Trending Events

‪Pax Sinica‬

محاولة الصين الاستفادة من أزمة كورونا لتعزيز مكانتها الدولية

- د. ن. جاناردهان

تدور في أذهان أغلب المهتمين بالعلاقات الدولية تساؤلات حول ما إذا كانت الصين ستخرج من أزمة كوفيد

، وهي رابحة أم خاسرة، وما إذا كانت التهديدات بمغادرة الشركات الأجنبية الصين جدية أم لا، ومدى قدرة الصين على تحويل هذه المحنة إلى منحة، وانعكاس أزمة كورونا على المنافسة بين بكين وواشنطن، وكذلك على شكل النظام العالمي في الحقبة التالية على كوفيد .

تحتاج الإجابة على التساؤلات السابقة إلى قدر من الحذر، إذ لا يزال من المبكر الخروج باستنتاجات قاطعة، نظراً لأنها ستكون مبنية في هذه الحالة على التخمين والمبالغة، ومع ذلك يتوقع أن تتمكن الصين من تحقيق مكاسب أكبر من الأزمة مقارنة بالولايات المتحدة، ارتباطاً بأن بكين كانت تحقق تفوقاً في مواجهة واشنطن في فترة ما قبل كوفيد – 19.

وتدرك واشنطن هذه الحقيقة جيداً، ففي عام 1853، أشار وليام سيوارد )1861 – 1869(، وزير الخارجية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق أبراهام لينكولن، إلى أن "الأمة الأكثر اعتماداً في مواردها على الأرض، والأكثر تصنيعاً، والأكثر تصديراً إلى الدول الأجنبية، لابد أن تكون، بل وستكون بالفعل، أكبر قوة على كوكب الأرض". وانطبق هذا القول على بريطانيا في القرن التاسع عشر، وعلى الولايات المتحدة في القرن العشرين، وباستمرار معدلات نمو الاقتصاد الصيني الحالي، من المتحمل أن تحل الصين محل أمريكا في القرن الحادي والعشرين) .)

فقد حازت الولايات المتحدة على 35% من الناتج المحلي العالمي في الفترة التالية على الحرب العالمية الثانية، وهو ما أعطاها ثقاً لتهيمن به على العالم سياسياً وعسكرياً، غير أن نصيب واشنطن من هذا الناتج انخفض من ذلك الحين إلى

أن بلغ حوالي 20% في الوقت الحالي. وفي المقابل، صعدت الصين من حوالي 4% من الناتج المحلي العالمي في عام 2000 إلى حوالي 15% في عام 2018، ومن المتوقع أن يتجاوز الاقتصاد الصيني نظيره الأمريكي في هذا المؤشر بحلول 2029.

وتساءلت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هياري كلينتون في ملحوظة مثيرة في عام 2008: "كيف تتشدد مع ممولك؟") فلقد كان شراء الصين سندات الخزانة الأمريكية هو ما جعل الصين الممول الرئيسي لعجز الموازنة الأمريكية، فأصبحت بالتالي هي من تموّل الولايات المتحدة. وليس من المحتمل أن يتغير هذا الوضع تغيراً كبيراً على الرغم من تصاعد دعوات الإدارة الأمريكية وساستها إلى فصل اقتصادهم عن الصين، لاسيما بعد تفشي كوفيد – 19.

اأولً: الرتكاز على القوة الناعمة

ذكر جوزيف ناي، الذي صك مفهوم القوة الناعمة، في مقاله الأخير حول أزمة كورونا: "يجب أن نشكك في مزاعم أن الوباء سيغير كل شيء، فالصين لن تستفيد من الأزمة، وستبقى الولايات المتحدة في الصدارة") وبنى ناي استنتاجه هذا على أساس أيديولوجي، وهو أن الصين ليست دولة ديمقراطية، غير أنه بغض النظر عن هذه المغالطات الأيديولوج­ية، فإنه

من المؤكد أن الصين تمكنت من إدارة أزمة كورونا بصورة ناجحة، فعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت لها بسبب فرضها الغلق الكامل على بعض الأقاليم داخلها، فإن جميع الدول الديمقراطي­ة تقريباً، بما في ذلك الولايات المتحدة، فرضت الإجراءات نفسها بعد ذلك.

ومن جهة ثانية، لا يجب إغفال أن الصين باتت تحوز من القوة الناعمة ما يمكن أن تنافس به الولايات المتحدة، خاصة بعدما تمكنت بكين من أن تصبح الشريك التجاري الأول لما يزيد على 130 دولة في العالم في القرن الحادي والعشرين، فضاً عن نجاحها في استقطاب العديد من الدول الأوروبية لانضمام إلى مشروع الحزام والطريق، وبنك الاستثمار الآسيوي للبنية التحتية، وذلك على الرغم من الرفض الأمريكي لالتحاق هذه الدول بالمشاريع الاقتصادية الصينية، وتمكنت بكين في القيام بذلك من خال الإغراء بالمنافع الاقتصادية، وهو ما يعد تطبيقاً عملياً للقوة الناعمة.

ثانياً: عوامل قوة بكين

واجهت الصين انتقادات شديدة من الولايات المتحدة لكونها الدولة التي تسببت في نشر فيروس كورونا الحالي، وما نتج عن ذلك من أزمة اقتصادية كبرى، وعلى الرغم مما سبق، فإنه يتوقع أن تواصل بكين جهودها لقيادة النظام العالمي بالاستناد إلى العوامل التالية: 1- امتلاك الرؤية والمشروع: يمكن النظر إلى مبادرة الحزام والطريق التي أعلنت عنها بكين في عام 2019 باعتبارها من أدوات بكين لمواصلة تعزيز قوتها الاقتصادية، ومن ثم قيادة النظام العالمي. وعلى الرغم من بطء سير العمل فيها بسبب أزمة السيولة النقدية، فإنه ليس من المرجح أن تعدّل الصين نطاق المبادرة تعدياً كبيراً.

ويعد طريق الحرير هو أحد الأسباب التي ترجح أن تخرج الصين منتصرة من أزمة كورونا، إذ لا تستطيع الولايات المتحدة إطاق مشروع منافس لطريق الحرير الصيني، فلقد أعلنت واشنطن عن حزمة دعم للبنية التحتية للدول النامية بقيمة 60 مليار دولار في 2018، من دون تقديم أي تفاصيل حول المشروع، وذلك في الوقت الذي تعهدت فيه الصين بدفع مبالغ تقدر بحوالي 1.3 تريليون دولار في عام 2017 في إطار مبادرة الحزام والطريق) وهو ما يجعل الصين أكبر مقرضي العالم ومموليه.

2- لعب دور قيادي في الأزمة: وظفت بكين "دبلوماسية الكمامات" لاستعادة بعض ما خسرته من قوتها الناعمة، وعززت هذه الدبلوماسي­ة دور الصين القيادي خال الأزمة، وهو الدور الذي كان حكراً في السابق على الدول الغربية. وفي الوقت الذي حوّلت بكين فيه المحنة إلى منحة، انخفضت أسهم واشنطن أمام العالم باتباعها استراتيجية محلية مرتبكة وباهتة، حيث هاجمت منظمة الصحة العالمية، كما لم يكن

لها دور قيادي أو تنسيقي في تشكيل استجابة عالمية لتخفيف تداعيات الأزمة. 3- مواصلة النمو الاقتصادي: على الرغم من تلقي الاقتصاد العالمي ضربة قاصمة، بما في ذلك اقتصاد الولايات المتحدة والصين، فإن الأخيرة، على عكس الأولى، كانت من الدول القليلة للغاية التي سجلت نمواً اقتصادياً في عام 2021، حتى وإن كان أقل من المعدل الذي كان متوقعاً قبل الجائحة. وهذا يعني أن مسيرة الصين نحو اللحاق بالولايات المتحدة ستستمر في المستقبل. 4- انكفاء واشنطن على الداخل: يعني اتباع آخر إدارتين أمريكيتين لنهج "أمريكا أولاً" أن واشنطن لن ترغب في الانخراط في الشؤون الخارجية حتى بعد الانتخابات الرئاسية لعام 2020، لاسيما أنه من المتوقع أن يتراجع اقتصادها، فنسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي بها يزيد بالفعل بمقدار ضعف النسبة الموجودة حالياً في الصين، ومن المرجح أن يزداد أيضاً بسبب حزم التحفيز الاقتصادي التي طبقتها إدارة ترامب. وهناك تطبيقات عديدة لمبدأ "أمريكا أولاً" منها إعان شركة سانوفي العماقة للأدوية، ومقرها في باريس، أنها ستعطي الولايات المتحدة أسبقية الحصول على اللقاح المحتمل للفيروس، والذي تنتجه الشركة، ذلك لأن الشركة تلقت تموياً أمريكياً لأبحاثها) وتراجعت صورة الولايات المتحدة كذلك بسبب تسجيل الدولة أعلى عدد من الوفيات في العالم حتى يوليو 2020. ومن المفارقات أن واشنطن اضطرت لشراء إمدادات طبية طارئة من منافستها الاستراتيج­ية ممثلة في الصين.

ثالثاً: حدود التداعيات ال�صلبية

إلى جانب العوامل الإيجابية التي تمت الإشارة إليها في القسم السابق، فإنه لا يمكن إنكار أن الصين تضررت من أزمة فيروس كورونا، كما أنها أساءت إدارة الأزمة، في جانب منها، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي: 1- سوء إدارة بكين للأزمة: تعد الصين منشأ فيروس كورونا، كما أنها أساءت إدارة الأزمة في أولى موجات تفشي الفيروس، وهو ما اتضح في تسترها على أعداد الإصابات، كما أنها قامت بتصدير معدات طبية رديئة الجودة، وتحديداً أجهزة التنفس الصناعي، والكمامات الطبية، وهو الأمر الذي أضر بسمعتها الدولية) .) 2- تضرر الاقتصاد الصيني: أضرت الأزمة الصحية بالاقتصاد الصيني، وأثرت سلباً على فرص نمو اقتصادها، وقد تمتد هذه التأثيرات السلبية على المدى الطويل، خاصة إذا ما تبنت بعض الدول سياسات قومية، وعززت من إنتاجها للسلع الاستراتيج­ية، وخفضت اعتمادها على الاستيراد من الخارج، كما أن هذه الأزمة دفعت الشركات الأجنبية لإعادة النظر في اعتمادها المفرط على السوق الصيني، والتفكير في

نقل استثماراته­ا إلى دول أخرى؛ وهو ما يتزامن مع الضغوط الأمريكية على كبريات شركات التكنولوجي­ا الأمريكية لنقل أنشطتها إلى الأراضي الأمريكية. وأخيراً، فإن هذه الأزمة قد تدفع الدول الغربية إلى الصدارة الاقتصادية، وهي كلها عوامل قد تؤثر على فرص نمو الاقتصاد الصيني مستقباً. 3- اتباعها دبلوماسية عدائية: تتبنى بكين دبلوماسية عدائية، أو ما يعرف باسم دبلوماسية "الذئب المحارب"، والتي تهدف إلى حماية مصالح الصين في الخارج) باتباع سياسات عدائية، كما في اتجاهها إلى فرض عقوبات اقتصادية على الدول التي تنتقدها بسبب جائحة كورونا، كما في تعليقها استيراد اللحوم من أستراليا رداً على طلب الأخيرة إجراء تحقيق دولي حول منشأ الفيروس، وهي كلها سياسات تضر بالقوة الناعمة الصينية.

وبتقييم الجوانب الإيجابية والسلبية لتعامل بكين مع الأزمة، ياحظ أن الإيجابيات تفوق السلبيات، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار الأبعاد التالية: 1- عدم جدية العقوبات والتهديدات الاقتصادية: إن التهديدات الأمريكية بفرض عقوبات على الصين، أو تلويح الشركات الأجنبية بالخروج من الصين ليس خياراً عملياً. ففي استطاع مشترك أجرته شركة "برايس ووتر هاوس كوبرز" PwC() وغرف التجارة الأمريكية في بكين وشنجهاي في أبريل، تبين أن 70% من الشركات الأمريكية في الصين لا تخطط لمغادرة الصين، بل في الواقع أبدى 60% من هذه الشركات تفاؤلاً بعودة الحياة لطبيعتها في غضون ثاثة أشهر، في حين شعر 96% أنها ستعود في ستة أشهر، وهذه النسب تعد دلياً على الثقة بقدرات الصين، لاسيما أنها تأتي من شركات مقرها الرئيسي في الدولة الأشد انتقاداً لها) .) 2- تحسب بكين من توتر علاقاتها بواشنطن: تسعى بكين بالفعل لوضع خطط للطوارئ لمواجهة أي سياسات معادية لها، فلقد حذر تقرير صيني محلي أعدته مؤسسة فكرية رسمية من أن بكين قد تواجه عداءً شديداً، مما قد يؤدي بها للوقوف في مواجهة مع الولايات المتحدة. وأشار إلى أن المشاعر المعادية للصين وصلت إلى أعلى مستوياتها منذ تظاهرات ساحة تيانانمن في عام 1989، وهو ما قد يضر بمشروعات مبادرة الحزام والطريق، بل وقد يشجع واشنطن على "تهديد الأمن الإقليمي" بالقرب من الصين) .)

ويبدو أن الصين تتحسب لسيناريوها­ت مستبعدة، إذ إن أغلب دول آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية تحرص على استمرار التعاون مع الصين. كما أن أوروبا كانت تسعى لتعزيز عاقاتها الاقتصادية مع الصين على الرغم من الاختافات الإيديولوج­ية والسياسية، وهو ما يعني أنه من المتوقع أن تواصل أوروبا تعاونها مع الصين في عالم ما بعد كوفيد – 19، كما رفضت باقي الدول الأعضاء في مجموعة السبع الصناعية طلب واشنطن إصدار بيان يصف جائحة كورونا باسم "فيروس ووهان".

الخاتمة:

في ضوء تصاعد التوتر بين واشنطن وبكين، يمكن القول إن هناك ثاثة سيناريوهات جيوسياسية لعصر ما بعد كوفيد – 19، ويتمثل الأول في تصاعد التنافس والتوتر بين الصين والولايات المتحدة، ولكن من دون إعادة رسم لخريطة التحالفات الحالية، بينما يتمثل السيناريو الثاني في عودة واشنطن للعب دور نشط على الساحة الدولية، ويتمثل السيناريو الثالث في قيام عصر "السام الصيني" ‪Pax Sinica(‬ ،) أو "الهيمنة الصينية") .)

ومن بين السيناريوه­ات الثاثة، يبقي السيناريو الأول هو الأكثر قابلية للتحقق، حيث ستبقى بكين وواشنطن "شريكتين متنافستين"، لكن مع تجنب الوقوع في فخ ثوسيديدس) .) فالدرس الذي تعلمته الصين، من الولايات المتحدة هو أنه من الحكمة عدم بسط نفوذها بما يتجاوز إمكانياتها. ولا نعتقد أن تكرر الصين الأخطاء التي وقعت فيها الولايات المتحدة أثناء قيادتها النظام الدولي.

وفي كل الأحوال، فإن سيادة نظام عالمي متعدد الأقطاب في مرحلة ما بعد كورونا سوف يخدم مصالح جميع الدول. وفي مثل هذا العالم، يتوقع أن تسعى الصين لتحقيق التفوق، ليس بالاستناد إلى قوتها الصلبة، كما فعلت الولايات المتحدة، ولكن كقوة ذكية.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Arab Emirates