب عمائها المزدوجين، وإيقاف العمل مع العماء المزدوجين داخل أجهزة الاستخبارات الروسية. كذلك يجب على أجهزة استخبارات بريطانيا مراجعة سيرة عمائها المزدوجين ومصادر معلوماتهم والوثائق التي قدموها، فالضرر لم يلحق بالعماء المزدوجين فقط، بل بشبكة المصادر التي يديرونها أيضاً، وهذه قضية مُعقدة تعيد عمل أجهزة الاستخبارات البريطانية الى الوراء. والارتباك الحاصل في الحكومة البريطانية وأجهزة استخباراتها أمام قدرة الاستخبارات الروسية، يفرض عليها تكثيف جهود الكشف عن العماء المزدوجين على أراضيها.
إن الحرب الباردة لم تنته بعد، وما يدور الآن من عمليات استخباراتية بين الغرب والشرق هو الحرب الباردة بعينها، فأجهزة الاستخبارات لم تتردد في الكشف عن عماء مزدوجين وتسريبها الى وسائل الاعام، على عكس الحقبة السابقة، التي كان يتم فيها التكتم عن عمليات تبادل العماء المزدوجين. والاستخبارات هي الحكومة الخفية التي تسعى إلى تحقيق ما عجزت عنه الدبلوماسية والسياسة، ويبدو أن روسيا اعتمدت هذه القاعدة في حربها مع الغرب، والتي يُتوقع أن تشهد تصعيداً أكبر، ودخول مرحلة جديدة ربما ينتج عنها موازين قوى جديدة في العالم.
تهدف موسكو من عمليات الاغتيال هذه إلى التخلص من خرق استخباراتي معلوماتي أمني يمثل نزيفاً يجب إيقافه. فكلما تركت روسيا عملاءها المزدوجين في حماية الغرب زاد استهداف الغرب لها، بسبب ما يقدمونه من بيانات ومعلومات عن عملاء وشبكات تضر كثيراً بأمن روسيا.