Al-Quds Al-Arabi

حبيب سروي: اليمن يغرق وشعبه ينتحر جماعيا

رواية «وحي» بين التكنولوجي­ا والميثولوج­يا دهرٌ وهاوية

- باريس ـ «القدس العربي» من آدم جابر:

حبيب عبدالرب ســروري، كاتب وروائي يمني، وأســتاذ جامعي في علوم الكمبيوتر في الكلية القومية للعلوم التطبيقية في مدينة روان الفرنسية. له العديد من الأبحاث والكتب العلمية باللغتين الفرنســية والإنكليزي­ــة. لكن، ومع ذلكك ظل مرتبطــا بالأدب والثقافة العربيــة، حيث أصدر كتبا بالعربيــة، على غرار: «لا إمام ســوى العقل» و«لنتعلّم كيف نتعلم». كمــا أن روايته ما قبل الأخيرة «ابنة سوســلوف»، التي تُرجمت إلى اللغتين الفرنســية والإنكليزي­ة، لاقت اهتمام وسائل الإعلام الفرنســية. وحديثا، صدرت له رواية: «وَحي» عن دار الساقي، التي لم تغب عنها المأساة التي يمرُ بها بلده اليمن. التقته «القدس العربي» في باريس وكان الحوار التالي: ■ حدثنا في البداية عن فكرة رواية «وحي»

□ فكــرة الرواية أتت من عنــاق ملاحظتين جوهريتين، يفصلهمــا دهرٌ وهاويــة. الأولى: هيمنة الحيــاة الرقمية، ابنــة الإنترنــت، على حياتنــا اليوميــة، إذ صرنا نحيى معظم الوقــت متوحِّدين مع شاشــات الكمبيوتر، باحثين عما يختفي في ســراديبه من معــارف، لا نتحدث غالبا مع الآخــر إلا عبر وســائل تواصله الاجتماعــ­ي، لذلك، يمكن اليوم للخيوط الأولــى لروايةٍ أن تخرج من صلب وترائب هذا العالَم الرقمي. هذا مــا خطّطتهُ بطلةُ الرواية «وحي»، ونفّذهُ الراوي غسّــان، بدون وعي. والملاحظــ­ة الثانية: هيمنة الميثولوجي­ا الغيبية والأفــكار الظلامية والطائفية على حياتنا العربية، اليوم أكثر من أي وقت مضى، وشــلل العقل العربي بســبب ذلك. تُحدِّد ذلك، على نحو مباشر أو غير مباشــر، رؤيةَ معظم الناس لقضايــا العصر، للتاريخ والكون والطبيعة والمســتقب­ل، وطريقةَ تعاملهم مع الآخر المختلِــف، والعلاقة بالطغاة والسياســة. أردتُ، إذن، في رواية «وَحي» الخوض الروائــي الفني في أرضيةٍ صعبة، لا يتجرأ الروائــي العربي الخوض فيها غالبا: المســلمات الجوهرية لهذه الميثولوجي­ا، ونتائجها. ■ لكن كيف تفســر صعوبة ملامسة مواضيع الفكر روائيا منحى فنيا؟

□ نعم، كل الأبواب مفتوحة للموضوع الروائي. وبفضل ذلــك لعب الأدب الحديث، ولا ســيما الروايــة في القرون الأخيرة، دورا في تأســيس قرن التنويــر )القرن الثامن عشــر( وما تلاه. وبفضل ذلك تســاقط الطغاة والأنظمة التوليتاري­ــة، وتطــوَّرَ الإنســان الحديث: صــارت قيمُ الإنسانية والحرية والســلم والعقل والإخاء )التي حملت رسالتها الروايات الإنسانية( مداميكَ عصر العِلم وحقوق الإنســان، وما أحوجنا، نحن كعرب أكثر من غيرنا، لِسيلٍ من هذا المــدّ الروائي الذي يغيّر من معالــم واقعنا العربي المتقوقــع، وينقله إلى عصــر جديد. ولعلــي بعد روايتين تنتميــان لهذا المنحى هما «عرق الآلهــة » و«تقرير الهدهد » )بطلها أبو العلاء المعري الذي تتجســد فيهــا أفكاره عن الكــــون والحياة والإنســــ­ـان، في سياق فني تخييلي خالص، لا يخـــــــل­و من بعض تقنيات الخيال العلمي(، وبعد كتــابٍ ثقافي نــال رواجا ملحوظا: «لا إمام ســوى العقــل»، صِرتُ ذا تجربةٍ ما في هــذا المنحى الروائي الذي أتمنــى أن يكون قد اكتســب نضجــا جديدا فــي روايتي الجديــدة «وَحــي»، التي بــن أيديكم. كل شــيءٍ يتم بين دفتيها في ســياقٍ فنيٍّ خالص، أبطــال الرواية، كالبديعة جدا الســـورية ـ الفــــــر­نسية شُهد )تلعب دورا رئيسا كالراوي، بل أهم(: قِطـــــعٌ فنية، كما أظن وأتمنى. كما أن تنــاولُ المواضيع الفكرية في هذه الرواية يتخلل ســياقها الســردي، بين رحلاته وتفاعلاته الغرامية وهموم حياته اليومية. وليس هدفا بحد ذاته.

■ لعله إذن نتيجة طبيعية مباشــرة لحــدثٍ واقعيٍّ جذريٍّ عاشــه الراوي، واســتطاعت البطلــة «وحي» اســتنطاقه منه، والتفتيش في ذاكرته عن تداعياته؟ □ نعم. دار حــدثٌ مفصلــي جوهري أثنــاء طفولته، في مســجد العيدروس في الحواشب في اليمن: عندما رأى في المسجد )من ثقبٍ في أعلى القبة(، خفايا مسرحيةٍ تلفيقية، تدور في المحراب، صدّقها جميع الحاضرين. من هذا الحدث انطلقت شرارة كل التســاؤلا­ت والجدل بين الراوي و«وحي».فكما فــي كل رواياتي، لا أبحث إلا عن تفجير التســاؤلا­ت فقط. وكلّ الآراء فيها، )مثلما عندما يقول غسّــان: ابن هشــام ميثولوجيــ­ا بحجم وطن(، تخــرج من أعطــافٍ جماليةٍ ولغوية فنية. باختصار، كل شــيء يدور خلال السرد على نحو روائــي خالص، انطلاقا من نواة حــدثٍ تكوينيٍّ في مســجد العيدروس. ثم، بعد ذلك، مــن صلب واقع حياتنا العربية واليمنية: مســرح الرواية، وكل أحداث وتفاصيل الرواية تخرج من ثنايا هذا المسرح ■ مــن خلال قراءة هذه الرواية «وَحي»، لاحظت أن زمنها يعبر حوالي نصف قرن ما دلالات ذلك؟

□ زمــن الرواية هو كل هــذا الامتــداد التاريخي، منذ منتصف القرن العشــرين إلى اليــوم، والذي يحتضن في الحقيقة معظم رواياتي. لعــلّ المهمة الأولى لأي رواية، إن كان للرواية مهمة، هو ســرد ســيرورة الزمن، وتماوجات وتقلبات الطبيعة الإنسانية خلاله.

وفي «وحي» ثمّة شخصيات عدّة تتغيّر بما لا يخطر على بال أحيانا. أهّمها عبدالقهار الذي صار اســمه «قهاروف» في معمعان الزمن الماركســي اللينيني اليمني، ثم «الشيخ الدكتور عبدالقهار» اليوم، صاحــب «براءة اختراع جهاز طرد الجن والشــياطي­ن بالواي فاي»، وأخوه عبدالباري: ضحية الإيمان الســاذج بمســلمات الثقافة السائدة التي اختلطت فيها الــرؤى الغيبية الظلامية في طفولة الراوي، بالأفكار الاشتراكية لاحقا.

عبدالباري الذي ذبح ابنه الصغير في الرواية، أمام باب المسجد بعد صلاة الفجر )كما حصل فعلا في إحدى القرى اليمنية(، استجابة لِحلمٍ ليليٍّ، على غرار وحي الأنبياء، دُعيَ فيه لِقتل ابنهِ الصغير بالساطور الإبراهيمي، ودفنِه مع مسدســه الشــخصي في القبر، ليكون أضحية تنتهي بعدهــا آلام العالم وحروبــه. وثالثهما، ولــو على نحو مختلف: الراوي. ■ إلى جانب هــذا الزمن الروائي التقليدي، نلاحظ أيضا نوعــا من الهــوس يجثم على رغبــات الــراوي: رؤية الماضي العتيــق، كما حصل فعــا. قبل أن يتحوّل هــذا الهوس لاحقا إلى هوس لرؤية المستقبل البعيد.

□ فعلا.. علاقــة الراوي برؤية التاريخ واستشــراف المســتقبل، كبعديــن زمنيــن إضافيين، )بجانــب البعد الروائــي التقليدي: الحاضر( مهمة أيضــا. وهوَس رؤية الماضي كما مرّ فعــا، وليس كما يحكيه الفقهاء والراوون، ملتصق جينيَّا بغســان، لاســيما منذ رؤيته، من ثقب قبّة مســجد العيدروس، خفايا تلك المسرحية التلفيقية. سقط بعد ذلــك في دماغه جــدارٌ ما، وتغيّرت معظم مســلماته الثقافية. لعله هوَسٌ مهمٌ وجوهري في الحقيقة، بســبب تفعيل غسّــان لدور العقل، ورغبته في البحث عن الدلائل الواقعيــة لبرهنة الأحداث التاريخيــ­ة، وإيمانه بالتاريخ العلمي فقط، وليس بالتاريخ الميثولوجي الديني. وبسبب قناعاته بأن من يفرض رؤيته للماضي يستطيع استقطاب النــاس نحو مشــروع طريقه إلى المســتقبل: كل الحروب الروحية بين التنوير والظلمات تقع في هذا المزراب الزمني، وفي ميدان هذه العلاقة الديالكتيك­ية بين تقديم ســيناريو أيديولوجي للماضــي يؤمن به الناس، والســيطرة على مفاتيح المستقبل الذي يلائم الأيديولوج­ية.

■ ثمة أيضا صدمة كبيرة رجّتْ على ما يبدو حياة الراوي، فــي نهايــة 2017، جــرّاء بعض الأحــداث الدموية فــي اليمن، التي اســتقرّ عنده الرأي بعدها علــى أن «حاضرنا هو ماضينا أساســا»، لعدم وجود قطيعةٍ مع مســلماتنا الثقافية العتيقة! كيف خلص الراوي إلى هذه النتيجة؟

□ صحيح، لقد انقلب هوســه الزمنــيّ حينها وتحوّل، بعد هذه القناعة التي أعقبت الصدمة، إلى كراهية للتاريخ وتوقٍ هروبيٍّ لمعرفة كيف ســتكون البشرية في المستقبل. الصفحاتُ التي وصف فيها غسّــان عــام 7777 تُجْلي هذا الهوَس الجديد، كردِّ فعلٍ لخيبته من تشابه ماضينا العربي وحاضرنا. ويلزمني أن أضيف: لهذا الهوس بمعرفة معالم مســتقبل البشــرية، في هذا الزمن الرقمي الغامض، ابنُ عم: هوَس روايتي الســابقة «حفيد سندباد» وهي تتخيّل المســتقبل القريب للبشــرية، في عــام 2027، بعد أحداث رهيبة هــزّت كل العالم. كمــا أن الــراوي يراقب ويعيش كل الحــروب التي قــادت إلى واقع اليمن المتشــظي المدمّر اليــوم، بدءا بحــرب 13 يناير/كانون الثانــي 1986 التي أطاحت بتجربة جنوب اليمن الاشــتراك­ي، التي تفاصيلها ويومياتها إحدى أهم تجارب مختبــر أفكار الرواية. تليها حرب 1994 التي تمّ غزو جنوب اليمــن خلالها من القبائل والســلفيي­ن الذين قضوا على أهم الإنجــازا­ت الاجتماعية في مدينةٍ كانت كوزموبوليت­ية رائــدة: عدَن. لعله الجرح الثاني الذي قــاد لهذه الحــرب الطائفيــة الجديدة التي تمزّقُ اليمــن منذ 4 أعوام، الأبشــع والأكثــر تدميرية في تاريخه، والتي اختلط فيها عدوان داخليٌّ حاقد فتح أبوابه تحالف الرئيس المخلوع مع عصابة كهنوتية ظلامية إماميّة )الحوثيين(، بِعدوانٍ خارجي يقوم به التحالف السعودي الإماراتي الذي أكمل تدمير اليمن، ولم يقدم لبنائه شيئا.

■ مــن خلال الاطلاع على بعــض روايتك، يتضح أن لك مع المــكان علاقة حميميــة، ويبدو أن لا مكانَ للمــكانِ في رواياتك عموما بدون علاقةٍ ما باليمن وعدَن.

□ فعلا، صــار هذا المنحى الأخير واضحــا في رواياتي الأربع الأخيرة، منــذ رواية «أروى». فبعــد أن كانت هذه الأخيرة رواية بلا مركز جغرافي محــدد، تتناثر في أماكن عالمية شــتّى، تحوّل نموذج المكان في رواية «وحي»، التي بين أيدينا، إلى أرخبيــلِ مدنٍ عالميّة، لليمــنِ موقعٌ خاص فيها: تبدو مدن العالَم أشبه بإلكترونات الذرة، فيما اليمن وعدَن مركزها. يعيش غسّــان نصف العــام خارج اليمن، ونصفه في معمعانه. هو ابن اليمن وابن العالَم معا. التنقل بين المركــز والأرخبيل، وتلاقحهــم، لا يتوقف في «وحي». وأبــرز الأماكن التــي تدور فيهــا الرواية خليــج نابولي وأرخبيل الغلاباغــ­وس لهما علاقة عضويــة باختيارات الروايــة واتجاهاتهـ­ـا وأحداثهــا. الربع الخالــي وأماكن مختلفة في اليمن شــديدة الحضور أيضا لأسباب روائية أخرى.

■ بالحديث دائمــا عن اليمن والمواطــن اليمني الذي يتألم فــي هذا البلد الــذي مزّقته الحرب. أين هــو المثقف اليمني مما يحصل.. أليس هو الآخر أحد أسباب هذا الخراب؟

□ اليمن يغرق، وشعبه ينتحر جماعيا. حاولتِ الرواية التســلل الفني في الطبقات الجيولوجيـ­ـة الأعمق للثقافة الظلامية السحيقة الراســخة )ليس في اليمن فقط، ولكن عربيا عموما( التي قادت لهــذه التراجيدية اليوم. ولعلها راقبتْ فنيا سيرورة الخراب، خلال سردها ليوميات اليمن خلال نصــف قرن حتى نهاية عــام 2017. فعندما تتحالف ثقافةٌ تجاوزها العصر مع السياســة والسلاح )كما حصل عندمــا تحالف المخلوع مــع المتطرفين الســلفيين في 1994 و2014( يكون المد الســلفي القبلي الذي أطاح بالمكاســب الاجتماعية في عــدن بعد حرب 1994، أو هــذا الذي يريد عودة الإمامة و«عصر الولاية» في صنعاء، منذ 2014، عبر الحوثية، بالسلاح والبطش والتدمير الذي نعيشه اليوم. الطبقة السياســية اليمنية مــن مومياواتٍ فاســدة تغيّرُ معاطفها، وتفتح أحضانَها لأقطــابِ هذه الثقافة الظلامية، تتحمل المسؤولية التاريخية الأولى طبعا. لكن على المثقفين مســؤولية مضاعفة عندما يصمتون أمام كل هذه الجرائم والانتهاكا­ت اليومية خلال نصف قرن من تاريخنا. كارثيٌّ وجبانٌ مثلا كان صمــتُ المثقفين مثلا عندما اجتاح المخلوع جنوب اليمن في 1994، سرّح من وظائفهم وامتهن عشرات آلاف من الكوادر، وقضى على المكاســب الاجتماعية المدنية الجنوبية اليمنية. صمتهــم كارثيٌّ وجبانٌ أيضا اليوم إزاء الإهانات في الجنوب للمواطنين ذوي الأصول الشــمالية وطردهــم أحيانــا، وإزاء تصاعد مــدّ الهويــات المنغلقة المتناحــر­ة، وإزاء اغتيال الشــباب المدني المســتنير، مثل أمجــد عبدالرحمن، من قبــل الســلفيين الإرهابيين الذين يقــودون أمن عدَن، لمجــرد أن المتهم بالقتــلِ ينتمي لقوى داكنة، لهؤلاء المثقفين علاقةٌ سياســية بهــا. نعم عزيزي، مريعٌ صمتُ المثقــف العربي عموما أمام طغاةِ أنظمتــــن­ا التوريثية، المســتعدِّين لاغتيال نصف شــعوبهم كي تبقى بلدانُهم ملكَ العائلة الحاكمة أو الطائفة الدينية الســائدة. وأمام ثقافة الظلمات التي كانت دوما سندَ الديكتاتور­يات، حليفَها الأول، ووســيلتَها لوأدِ الثــورات واغتيال أحلام الديمقراطي­ــة والحرية والمدنية والتقدم. بل مريعٌ جدا، لأن المثقفَ الضميرُ والفنارُ والبوصلة.

والحــرب الروحية ضد ثقافــة الظلمات مهمــةُ المثقفِ المقدســة. و«الحــرب الروحية لا تقل شراســة عن معارك الفرسان»، كما يقول آرثور رامبو.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ?? حبيب سروري
حبيب سروري

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom