Trending Events

ما هي الملامح الأساسية لعالم ما بعد كورونا؟

د. ويليام جريش

- د. ويليام جريش

يرى ثيودور هووك، الكاتب والروائي البريطاني، أن ”أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل هي اختراعه“. وتكشف تحركات القوى الرئيسية في النظام الدولي عن أن عالم ما بعد كورونا هو عالم تزداد فيه الصراعات والتوترات، بدلاً من أن تكريس هذه القوى جهودها لبناء نظام عالمي أفضل قادر على مواجهة التهديدات غير التقليدية.

تحديات ماثلة

يعد التنبؤ بالمسارات المحتملة للتطورات التي ستطرأ على الساحة الدولية بعد جائحة كوفيد – 19 من الأمور شديدة الصعوبة، وهو ما يمكن إرجاعه إلى عاملين أساسيين، وهما: 1- غموض الوباء وتأثيراته: لا تتوفر لدى علماء الأوبئة معلومات كافية عن جائحة كورونا، ولا يعرف بدقة كيفية انحسار الفيروس وميعاد ذلك، أو تكلفة التداعيات الاقتصادية التي سوف يخلفها على اقتصادات الدول المختلفة، وقدرة الدول الكبرى على استيعاب تداعياته،

وتحجيمها، أو استغالها لتعزيز وضعها الاقتصادي، وهي معلومات تعد جميعها حيوية، من أجل التنبؤ بطبيعة العاقات بين القوى الكبرى. 2- صعوبة التنبؤ بالمستقبل: تستعصى الظواهر الاجتماعية على التنبؤ، ولعل من الأمثلة على ذلك الربيع العربي في أواخر عام 2010، إذ توقع العديد من الخبراء أن هذه الاحتجاجات سوف تسقط أغلب الأنظمة الحاكمة، وأنها ستؤدي في النهاية إلى الاستقرار، غير أن هذه التوقعات أخفقت بشكل كبير، فلم تطل هذه الاحتجاجات كل دول المنطقة، كما أنها أسفرت عن انهيار بعض الدول في حروب أهلية ممتدة، كما هو واضح في الحالتين السورية والليبية.

وتواجه محاولة التنبؤ بتداعيات كوفيد 19 صعوبة إضافية، وهي تضارب المعلومات الأساسية حول الجائحة، وهو ما انعكس في التغطية الإعامية حولها، إذ باتت تتردد معلومات وتوقعات ودراسات عنها، ثم ما يلبث أن يتم تكذيبها. وعلى الرغم من أن بعض هذه التوقعات ستكون حتماً صحيحة، فإن

صعوبة تمييزها يفرض تحديات إضافية أمام القدرة على التنبؤ بمسار تأثير جائحة كورونا على النظام الدولي.

ملامح اأولية للم�صتقبل

مع التسليم بالصعوبات السابقة، فإن هذا لا يعني استحالة استشراف عالم ما بعد كورونا تماماً، ويمكن في هذا الإطار الإشارة إلى عدد من المحددات الأساسية لذلك العالم، والتي يمكن تفصيلها على النحو التالي: 1- أولوية البعد الاقتصادي: يعتمد تأثير جائحة كورونا على النظام الدولي على نتيجة الصراعات القائمة على كيفية إدارة النظام الاقتصادي الدولي، فالحكومات الغربية والمنظمات الدولية، لاسيما تلك المشتركة فيما يعرف باسم "توافق واشنطن" Washington( Consensus،) مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تضغطان بقوة للعودة إلى العولمة الاقتصادية، بل وتحثان على زيادة الإنتاج حتى تسد عجز عام 2020، إذ إنه لا يوجد خيار آخر، من وجهة نظرهما. وفي سبيل الدفاع عن هذه الرؤية، أقر البنك الدولي

خطة مساعدات طارئة قدرها 160 مليار دولار على مدى 15 شهراً لدعم جهود تصدي الدول لتداعيات فيروس كورونا المستجد الذي يجتاح العالم. 2- تعزيز الانسحاب الأمريكي: يتوقع أن تعزز أزمة جائحة كورونا من رغبة الولايات المتحدة من تقليص دورها في العالم، ويمكن الزعم بأن هذا التوجه لا يرتبط بالإدارة الأمريكية الحالية بزعامة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إذ إن الانسحاب الأمريكي من الشؤون العالمية مستمر، على الأقل منذ رئاسة الرئيس السابق باراك أوباما، ويمكن القول إن ترامب يتبع سياسة الرئيس السابع للولايات المتحدة أندرو جاكسون 1829( – 1837(، وهو اتجاه قومي انعزالي، خاصة مع إبداء ترامب، في أكثر من موقف، إعجاباً بشخصيته.

ولذلك لا يجب ربط رغبة ترامب في مراجعة عاقات الولايات المتحدة مع بقية دول العالم بشخصية الرئيس المزاجية المتقلبة، بل يجب ربطها بالأحرى باتجاه أكبر، ألا وهو تراجع دور الولايات المتحدة القيادي للعالم، ومحاولة واشنطن البحث عن سياسات جديدة للحفاظ على مكانتها دولياً، حتى لو تمثل ذلك في تقليل الإنفاق على التزاماتها الدولية، خاصة الأمنية منها. 3- تصاعد التوتر مع بكين: يعد التنافس بين الولايات المتحدة والصين من الأمور المرشحة لاستمرار والتصاعد بسبب الأزمة، فقد سبق الجائحة مباشرة توتر ملحوظ بين الدولتين، على خلفية عدد من القضايا، يتقدمها ملف التجارة بين البلدين، إذ تشكو واشنطن من ممارسات تجارية صينية غير عادلة، تمكنها من تحقيق مكاسب اقتصادية على حساب الولايات المتحدة. ففي عام 2018، كانت التجارة مع الصين تمثل 47% من إجمالي العجز التجاري الأمريكي، بينما بلغ الفائض التجاري الصيني 88%. ولقد أدى الخاف على منشأ الفيروس وطريقة التعامل معه إلى إضافة بعد إضافي لصراع القطبين.

ويمكن القول إن صراع واشنطن مع بكين يهدف إلى إبطاء الحركة الحتمية لتحول مركز الاقتصاد العالمي

من الغرب إلى آسيا، كما يمكن رؤيتها من وجهة النظر الصينية باعتبارها خطوة أخرى لمنع الصين من الحل محل الولايات المتحدة باعتبارها قائدة الاقتصاد العالمي.

وتوجد متغيرات قد تؤثر على مسار هذا الصراع، مثل تأثير الاعتماد المتبادل، ونتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة في نوفمبر 2020، ومدى نجاح الجهود الدولية في إنتاج لقاح لكورونا، والفترة التي ستتعطل فيها الأسواق الدولية وساسل التوريد بسبب الجائحة. 4- تصاعد الضغط المجتمعي: اختارت جميع الحكومات دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، بل وكذلك دعم الشركات الدولية، وذلك لتفادي حدوث ركود اقتصادي كبير، وهو ما ترتب عليه ارتفاع الديون الحكومية إلى مستويات قياسية، وهو ما يثير التساؤل حول الطرف الذي سيتحمل عبء تسديد هذه الديون الضخمة.

ومن الغريب أن أياً من الدول الديمقراطي­ة لم تفكر في الإجابة على هذا السؤال، وربما قد يكون تجاهل طرحه من الأساس مرتبطاً بالرغبة في الحفاظ على الوحدة الوطنية في أوقات الأزمات.

ومن المستبعد أن يتحمل القطاع الخاص أو الحكومات عبء هذه المبالغ، وهو ما يعني أن الشعوب هي التي ستدفع الثمن. وتطالب جماعات الضغط في الدول الغربية بالفعل بأن يبذل العمال جهداً أكبر في العمل بأجور أقل، كما يطالبونهم بالتضحية ببعض حقوقهم لتجاوز الأزمة.

وفي دول غرب أوروبا والولايات المتحدة، لن يتم فرض ضرائب إضافية على من هم أعلى دخاً وثروة. لذا

ستكون الطبقات الوسطى مرة أخرى هي المساهم الرئيسي في سداد العجز.

ولقد كانت التوترات الاجتماعية قائمة بالفعل قبل يناير 2020، ومن المرجح أن تزداد، وإن كان من المتوقع أن تلجأ الحكومات إلى قمعها، فمقتل جورج فلويد في مايو 2020 في الولايات المتحدة، وقمع التظاهرات التي خرجت تندد بعنف الشرطة يوضحان مستوى العنف الذي وصلت إليه الدول الغربية بالفعل.

ولذا سيكون عالم ما بعد كوفيد – 19 أكثر عنفاً، ليس بسبب الأزمة الصحية نفسها، ولكن لأن الأزمة عززت من حدة بعض الاتجاهات التي كانت موجودة بالفعل قبل الوباء، مثل التوترات المجتمعية.

هل مرّ الأ�صواأ، اأم انه لم ياأت بعد؟

لا يعرف على وجه اليقين سوى شيء واحد، ألا وهو أن هذه الاضطرابات لا تمثل الخلفية المثالية التي يتم عليها بناء عالم أفضل، خُلقاً أو انصافاً، من عالم ما قبل كوفيد – 19. وقبل نهاية العام، سيتضح من مراجعة الميزانيات الجديدة التي تعدها الدول أولوياتها، وهل ستؤثر الأزمة الحالية على مخصصات وزارات الدفاع مثاً، وهل ستحافظ الدول على الأموال المخصصة للمساعدات الإنمائية الرسمية أم ستكون أول بنود الميزانية التي يتم شطبها.

وفي النهاية، يعد كوفيد – 19 أول وأكبر تهديد أمني غير تقليدي على مستوى العالم في العصر الحديث. ويجب على دول العالم أن تدرك أن التحديات الرئيسية للمستقبل ستكون على الأرجح من الطبيعة نفسها.

وعلى الرغم من أن اتفاق باريس لعام 2015 قدم إطاراً جيداً لإدارة ظاهرة تغير المناخ دولياً، فإنه لم تقم أي دولة، أو منظمة دولية باستغال هذه الفرصة لربط هذا الوباء بغيره من المخاطر الأخرى العابرة للحدود والدعوة إلى جهد دولي مشترك لمواجهتها. ويمثل غياب الإرادة السياسية الجمعية في إدارة الأزمة مؤشراً محتماً على تحقيق عالم أفضل.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates