Trending Events

تدارك الأخطاء:

إعادة تفعيل المؤسسات الأوروبية في مواجهة كورونا

- يارا أحمد وجيداء أبوالفتوح

ومن دون تدخل في شؤونها الداخلية من قبل الدول الأخرى. وعندما أُنشئ الاتحاد الأوروبي في عام 1993، صار الهدف من هذا الإطار التعددي هو إضافة بُعد آخر إلى المفهوم القديم لسيادة الدولة من خال تقديم مفهوم "السيادة الأوروبية"، حيث تتصرف أوروبا ككتلة سيادية مستقلة داخل الساحة الدولية، حيث كان الاتحاد الأوروبي قبل جائحة كوفيد – 19 يطمح إلى أن يصبح لاعباً استراتيجياً على الساحة الدولية من خال تعزيز الوحدة بين دوله الأعضاء.

وواجهت هذه الفكرة تحديات، على أساس أنه في فترة الجائحة الحالية تفوق مخاطر الانفتاح الأوروبي مكاسبه. فلم تتمكن الكتلة الأوروبية من إيجاد حل موحد متفق عليه للتعامل مع الجائحة الحالية، تماماً كما حدث إبان إشكالية الاجئين في عامي 2015 و2016، بل وأخفقت في مساندة بعضها البعض، ولجأت إلى طلب دعم دول من خارج الاتحاد، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي: 1- إغلاق الحدود مع دول الاتحاد: نصت اتفاقية شينجن لعام 1985 على أن تفتح دول الاتحاد الأوروبي حدودها المشتركة مع بعضها البعض، مما يتيح السفر بين دول الاتحاد من دون قيود. ولكن بحلول جائحة فيروس كورونا، أغلقت عدة دول حدودها داخل منطقة شينجن، وعلقت حرية التنقل عبر دول الاتحاد الأوروبي. وكانت بولندا والتشيك والدانمارك أول من اتخذ هذا القرار، وتبعتها ألمانيا وفرنسا وإسبانيا) .)

2- تقييد صادرات المستلزمات الطبية: اتخذت بعض دول الاتحاد الأوروبي قرارات بتقييد صادرات الإمدادات الطبية، وذلك سعياً منها لتوفيرها لاستهاك الداخلي لحماية مواطنيها من الوباء، فقد فرضت فرنسا وألمانيا وبولندا قيوداً على تصدير المستلزمات والأجهزة الطبية، بدءاً من النظارات الواقية وصولاً إلى القفازات وأجهزة التنفس، مما أدى لعجز إيطاليا عن الحصول عليها من دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، وأشعرها بالخذلان") وهو ما دفع المفوضية الأوروبية للتدخل ومطالبة ألمانيا وفرنسا بتعليق قيودهما على بيع أدوات الوقاية الصحية الشخصية لإيطاليا، وهو ما استجابت له الدولتان، ولكن بعد أن تمكنت روما من الحصول على مساعدات وأجهزة طبية من الصين، وعدة دول أخرى.

3- الحصول على دعم من خارج الاتحاد: سعت دول أوروبية، مثل إيطاليا وإسبانيا، للحصول على المعدات والمستلزما­ت الطبية التي تحتاجها من خارج الاتحاد. وتدخلت الصين وروسيا لملء هذا الفراغ من خال إرسال الإمدادات والأطقم الطبية إليهم، وهو ما لم يفعله الشركاء الأوروبيون، وهو ما دفع وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو للتأكيد أن المساعدات التي تلقتها إيطاليا من الصين تعني: "أننا لسنا وحدنا، فهناك من يريد مساعدة إيطاليا في العالم حولنا") .)

ولذلك، كشفت هذه الأزمة عن هشاشة الاتحاد الأوروبي في مواجهة هذه الأزمة، بسبب تخاذل بعض الدول الأوروبية في التضحية بمخزونها من المعدات الطبية خال أزمة كورونا. وبغض النظر عما إذا كان هذا صحيحاً أم لا، فإن مثل هذا التصور يقوض فكرة التضامن الأوروبي) .) 4- تأجج المشاعر المناهضة للاتحاد الأوروبي: تأججت المشاعر المناهضة لأوروبا بسبب تراجع دعم الاتحاد الأوروبي لدوله وقت أزمة كورونا، لاسيما من جانب الإيطاليين. فقد أظهر استطاع رأي أجرته مؤسسة "تيسني" Tecnè() في مارس 2020، أن 67% من الإيطاليين يعتبرون أن عضويتهم في الاتحاد الأوروبي لا تأتي بخير) وبالإضافة إلى ذلك، انتشرت مقاطع لحرق أعام الاتحاد الأوروبي على وسائل التواصل الاجتماعي الإيطالية.

وكتب نائب رئيس الوزراء السابق ماتيو سالفيني في تغريدة على تويتر: "علينا إعادة النظر في أوروبا، في إشارة إلى الاتحاد الأوروبي، ودور إيطاليا فيها، فهم لم يهبوا لنجدتنا إطاقاً") ولكن إيطاليا لم تكن الدولة الوحيدة التي شعرت أن الاتحاد تخلى عنها، فقد شعرت بعض الدول الأوروبية، مثل اليونان وإسبانيا وبلجيكا وإيرلندا والبرتغال بعدم بذل بروكسل جهوداً كافية لدعم اقتصادات الدول الأعضاء في ظل الأزمة، وهو ما وضح من إرسالها في 25 مارس إلى شارل ميشيل، رئيس المجلس الأوروبي، مقترحاً بإصدار الاتحاد الأوروبي "سندات دين مشتركة من أجل تعبئة الموارد المالية الازمة، لمواجهة الركود الاقتصادي الذي تسببت فيه أزمة كورونا، وهي المبادرة التي رفضتها هولندا وألمانيا رفضاً تاماً) ،) على أساس تعارضها مع أفكار الاتحاد الاقتصادي والنقدي. 5- استغلال الجائحة لتقويض الديمقراطي­ة: لجأت بعض الدول الأوروبية لاستغال الأزمة لمخالفة القيم الديمقراطي­ة التي استند إليها الاتحاد الأوروبي، فقد أقر البرلمان المجري في 30 مارس 2020 مجموعة جديدة من التدابير لمكافحة كوفيد – 19، والتي تتضمن إعان الطوارئ، من دون وضع سقف زمني لها، كما تسمح لرئيس الوزراء ذي الميول القومية، فيكتور أوربان، بالحكم بمرسوم لفترة غير محددة المدة، أي من دون إصدار تشريعات يتم إقرارها من خال البرلمان المنتخب، كما تم منحه صاحية تعليق العمل بأي تشريع قائم.

وبينما تؤكد الحكومة المجرية أن مثل هذه الخطوة تعتبر ضرورية لمواجهة التحديات التي تفرضها الجائحة، فإن مثل هذه القوانين تخالف المبادئ التأسيسية لاتحاد الأوروبي ولقيم الديمقراطي­ة والحرية، كما وضح من الممارسة العملية أن النظام المجري يستغلها لتعزيز سلطاته، وتجاوز المعارضة، والتعتيم على بعض المشروعات الاقتصادية، والتي يتمثل أبرزها في مشروع للسكك الحديدية ممول من الصين، والذي حجب البيانات الخاصة بالمشروع عن المعارضة.

ووُجهت انتقادات لاتحاد الأوروبي بسبب تهاونه مع الإجراءات المجرية. واكتفت أورسولا فون دير لين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بالتأكيد أنه "من أهم الأولويات ألا تأتي إجراءات الطوارئ على حساب مبادئنا وقيمنا الأساسية"، في إشارة ضمنية إلى الرئيس المجري، من دون ذكر اسمه صراحة) بينما أكدت صوفي إنت فيلد، عضوة البرلمان الهولندي الليبرالية، ورئيسة مجموعة مراقبة سيادة القانون في البرلمان الأوروبي أن "فيكتور أوربان أكمل مشروعه للقضاء على الديمقراطي­ة وسيادة القانون في المجر. ومن الواضح أن

تصرفات الحكومة المجرية لا تتوافق مع مبادئ عضوية الاتحاد الأوروبي") .)

ولم تترجم هذه الإدانات اللفظية في أي سياسة عملية ضد المجر، إذ أكد بعض المسؤولين الآخرين في الاتحاد الأوروبي تركيز الاتحاد حالياً على معركته ضد الفيروس وتحجيم أضراره الاقتصادية، وأن الوقت الحالي ليس بالتوقيت المناسب لخوض معركة ضد عضو واحد فحسب.

ثانياً: اإعادة الت�صامن للاتحاد

كان أداء الاتحاد الأوروبي خال أزمة كورونا مرتبكاً، كما تمت الإشارة سابقاً، غير أنه سرعان ما تنبهت بروكسل لتداعيات ذلك، وقرر الاتحاد استعادة التضامن الأوروبي، وهو ما تمثل فيما يلي: 1- اعتذار الاتحاد لأوروبي: قامت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لين بالخطوة الأولى لتخفيف المشاعر المحتدمة المناهضة لاتحاد الأوروبي، حيث قدمت اعتذاراً لإيطاليا نيابة عن الاتحاد لفشله في اتخاذ إجراءات أكثر دعماً في بداية انتشار الجائحة في إيطاليا. وقالت فون دير لين "نعترف أن أحداً لم يكن مستعداً حقاً لهذا الوضع، ونعترف أيضاً أن الكثيرين لم يقدموا يد العون لإيطاليا في الوقت الذي كانت فيه بأمس الحاجة للمساعدة في بداية الأزمة، لذا تعتذر أوروبا من صميم قلبها عن هذا كله) .)

وفي المقابل، رحب لويجي دي مايو، وزير خارجية إيطاليا، باعترافات فون دير لين، واصفاً إياها بأنها "خطوة صادقة ومهمة") وهو ما يمثل اعترافاً مهماً من كبار المسؤولين في الاتحاد بغياب "روح التضامن" الأوروبي في لحظات تفشي كورونا، وهو ما يكون مؤشراً على اتجاه الاتحاد الأوروبي لدراسة كيفية دعم الدول الأعضاء في مواجهة انتشار الأوبئة، لضمان فاعلية الاتحاد في مواجهة أحد التهديدات غير التقليدية للأمن الإنساني. 2- وضع خطة للتعافي الاقتصادي: اقترحت المفوضية الأوروبية في 27 مايو 2020 خطة لتعافي الاتحاد الأوروبي اقتصادياً من تداعيات كورونا، وعرفت هذه الخطة باسم "الجيل القادم من الاتحاد الأوروبي". ويشتمل الاقتراح على خطة تعافٍ طارئة مؤقتة من شأنها أن تساهم في تخفيف التداعيات الاجتماعية والاقتصادي­ة المباشرة الناجمة عن الجائحة، لتكون قادرة على ضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة) ويبلغ حجم المشروع حوالي 750 مليار يورو، كما أنها تضمن إجراءات لتعزيز ميزانية الاتحاد الأوروبي طويلة الأجل للفترة من 2021 وحتى 2027، وتستهدف رفع إجمالي القوة المالية لميزانية الاتحاد الأوروبي إلى 1.85 تريليون يورو") .)

وتهدف خطة التعافي، وفقاً لرئيسة المفوضية، أورسولا فون دير لين، إلى تحويل التحدي الاقتصادي الهائل الذي تواجهه الدول الأعضاء إلى فرصة، ليس من خال دعم التعافي فحسب، بل ومن خال الاستثمار في المستقبل، من خال تعزيز "الصفقة الخضراء الأوروبية"، أي تحقيق التنمية المستدامة، بالإضافة إلى رقمنة الوظائف وزيادة مرونة المجتمعات الأوروبية في مواجهة التهديدات غير التقليدية.

وتتطلب الخطة دعماً من دول الاتحاد السبع والعشرين كافة، ولكن لم يتم التوصل إلى اتفاق بشأن تنفيذ الخطة حتى الآن، فبعض الدول الأعضاء غير موافقة على شكل الخطة الحالي، إذ أوضح دبلوماسي هولندي أن "المواقف متباينة للغاية، وهذا ملف يقوم على الإجماع، لذا فإن المفاوضات ستستغرق وقتاً") غير أنه من المتوقع أن يسعى الاتحاد في النهاية إلى تبني الخطة، نظراً لتداعيات الجائحة على اقتصادات أعضائه من دون تمييز، فضاً عن اتجاه كل القوى الاقتصادية الكبرى، مثل الولايات المتحدة والصين، إلى إقرار حزم دعم اقتصادية ضخمة لتجاوز أزمة كورونا. 3- تأسيس تحالف للقاحات: طلب الاتحاد الأوروبي من الدول الأعضاء تفويضه لإجراء مفاوضات مع شركات الأدوية حتى يتمكن من التعاقد على جرعات اللقاح المرشح لمكافحة الفيروس، وهو ما يمكن اعتباره وسيلة أخرى يسعى الاتحاد من خالها إلى إثبات قدرته على لعب دور فاعل في مواجهة جائحة كورونا، وكذلك استيعاب وتحجيم المشاعر المناهضة لاتحاد الأوروبي، وتعزيز الترابط بين دول الاتحاد) .)

ويتمثل الهدف من هذا التفويض في ضمان الحصول على اللقاحات الفعالة وعدم التخلف في هذا الشأن عن الدول الأخرى، مثل الولايات المتحدة والصين، اللتين تبرمان صفقات مع كبريات شركات الأدوية لتأمين لقاحات فعّالة لمواطنيهما في حالة التوصل للقاح فعال لمواجهة كورونا.

كما قررت فرنسا وألمانيا وإيطاليا وهولندا إنشاء "تحالف

اللقاحات الشاملة" لدعم تطوير لقاح مضاد لفيروس كورونا المستجد، بهدف تسريع إنتاج لقاح للقضاء على كوفيد – 19 على "أرض أوروبية"، حسب تعبير وزارة الصحة الهولندية. وتأمل الدول الأربع في توحيد جهودها مع شركات الأدوية الكبرى للتوصل لمبادرات واعدة في هذا الإطار.

وأضافت الحكومة الهولندية أن "ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا مقتنعة بأن النتائج الناجحة تتطلب تضافر الاستراتيج­يات والاستثمار­ات") كما أكد مسؤولون هولنديون أنهم سيعرضون على الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي المشاركة في مبادرات التعاون لإنتاج لقاح، وأن هذه المشاركة يمكن أن تشمل المفوضية الأوروبية. 4- فتح الحدود بين الدول الأعضاء: حثت مفوضة الشؤون الداخلية في الاتحاد الأوروبي، يلفا جوهانسون، جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على رفع القيود والضوابط كافة على الانتقال بين حدود الاتحاد الأوروبي الداخلية بحلول نهاية يونيو) بما يسمح لمايين الأوروبيين بالتنقل بحرية، وذلك بهدف تعزيز قطاع السياحة الذي تضرر بشدة جراء جائحة كوفيد – 19. وجاء هذا التعهد تماشياً مع مجموعة التوصيات المقترحة التي نشرتها المفوضية لضمان رفع القيود المفروضة على السفر بالتنسيق مع الأطراف كافة .)

وعلى الرغم من قيام بعض الدول بفتح حدودها الداخلية مع الدول المجاورة لها، مثل إستونيا ولاتفيا وليتوانيا قبل هذا الإعان، فإن هذا الأمر لاقى انتقاداً من المفوضية، إذ حذرت من أن مثل هذه الإجراءات تؤسس لإقامة مناطق شينجن

مصغرة بعد جائحة كوفيد – 19، وهو ما يمثل انتقاصاً من قوة الاتحاد الأوروبي، كما ينذر بتهديد السوق الأوروبية الموحدة، وفقاً للسيد مارجريتيس شيناس، نائب رئيس المفوضية الأوروبية.

الخاتمة

لطالما كان الاتحاد الأوروبي رمزاً ومثالاً لأحد أنجح التكامات الإقليمية على مستوى العالم، سواء على المستوى الاقتصادي، أو الأمني، غير أن صورة الاتحاد الأوروبي، في عيون مواطني دوله، قد تضررت عندما قررت الدول الأعضاء العمل بصورة منفردة في وقت الأزمة لحماية أمنها القومي من الوباء من دون الاكتراث لباقي الدول الأعضاء، وهو ما كشف عن استمرار ترسخ فكرة سيادة الدول المستقلة في أوروبا، وهو ما تجلى في فرض الدول المختلفة تدابيرها الخاصة للتعامل مع هذه الأزمة الصحية الطارئة.

وعلى الرغم مما سبق، فقد شرع الاتحاد الأوروبي في تصحيح مساره، ومطالبة الدول الأعضاء، بتبني سلوك مختلف، والعودة لقيمه الأساسية القائمة على الوحدة والتضامن بين الدول الأعضاء، كما شرع في اتخاذ إجراءات لاستعادة الثقة في التكتل من خال تقديم الدعم الصحي، والتفكير في تقديم حزم دعم اقتصادي للدول الأكثر تضرراً. وسيمثل انتشار موجة ثانية من الجائحة، في حال حدوثها، اختباراً حقيقياً لاتحاد، ومدى نجاحه في التصرف بصورة جماعية في مواجهة الوباء، وبصورة تختلف عن طريقة إدارة أزمة الموجة الأولى.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates