Trending Events

فائزون وخاسرون:

تيارات تعصف بالعالم في القرن الحادي والعشرين

- كارن أبو الخير مستشار الشؤون الدولية بمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة - أبوظبي

ليس من الصعب على أي مراقب أن يلاحظ تصاعد نبرة المواجهة والخلاف على الساحة الدولية، وتراجع القدرة على التوصل إلى تفاهمات جماعية بشأن العديد من الأزمات التي يواجهها المجتمع الدولي. ولا يعد هذا التراجع في التعاون الدولي متعدد الأطراف وليد اليوم، أو مرتبطاً بصعود ترامب إلى سدة الرئاسة، بل هو نتاج لتطورات متعددة وتيارات مجتمعية عميقة ستظل تؤثر على التفاعلات الدولية والمجتمعية حتى بعد رحيل ترامب من المشهد.

اأولً: �سيادة المعادلت ال�سفرية في العلاقات الدولية

اعتبر المحلل الاقتصادي لصحيفة فايننشيال تايمز "جيديون رخمان" الأزمة المالية العالمية لعام 2007، نقطة تحول مهمة أدت إلى تغير المنطق المهيمن على العاقات الدولية، إذ تراجع الاعتقاد بأن "الجميع فائزون في إطار العولمة"، في مقابل صعود وسيادة منطق "المعادلة الصفرية" في العاقات الدولية، بمعنى أن على كل دولة السعي لتحقيق مصالحها الوطنية، حتى وإن كان ذلك على حساب الدول الأخرى. ولقد سبق وأن طرح رخمان هذه الرؤية في كتابه "عالم المعادلة الصفرية"، الذي صدر في 2010، قبل سنوات من ظهور ترامب مستدلاً على استنتاجاته بتحليل الأوضاع الاقتصادية والمالية العالمية) .)

وليس من قبيل المصادفة أن كتاب رخمان التالي كان عن آسيا التي يُرجح أن ينتقل إليها مركز الثقل العالمي، فقد عززت الأزمة العالمية من صعود قوى كانت تعد من الدول النامية، مثل الصين والهند، وأعادت الاعتبار والنشاط إلى قوى كانت تعد في مرحلة الأفول وتحديداً روسيا.

وفي مقابل زيادة عدد وقوة الدول الفاعلة على الساحة الدولية من خارج الكتلة الغربية، تزايد الانقسام داخل هذه الكتلة، أولاً بظهور أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو، وما نتج عنها من خافات بين الدول الدائنة والدول المدينة، ثم ما ترتب على فرض الإجراءات الاقتصادية التقشفية من صعود تيارات شعبوية مضادة للمشروع الأوروبي برمته، وصولاً إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب ترامب، وما أعقبه من تصاعد الخاف بين الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي.

وأدى تغير موازين القوى إلى تراجع قدرة الولايات المتحدة، على السيطرة على التفاعات الدولية، وبدا النظام في أزمة حقيقية، ووفقاً لتحليل "إيمانويل واليرستين"، فقد دخل النظام الدولي في مرحلة "الأزمة الهيكلية"؛ وأصبحت آليات حل الأزمات وإعادة التوازن، عاجزة وغير فعالة) .)

وتسبب ذلك في حالة غير مسبوقة من السيولة الجيوسياسي­ة، تتسم بالتحولات المتكررة والسريعة في أنماط التعاون والتنافس بين الفاعلين، في إطار سعي كل دولة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب على المدى القصير وتراجع اللجوء إلى الحوار والتفاوض كوسائل لحل المشكات الدولية، وغياب القدرة على التوصل إلى توافقات دولية وتعاون متعدد الأطراف.

ورصد "زكي لايدي" أستاذ العاقات الدولية بمعهد باريس للدراسات السياسية حالة الشلل التي أصابت العديد من المؤسسات الدولية التي كانت تلعب دوراً محورياً في إدارة التفاعات الدولية، ومن أهمها منظمة التجارة العالمية، بالنظر إلى مخاطر اندلاع حروب تجارية بين الدول العظمى. ويحلل لايدي في مقاله "هل انتهى التعاون متعدد الأطراف؟" أثر تغير توازنات القوى في النظام الدولي على عمل هذه المنظمة المهمة) .)

فلقد كانت منظمة الجات هي المنوطة بإدارة شؤون التجارة العالمية في الفترة ما بين 1947 و1995، وفرضت الكتلة الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، إرادتها على الدول الأعضاء نتيجةً لتوازن القوى السائد آنذاك، حيث ركزت معظم الاتفاقيات التجارية متعددة الأطراف في هذه الفترة على إزالة العوائق والتعريفات الجمركية على حركة المنتجات الصناعية، اتساقاً مع مصالح الدول الغربية المتقدمة صناعياً.

وفي المقابل، قدمت الدول المتقدمة حوافز للدول النامية، لتسهيل الالتزام بقواعد الاتفاق، بينما تستفيد في الوقت ذاته من ثمار زيادة التبادل التجاري. ولم يكن الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت، ولا الصين، أعضاء في هذه المنظمة، ولذلك لم تكن هناك قوة تنافس أو تهدد السيطرة الغربية على النظام التجاري العالمي.

ولقد تغيرت الأوضاع منذ تأسيس منظمة التجارة العالمية في 1995، حيث انضمت إليها الصين في عام 2001، وتراجعت القدرة على التوصل إلى توافقات بداخل المنظمة وتجلى ذلك في وصول دورة الدوحة إلى طريق مسدود عام 2008، وهو ما يفسره "لايدي" باختفاء العوامل التي كانت تسهل الوصول إلى توافقات، خاصة وجود عدد محدود من الأطراف وآليات إقناع وإجبار الأطراف على تبني رؤية القوة المهيمنة لما يوصف بكونه "المصلحة الجماعية") .)

ومن دون توافر هذه المقومات، يلجأ كل طرف لإعطاء أولوية لتحقيق مصلحته، ولو على حساب غياب القدرة على التوصل لأي اتفاقيات جديدة، كما أدى صعود قوة الدول النامية وانضمام الصين للمنظمة لتراجع قدرة الدول الغربية على فرض أولوياتها أو تقديم ما يكفي من المحفزات للدول النامية ما أدى لتناقض الأولويات وتراجع القدرة على تحقيق التوافق.

وفي هذا الإطار، يثور التساؤل حول مستقبل منظمة التجارة العالمية، ومدى كفاءتها في التعامل مع الخافات التجارية المتصاعدة، وفي هذا الصدد يرى "واليرستين" وجود اتجاهين رئيسيين فيما يتعلق بالنظرة المستقبلية للنظام الدولي، حيث يهدف الأول إلى تغيير النظام القائم بشكل يحفظ مقوماته الأساسية، أما الثاني فيسعى إلى تغيير النظام بشكل جذري.

وعلى عكس المتوقع، فإن الصين التي يُفترض أن تقوم بدور المعارضة في النظام العالمي هي التي تدافع عن منظمة التجارة العالمية وتطبيق قواعدها، بينما تدفع سياسات ترامب باتجاه تقويضها. وبحسب لايدي، فقدت الولايات المتحدة اهتمامها بدعم منظمة التجارة العالمية والحفاظ عليها لأنها لم تعد تمثل وسيلة فعالة لاحتواء أو عرقلة صعود الصين.

ومن ثم يتجاهل ترامب القواعد التي أرستها المنظمة لتنظيم التبادل التجاري وحل النزاعات، ويفضل الاعتماد على الاتفاقيات الثنائية لإدارة التبادل التجاري، ما يهدد بانهيار النظام الحاكم للتبادل التجاري العالمي، ويفتح الباب أمام الفوضى، وإتاحة الفرصة للدول القوية لفرض شروطها على الدول الأضعف.

وعلى النقيض من هذا الموقف، تسعى الصين للحفاظ على النظام القائم، ربما مع بعض التعديل، لأنها المستفيد الأول منه، حيث إنها لاتزال تعامل في إطار المنظمة على أساس وضعها في عام 2001، على الرغم من التقدم الهائل الذي أحرزته منذ ذلك الوقت، دون أن تضطر إلى تطبيق قواعد اقتصاد السوق، أو أن تفتح الأبواب أمام الشركات الأجنبية دون عوائق) .)

ويرتبط دفاع الصين عن المنظمة بسعيها للحفاظ على التعاون متعدد الأطراف، من منظور برجماتي في مقابل المنظور "الأخاقي" الذي تتبناه أوروبا التي استخلصت من تجربتها التاريخية تجنب الانزلاق إلى سياسات القوة، وتوظيف التوافق والتعاون الدولي على جميع الأصعدة كسياج للوقاية من ذلك، إلا أن موقف ترامب المبني على الدفاع عن المصالح الوطنية للولايات المتحدة يبدو وكأنه يدفع العالم دفعاً في اتجاه اتباع سياسات القوة، مهما كان التأثير المدمر لتقويض القواعد التي حكمت النظام العالمي لعقود طويلة.

ثانياً: ت�ساعد الغ�سب وال�ستقطاب المجتمعي

لا تعد سياسات ترامب مجرد رؤية أو توجهات شخصية، لكنها تعبير عن تفاعات واستقطابات مجتمعية عميقة، هي التي أتت بترامب إلى الحكم أصاً، وشكلت القاعدة الانتخابية التي يسعى لإرضائها من خال هذه السياسات.

ولا تقتصر هذه الأوضاع على الولايات المتحدة، وإنما امتدت إلى الدول الغربية ونظيرتها النامية أيضاً، بسبب التغيرات السياسية والاقتصادي­ة والتكنولوج­ية التي تحدث حول العالم. ويرصد إيان بريمر في كتابه الصادر حديثاً عن فشل العولمة، هذه التحولات، وتأثيرها في خلق مواجهة بين "الفائزين" و"الخاسرين" من العولمة) .)

إن ما يدفع تفاعات القرن الحادي والعشرين، بحسب بريمر، ليسوا القادة الشعبويين، مثل ترامب في الولايات المتحدة أو لوبن في فرنسا، وإنما الجماهير الغاضبة التي تهتف لهؤلاء القادة بدافع الخوف من فقدان فرص العمل، وتدفق الأجانب، واختفاء الهوية الوطنية، والعنف المرتبط بالإرهاب.

دفعت هذه المخاطر إلى استقطاب عنيف في المجتمعات المتقدمة والنامية على حد سواء، وتفجر "حرب للبقاء"، بين "نحن" و"هم"، مع اختاف من يمثلون كل مجموعة في الحالات المختلفة. ويرى بريمر أن الصراع الأساسي الذي سيشكل النظام العالمي الجديد، لا يتعلق بصعود الصين أو اندلاع حرب باردة جديدة، أو مواجهة سيبرانية، بل هو الصراع الناتج عن محاولة الخاسرين من العولمة الحفاظ على حقوقهم وتحقيق احتياجاتهم، وسعي الفائزين للحفاظ على مكاسبهم.

وفيما يتعلق بمدى قدرة الحكومات على مواجهة هذه الأزمة القادمة، يشير بريمر إلى أن الحكومات الضعيفة سوف تنهار، كما في الصومال، وبالتالي سوف يزداد عدد الدول الفاشلة حول العالم، أما الحكومات التي تتمسك بفكرة "المجتمعات المفتوحة" مثل بعض الدول الأوروبية فستجاهد للوصول إلى عقد اجتماعي جديد يلبي احتياجات مواطنيها في عالم متغير، أما النظم السلطوية فستعمد إلى تشييد الجدران، بمختلف أشكالها، لكي تعزل المجموعات المختلفة عن بعضها، وتحمي الحكومات من غضب المواطنين) .)

ويلقي بريمر الضوء على تأثير الثورة التكنولوجي­ة والميكنة وتطورات الذكاء الصناعي على سوق العمل بوصفها من أهم العوامل التي ستؤدي إلى تصعيد الأزمة في الفترة القادمة، إذ يهدد التطور التكنولوجي بإلغاء حوالي 47% من مجموع الوظائف في الولايات المتحدة، وحوالي 77% من الوظائف في الصين، ونسبة 69% في الهند و65% من الوظائف في نيجيريا.

وفي المقابل ستتصاعد أنماط جديدة من الوظائف تكمل الأدوار التي تلعبها الآلة، وتحتاج إلى مستويات أعلى من التدريب والتعليم. وستكون تأثيرات هذه المرحلة الانتقالية أصعب وأكثر عنفاً من السوابق التاريخية وستزيد خطورة تداعياتها في الدول النامية.

ويهدد هذا التحول التكنولوجي نمط التنمية الذي تكرر في معظم الدول النامية، والتي تبدأ في العادة كمجتمعات زراعية فقيرة، ينتقل سكان الريف فيها إلى المدن بحثاً عن حياة أفضل، حيث يمثلون فيضاً من العمالة الرخيصة، تغري أصحاب المصانع لنقل أعمالهم إلى هذه الباد. وبمرور الوقت يزداد عدد المصانع، وتبدأ العمالة بالمطالبة بأجور أعلى وظروف أفضل في المعيشة والعمل، وبالتالي تظهر تدريجياً الطبقة الوسطى، كما تنتقل الدولة نفسها من مصاف الدول الفقيرة إلى الدول النامية.

وسيؤدي إدخال الروبوت إلى مجال الإنتاج الصناعي لتقليص فرص العمل أمام العمالة الرخيصة غير المدربة، والتي مثلت حجر الزاوية في خروج المايين حول العالم من الفقر، فالمنتجون في الولايات المتحدة مثاً، سوف يفضلون استخدام الروبوتات لإنتاج السلع، بدلاً من إنشاء مصانع في دولة فقيرة لاستفادة من العمالة الرخيصة، لأن ذلك سيكون أكثر توفيراً للنفقات. كما أن التقدم الكبير في الطابعات ثاثية الأبعاد يشجع أيضاً المنتجين على إبقاء مصانعهم بالقرب من الأسواق التي يبيعون لها، وتفادي التكلفة الكبيرة في نقل السلع من مصانع في دول نامية إلى الأسواق) .)

ويمثل هذا التطور مشكلة ضخمة للدول الفقيرة والتي توجد بها أعداد ضخمة من الشباب يبحثون عن فرص عمل تنتشلهم من الفقر. وبانتقال التصنيع وفرص العمل مرة أخرى إلى المجتمعات المتقدمة في صورة تكنولوجيا جديدة، فإن الباب التقليدي للخروج من الفقر في الدول الفقيرة والنامية بالنسبة للشباب قد أغلق، وبالتالي فسيتحولون إلى قنبلة موقوتة بالنسبة لمجتمعاتهم.

ومن دون مستويات أعلى من التعليم، والتدريب المهني، لن يتمكن الشباب من التأهل للحصول على فرص العمل المتاحة في القرن الحادي والعشرين. وحتى الذين يتمكنون من الحصول على وظائف تقليدية، سوف يكون عليهم تقبل مرتبات أقل، وضمانات اجتماعية قليلة أو منعدمة.

وفي الوقت نفسه، فإن تراجع مستويات النمو الاقتصادي في هذه الدول يقلص من حجم الميزانيات الحكومية، وبالتالي من حجم الموارد المخصصة للتعليم، ويجعل من الصعب على الشباب الحصول على المستوى المعقول من التعليم الأساسي، الذي يسمح لهم بتلقي تدريب مهني يؤهلهم للوظائف الجديدة. وسيدفع ذلك الحكومات إلى فرض ضرائب جديدة على المواطنين، مما سيزيد من الأعباء الاقتصادية، ويعزز إدراكهم للفروق بينهم وبين الأغنياء المستفيدين من العولمة ومن التطور التكنولوجي، وبالتالي سوف يتزايد الاحتقان المجتمعي.

يرجح أن تمتد العلاقات التنافسية والصراعية من قمة النظام الدولي إلى الاستقطابا­ت المجتمعية، حتى تصل إلى مستوى الفرد، الذي أعطته تكنولوجيا الاتصالات قوة جديدة، يمكن أن يستخدمها في المساهمة في تطوير أشكال جديدة من النشاط الاقتصادي، تنشئ أنماطاً أكثر عدالة في توزيع الدخل والقوة، وتخرج بالمجتمعات، وبالنظام العالمي ككل، من مرحلة الأزمة الهيكلية الحالية.

ولا تقتصر الأزمة على المجتمعات النامية، إذ يُعد فقدان الوظائف أحد أهم القضايا التي شغلت قاعدة ترامب الانتخابية، حيث اتجه الناخبون لتحميل مسؤولية ذلك لدول أخرى، مثل الصين والمكسيك والادعاء بقيامهم بسرقة فرص العمل من المجتمع الأمريكي.

وتشير غالبية التحليات الاقتصادية الغربية إلى أن التطور التكنولوجي مسؤول بدرجة أكبر عن فقدان هذه الوظائف، وإن كان يخلق أيضاً وظائف بديلة، لكنها تحتاج إلى مستوى مختلف من التعليم والتدريب. ونظرياً، فإن الدول المتقدمة أكثر قدرة على تقديم التدريب الازم لانتقال إلى مستوى أعلى من الوظائف يتاءم مع التطور التكنولوجي، لكن النظرية هنا تصطدم بالواقع الاقتصادي، حيث إن هناك

فروقاً رهيبة في الدخل بين "الفائزين" و"الخاسرين" في هذه الدول، تحول دون حصول الأغلبية على هذه الفرص.

ولقد تعددت التقارير في الأعوام القليلة الماضية التي تؤكد حقيقة أن شريحة صغيرة من المجتمعات الغربية هي التي تتمتع بثمار النمو الاقتصادي وتتحكم في الجزء الأكبر من الثروة، بينما تعاني الطبقات الوسطى ركود الدخل وتدهور الأحوال المعيشية والصحية.

وفي الوقت نفسه، فإن التعليم، الذي كان يُعتبر جواز المرور إلى مستوى اجتماعي واقتصادي أفضل، يعاني أزمة، نتيجة تدني جودة الخدمات التعليمية العامة، خاصة في الولايات المتحدة، وهو ما تؤكده الإضرابات المتكررة للمعلمين في ولايات أمريكية احتجاجاً على عدم توفير الموارد الازمة لتقديم خدمة تعليمية ذات مستوى مناسب.

ويضطر بعض المدرسين إلى شراء المستلزمات على نفقتهم الخاصة على الرغم من تردي رواتبهم. أما التعليم الخاص عالي المستوى، والذي يؤهل لسوق العمل في العالم الجديد فهو باهظ التكلفة، ومتاح فقط للطبقة الغنية. لذلك فإن قطاعات واسعة في المجتمعات الغربية تشعر بالغضب، ليس فقط لتراجع مستوى معيشتها، ولكن أيضاً لأن أبناءهم لن يمكنهم الحصول على مستقبل أفضل.

ويبحث الغاضبون في هذه المجتمعات عن كبش فداء، سواء المهاجرون الذين يحصلون على دعم من الحكومات أو يحرمون المواطنين من الوظائف، أو النخبة التي تحصل على الثروة من خال الفساد. ويحذر بريمر من أن "الخاسرين"، والذين لا يجدون لأنفسهم مكاناً في هذا العالم الجديد، قد يعلنون الحرب على النظام كله.

ثالثاً: الم�ساركة.. فكر جديد للقرن الحادي والع�سرين

لا تقتصر تداعيات التطور التكنولوجي على المخاطر والتهديدات، وإنما تشمل الفرص أيضاً، حيث أدى انتشار استخدام تكنولوجيا الاتصالات بإمكانياته­ا المتصاعدة على نطاق شديد الاتساع، وإتقان الأجيال الجديدة لاستخدامها، إلى ظهور نمط جديد للتنظيم والابتكار، يختلف عن النمط التقليدي الذي قامت عليه شركات القرن العشرين التي اعتمدت على نمط الإدارة من أعلى إلى أسفل، وكان نجاحها قائماً على احتكار معلومات أو موارد، ومنع الآخرين من الحصول على "سر الصنعة" كي لا يصبحوا منافسين. ووفقاً لكتاب "القوة الجديدة"، سيشهد القرن الحادي والعشرين ظهور نمط جديد من الإنتاج، يقوم على حشد القدرات الإبداعية والتنظيمية لأعداد كبيرة من البشر، يشاركون بشكل مباشر ومتساوٍ في ابتكار المنتجات وإدارة الشركات، كما يتشاركون في العائد الاقتصادي منها.

ويستعرض الكتاب نماذج شركات تسعى لاستفادة من هذا النمط الجديد، وتوجيه هذه القوة الجديدة في اتجاه مثمر وفعال، مع إتاحة المعرفة الناتجة عن هذا التشارك بشكل مجاني ومفتوح، ليستفيد منها آخرون. ويكمن التحدي في الحفاظ على هذا النمط المفتوح والتشاركي، مع تحقيق عائد اقتصادي مناسب) .)

وتجدر الإشارة إلى أن الشركات الكبرى التي قامت بالفعل باستغال هذا الميل المتصاعد للتشارك والتواصل إلكترونياً، ومن أبرزها فيس بوك، لاتزال قائمة على النمط القديم للإدارة وتوزيع العائد الاقتصادي. فبينما يستفيد ماك الأسهم، والعاملون بالشركة بالطبع، مادياً من المعلومات المُجمعة من خال المنصة، إلا أن المايين الذين يتم استغال المعلومات الخاصة بهم ليس لهم أي نصيب من الفائدة.

وتُعد المواجهات الأخيرة حول احترام خصوصية المستخدمين، والاعتراض على استخدام شركة فيس بوك المعلومات الخاصة بهم وبتفاعاتهم على الشبكة لتحقيق الربح المادي أحد إرهاصات انتشار وصعود تأثير العقلية الجديدة بالحق في المشاركة ومحاربة الأنماط المغلقة والاحتكاري­ة لتكوين الثروات.

وقد لا تحل الأنماط الجديدة التشاركية في الإبداع والإنتاج تماماً محل الأنماط القديمة، وقد يتنافسان أو يتعايشان جنباً إلى جنب، لكن تفاعلهما سوف يشكل بعداً جديداً من أبعاد التنافس والصراع الذي سوف يشكل مامح الحياة في القرن الحادي والعشرين.

ختاماً، سوف تمتد العاقات التنافسية والصراعية من قمة النظام الدولي إلى الاستقطابا­ت المجتمعية، حتى تصل إلى مستوى الفرد، الذي أعطته تكنولوجيا الاتصالات قوة جديدة، يمكن أن يستخدمها في التواصل مع الجماعات الإرهابية، أو في المساهمة في تطوير أشكال جديدة من النشاط الاقتصادي، تنشئ أنماطاً أكثر عدالة في توزيع الدخل والقوة، وتخرج بالمجتمعات، وبالنظام العالمي ككل، من مرحلة الأزمة الهيكلية الحالية، التي تنذر بالمزيد من الصدام والصراع.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates