Trending Events

انتشار تهديدات "الإرهاب الأبيض" في الدول الغربية

د. ياسمين زين العابدين

- د. ياسمين زين العابدين مدرس العلوم السياسية ومدير وحدة ضمان الجودة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة المستقبل - مصر

أدت العسكرة المتزايدة للعنصرية وتزايد الكراهية للمهاجرين والأقليات والأجانب، ورفض التكلفة الاقتصادية للتكامل الإقليمي والعولمة لتشكل ظاهرة “الإرهاب الأبيض” في الدول الغربية مع تزايد الهجمات الإرهابية ضد الأقليات.

اأولً: اأ�شول ظاهرة "الإرهاب الأبي�س"

تعد ظاهرة "الإرهاب الأبيض" ضمن تجليات تنامي العنصرية في الدول الغربية تجاه الآخر والتي ترتبط بإرث الحقبة الاستعماري­ة، والتفاعل مع الموجات المتتالية للهجرة إلى الدول الغربية عقب الحرب العالمية الثانية والتي أسست تدريجياً الشعور بتفرد واختلاف الهوية والسعي للدفاع عنها بالقوة)1.)

ولقد تزايدت حدة الظاهرة خلال العقود القليلة الماضية وأصبحت ضمن المسببات الرئيسية للصراعات والاضطرابا­ت في أقاليم العالم، الأمر الذي حدا بالأمم المتحدة، في عام 2010، إلى تسمية الحادي والعشرين من مارس من كل عام، يوماً عالمياً للقضاء على التمييز العنصري.

وباتت الأمم المتحدة والمنظمات الدولية تركز على مواجهة العنصرية، وإبراز دور القادة في مكافحة التمييز العنصري، والتعلم من دروس الماضي والتجارب التاريخية لنظم الفصل العنصري، والتصدي لتزايد التحريض على الكراهية، وتعزيز التسامح والإدماج والوحدة واحترام التنوع في سياق

مكافحة التمييز العنصري، وأخيراً احتواء الشعبوية القومية المتصاعدة والأيديولو­جيات المتطرفة) 2 .)

وتعد دراسة الفرنسي "إرنست دوديه" ‪)Ernest Daudet(‬ المعنونة "الإرهاب الأبيض" والمنشورة عام 1878 هي أولى الدراسات على الإطلاق التي تناولت هذا المفهوم)3(، والذي قُصد به حينها "الممارسات العنيفة التي تم ارتكابها ضد الغالبية العظمى ممن ينتمون إلى حكومة المائة يوم التي كونها وزراء نابليون الأول من 20 مارس 1815 إلى 22 يونيو 4(" 1815.)

وشملت هذه الإجراءات تنفيذ أحكام إعدام والمنع من مزاولة السياسة ومصادرة الثروات والملاحقة الأمنية والاحتجاز التي اعتبرها المؤلف انعكاساً للرغبة في الضغط والعقاب))5 والانتقام من المختلفين من حيث التوجهات السياسية، كما أنها تعد تعبيراً عن كراهية الآخر الذي تتعارض مصالحه مع الجماعة المهيمنة) 6 .)

وتشير هذه الدراسة إلى أن جذور "الإرهاب الأبيض" ترتبط باضطهاد والاعتداء

على "الآخر" السياسي الذي ينتمي إلى العرق نفسه والثقافة واللون، ولكنه مختلف في التوجه أو الرأي والموقف، وهو ما قد يتسبب في تفجر الصراعات الداخلية) .)

وفي هذا السياق، يؤكد مؤشر الإرهاب العالمي الصادر في نوفمبر 2019 أن إرهاب اليمين المتطرف قد تصاعد خلال الفترة بين عامي 2014 و2018 بنسبة 320% في الولايات المتحدة والدول الأوروبية، كما وصل عدد ضحايا الإرهاب اليميني خلال الفترة من يناير 2018 حتى نهاية سبتمبر 2019 إلى 77 قتيلاً وهو يتصل بسهولة الحصول على الأسلحة في الدول الغربية وتزايد حدة العنصرية والكراهية للأقليات والأجانب) .)

ثانياً: انت�شار ممار�شات "الإرهاب العن�شري"

أدى تزايد حدة الاستقطاب والكراهية على أسس دينية وثقافية وتزايد حدة الشعور بالتهديد للهوية لانتشار ممارسات "الإرهاب الأبيض" التي تعد التعبير الأكثر عنفاً عن اتجاهات كراهية الآخر مثل الأقليات والأجانب في الدول الغربية.

وفي التطبيق المعاصر للظاهرة، دائماً ما يستدعي ذكر الإرهاب الأبيض تزايد سطوة التيار اليميني المتطرف الذي يتنامى في المجتمعات الغربية، ويُعد أحد أشكال التطرف السياسي الذي تفاقم كرد فعل على اعتداءات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية وتصاعد ظاهرة الإسلاموفو­بيا في المجتمعات الغربية.

ولم يعد الأمر يقتصر على صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة وجماعات النازيين الجدد التي تتبنى برامج تقوم على استبعاد واضطهاد الأقليات العرقية والدينية وإعادة هندسة المجتمع استناداً للهوية، وإنما تزايدت معدلات العمليات الإرهابية المرتبطة بالكراهية والعنصرية.

ففي 8 نوفمبر 2018، تمكنت قوات الأمن الإسبانية من اعتقال أحد المتطرفين من "الفاشيين الجدد" قبيل محاولته اغتيال رئيس الوزراء "بيدرو سانشيز" بهدف الانتقام من رئيس الوزراء الإسباني بسبب قرار استخراج رفات الديكاتور اليميني فرانسيس فرانكو. وقد تم الكشف عن تخزين المتهم لكم كبير من الأسلحة وقيامه بنشر مخطط الاغتيال على وسائل التواصل الاجتماعي) .)

وتجدر الإشارة إلى أنه قبل هذه الواقعة بيومين فقط، أي في 6 نوفمبر 2018، تم اعتقال ستة أشخاص ينتمون إلى التيار اليميني المتطرف في فرنسا لتخطيطهم للاعتداء على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وقبلها، تم الكشف عن مؤامرة يمينية أيضاً من جانب اثنين من المشتبه بهم في لندن وإفشال مخططهما) .)

وقد شهدت بيتسبرج في الولايات المتحدة إطلاق شخص يميني متطرف النار عشوائياً على كنيس يهودي في 27 أكتوبر 2018، وهو ما أودى بحياة أحد عشر شخصاً وإصابة سبعة آخرين، فيما اعتبر الهجوم الأكثر دموية ضد اليهود في الولايات المتحدة) .)

وفي أغسطس 2019، وخلال أسبوع واحد، شهدت الولايات المتحدة ثلاث حوادث إطلاق نار، كنتاج لخطاب الكراهية والعنصرية، وارتفاع المد اليميني المتطرف، في ثلاثة أماكن مختلفة، هي جيلوري في كاليفورنيا، وإل باسو بتكساس، ودايتون بأوهايو) .)

وشهدت النرويج في أغسطس 2019 قيام فيليب مانهاوس البالغ 21 عاماً بإطلاق النار على المصلين في مسجد النور في أوسلو وقيامه بتوثيق الهجوم من خلال تصويره بواسطة كاميرا مثبته على خوذته، إلا أن المصلين قد تمكنوا من السيطرة عليه واحتجازه قبل أن يكتمل الهجوم) .)

ويعتبر هجوم كرايستشيرش في 15 مارس 2019 ضمن أبرز تجليات ظاهرة "الإرهاب الأبيض"، حيث قام المتطرف اليميني الأسترالي "برينتون تارانت" بإطلاق النار داخل مسجد النور ومركز لينود الإسلامي وقام بعمل بث حي لتنفيذ الهجوم مما أسفر عن مقتل العشرات، وهو ما اعتبر حادث إطلاق النار الأكثر دموية في الفترة الأخيرة بنيوزيلاند­ا وتم تصنيفه كهجوم إرهابي) .)

واستخدم منفذ الهجوم شعارات ورموز تؤكد تأييده للنازيين الجدد وسيادة البيض وقام - قبل الهجوم - بنشر وثيقة بعنوان "الاستبدال العظيم" تتضمن معتقداته المتطرفة حول وجود مؤامرة للإبادة الجماعية للبيض من جانب الأقليات) .)

وتواجه ألمانيا تمدد النازيين الجدد سياسياً بالإضافة لتشكل بعض الخلايا الإرهابية المتطرفة مثل خلية "الجماعة الوطنية الاشتراكية" التي تم تصنيفها كجماعة إرهابية بعد تنفيذ عدة هجمات أدت لمقتل عدد من المنتمين للأقليات خلال الفترة من 2000 إلى 2007، حيث اعتبرت هذه الهجمات من جانب مؤسسات إنفاذ القانون الأكثر تعقيداً منذ الحرب العالمية الثانية ووصفها المدعى العام الألماني بأنها "اعتداءات 11 سبتمبر الخاصة بألمانيا") .)

وتعد هجمات النرويج التي نفذها أندرس بهرنج بريفيك في 22 يوليو 2011 أحد المرجعيات الرئيسية لمتطرفي اليمين العنصري في توظيفهم للعنف المسلح، حيث استبق بريفيك هجماته بإعلان معتقداته اليمينية المتطرفة عبر الإنترنت ونشر بياناً حجمه 1516 صفحة متضمناً الأسس الفكرية للتطرف اليميني. كما جمعت هجماته بين استخدام المتفجرات بدائية الصنع وإطلاق النار الجماعي .)

ودفع ذلك بعض المحللين لاعتباره مصدر الإلهام الرئيسي لمرتكبي أعمال "الإرهاب الأبيض" في الدول الغربية. ويعد الهجوم على كنيسة تشارلستون في الولايات المتحدة في يونيو 2015 من جانب ديلان رووف نموذجاً آخر على التحول العنيف لمتطرفي "تفوق البيض" من كونهم جماعات سياسية متطرفة إلى اتخاذ الإرهاب آلية لفرض رؤيتهم على المجتمع مما يكشف عن تزايد عسكرة الاستقطاب الأيديولوج­ي والمجتمعي في الدولالغرب­ية .)

ثالثاً: محفزات ع�شكرة التطرف اليميني

تكشف مراجعة المؤشرات سالفة الذكر عن مدى انتشار ظاهرة "الإرهاب الأبيض"، والعسكرة المتزايدة للتطرف اليميني والاعتماد على السلاح في مواجهة الأقليات، وهو ما يرتبط بعدة أبعاد رئيسية يتمثل أهمها فيما يلي:

1- إرث الاستقطاب التاريخي: تكاد تتفق غالبية التبريرات التي ينشرها الإرهابيون البيض لتنفيذ عملياتهم في التوظيف المكثف للتاريخ وتغذية إرث الاستقطاب والصراع القائم على الانتماءات الدينية والعرقية، وعلى سبيل المثال، يتم استدعاء خبرة الحروب الصليبية وفتح الأندلس وسقوط القسطنطيني­ة والدولة البيزنطية في خطاب المتطرفين البيض ممن يقومون بتنفيذ هجمات إرهابية ضد المسلمين في الغرب، ويستدلون بتلك التأويلات المُختزلة للتاريخ على أن التعايش مع الآخر غير ممكن وأن الصراع هو المسار الحتمي للتفاعل معه وفقاً لمعتقدات المتطرفين) .)

2- معتقدات التفوق العنصري: يستند الإرهاب الأبيض لمعتقدات شديدة التطرف بتفوق الهوية البيضاء وأنها في مكانة أعلى من غيرها، ويتصل ذلك بمزاعم حول تعرض هوية الجماعة للتهديد من جانب الأقليات وأن سيطرة العرقية البيضاء على الاقتصاد والوظائف والسلطة في الدول الغربية تتعرض للتآكل نتيجة لتزايد انخراط الأقليات بها) .) 3- سرديات التحول الديمغرافي: تدعي الجماعات العنصرية المتطرفة في الدول الغربية أن التحولات الديمغرافي­ة السريعة ستؤدي لتحولهم إلى أقلية عددية في دولهم نتيجة لتمدد الأقليات وتزايد تدفقات الهجرة واللاجئين إلى الدول الغربية مما يؤدي للتغيير التدريجي للثقافة والهوية وتحويل الأغلبية البيضاء إلى أقلية ثقافية غير قادرة على التأثير بالفاعلية ذاتها في التفاعلات السياسية وعملية صنع القرار) .) 4- حماية المصالح الاقتصادية: اعتبرت جماعات اليمين المتطرف "العولمة المفرطة" تهديداً مباشراً لمصالح العرقية البيضاء بسبب تأثير التدفقات الكثيفة للبشر والتجارة ورؤوس الأموال وتزايد انخراط الأجانب والمهاجرين في الاقتصاد وانتقال أنشطة الشركات الوطنية خارج الحدود أو استعانتها بالعمالة الأجنبية بسبب انخفاض الأجور وتكلفة مقومات الإنتاج.

ودفع الشعور بالتهديد لصعود التيارات القومية المتطرفة كرد فعل دفاعي لمواجهة المخاوف من "الانصهار" وتآكل الهوية المتمايزة للجماعات، وتعبيراً عن حالة الغضب والاستقطاب على أسس دينية وطائفية وعرقية، والعداء للآخر، وتآكل هامش الثقة بين الجماعات المختلفة. وأصبحت هوية الجماعات القوى المحركة للمجتمعات والدول في ظل الانعزالية والعداء للآخر ممثلاً في الجماعات الأخرى والمهاجرين والأجانب، وهيمنة منطق المعادلات الصفرية Zero-Sum( Games) على علاقات الجماعات ببعضها) .)

لم تعد التيارات اليمينية المتشددة مدانة اجتماعياً وسياسياً باعتبارها جماعات نازية وفاشية متطرفة وعنصرية، بل على النقيض تحولت لبديل سياسي يفاضل الناخبون بينه وبين البدائل الأخرى في الانتخابات التشريعية ويقومون بالتصويت لصالحه بهدف معاقبة النخب السياسية التقليدية التي أخفقت في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعي­ة.

رابعاً: التداعيات ال�شيا�شية والأمنية

تشير تقديرات متعددة إلى أن ظاهرة "الإرهاب الأبيض" مرشحة للاستمرار والتفاقم في الفترة المقبلة نظراً لأن الجذور المحفزة للظاهرة لا تزال حاضرة بقوة في خطاب وممارسات النخب السياسية في الدول الغربية ووجود قطاعات مجتمعية مؤيدة للخطاب اليميني الدافع لهذه الممارسات بسبب تضرر مصالحها الاقتصادية من العولمة والانفتاح على العالم.

ففي سبتمبر 2019، أصدرت "رابطة مكافحة التشهير" ‪Anti-Defamation League(‬ ،) تقريراً توقع أن تشهد ظاهرة الإرهاب الأبيض تصاعداً ملحوظاً بسبب "تدويل حركة التفوق الأبيض"، وتزايد جرائم الكراهية والعنصرية المتزايدة في الولايات المتحدة والدول الأوروبية.

واعتبرت المنظمة أن حركات "تفوق البيض" أصبحت تمثل تهديداً إرهابياً عابراً للحدود، ولم يعد بإمكان الدول مواجهته بجهودها المنفردة بسبب التوسع غير المسبوق للظاهرة، ووفقاً للمنظمة فإن الفترة بين عامي 2009 و2018 قد شهدت 427 عملية إرهابية نفذها المتطرفون

في الولايات المتحدة، وتقع المسؤولية في 73% من هذه الحوادث على الجماعات اليمنية البيضاء في مقابل 23% نفذها متطرفون إسلاميون و3% قام بتنفيذها متطرفون يساريون، وهو ما يكشف عن مدى تزايد التهديدات الناجمة عن التطرف اليميني)23.)

وفي مايو 2019، أكد مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي "إف بي آي" أن التحقيقات في أكثر من 850 قضية إرهاب محلي كشفت عن مسؤولية المتطرفين اليمنيين عن جانب كبير من هذه العمليات وفق تصريحات "مايكل ماكجاريتي" مدير قسم مكافحة الإرهاب الذي شدد على خطورة تهديدات المتطرفين المؤمنين بتفوق العرق الأبيض وتزايد انتشار هذه الظاهرة بسبب تداول هذه الأفكار عبر وسائل التواصل الاجتماعي)24.)

وتشير تلك التقديرات إلى أن تحول مفردات الخطاب اليميني المتطرف من مجرد خطاب هامشي غير مؤثر إلى السيطرة على التفاعلات السياسية وتصدره وسائل الإعلام نتيجة وصول قيادات شعبوية للسلطة في الولايات المتحدة والدول الأوروبية ومنافستهم على الصدارة في عدد كبير من الدول الغربية، مما يزيد من تجذر ظاهرة الإرهاب الأبيض، ويمنح العناصر الإرهابية الأسس السياسية الداعمة لممارسة العنف بحق الأقليات والمهاجرين.

وفي هذا السياق، لم تعد التيارات اليمينية المتشددة مدانة اجتماعياً وسياسياً باعتبارها جماعات نازية وفاشية متطرفة وعنصرية، بل على النقيض تحولت لبديل سياسي يفاضل الناخبون بينه وبين البدائل الأخرى في الانتخابات التشريعية ويقومون بالتصويت لصالحه بهدف معاقبة النخب السياسية التقليدية التي أخفقت في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعي­ة.

وأصبح البرنامج السياسي لليمين المتطرف موضع تأييد قطاعات من الناخبين على الرغم من قيامه على توجهات كانت تعتبر سابقاً غير مقبولة ضمن الأيديولوج­ية الليبرالية المهيمنة، مثل معارضة الوحدة الأوروبية والهجرة ومعاداة اللاجئين والأقليات ورفض التجارة الحرة وتشديد القيود على تدفقات رؤوس الأموال ودعم إغلاق الحدود والحمائية الاقتصادية.

ختاماً، لم تتبلور بعد حزمة إجراءات سياسية واقتصادية وأمنية لمواجهة الإرهاب الأبيض مقارنة بالتركيز على مواجهة الإرهاب الديني وتطوير آليات متعددة لمواجهة التطرف العنيف بين الجماعات الدينية، وهو ما يرجع إلى عدم استيعاب النخب السياسية لمدى التغير في طبيعة التهديدات الإرهابية والعسكرة المتزايدة للعنصرية اليمينية.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates