Al-Quds Al-Arabi

في رفض التدريج

-

رغــم إعــان الحكومــة عن عــدم موافقتهــا على اســتعمال الدارجــة فــي الكتب المدرســية مــا تزال تداعيات المفردات المدرجة في أحد مقررات الابتدائي تثير الجدل والسجال. شارك في ذلك المختص وغير المختص، العارف والعالم، والأب والأم.. وقع إجماع على رفض التدريــج، وكثرت ردود الأفعــال التي لم تكن تخلو في أحيان كثيــرة من عنف لفظي، ورفض اجتماعي وسخط سياسي.

فمــا الذي يجعــل الـ«نقــاش» حول مســألة اللغة يأخــذ كل هذه الأبعاد، رغم وجــود ما لا نهاية له من الموضوعــا­ت الســاخنة المتصلة بالدخول المدرســي والاجتماعـ­ـي؟ ففي المغــرب، على غــرار باقي الدول العربيــة، نجد من يكتب شــعرا بالدارجة، أو يوظفها في الرواية، بل إن هناك روايات بالعامية. كما أن لغة المســرحية، والدراما والســينما والأغنية كلها تتكلم بالدارجــة. فلمــاذا نقبل فــي الرواية مــا لا نقبله في الكتاب المدرسي؟ ولماذا نستبيح الدارجة على خشبة المسرح، ونرفضها أمام سبورة الفصل الدراسي؟

ما كان لكل هذه السجالات والتداعيات أن تحدث لــولا وجود مفارقــة صارخة فــي مجتمعاتنا بين ما يمكن تســميته بالرؤية الفكرية، والقرار السياســي. تتصــل الرؤيــة بـ«فكــرة المجتمــع»، ويرتبــط القرار بخدمة تلك الفكرة، وتنفيذهــا وتطويرها على أرض الواقع. تشــكل الغــرب الحديث منذ عصــر النهضة، مــرورا بعصر الأنــوار، وعصــر التكنولوجي­ــا، على أساس رؤية فكرية قوامها العقل والعلم والصناعة. وهــذه الرؤيــة هــي التــي كانــت تحــدد مختلــف السياسات المتبعة في تلك البلدان أيا كانت الأحزاب التي تتحمل المسؤولية. وما رفض المجتمع الأوروبي حاليــا دعــوات اليمــن المتطــرف ســوى تعبيــر عن فكرة المجتمــع التي تكونت عبر الزمــن، وصارت من مقوماته الثابتة.

أما فــي مجتمعاتنا العربية، فعلــى العكس، وهنا مكمن المفارقة، نجد القرار السياســي هو الذي يحدد الفكــرة أو التصور الذي ينبغي أن يســود. ولا داعي للتذكيــر هنا بــأن هذا القــرار الداخلي وليــد قرارات أجنبيــة تتحكــم فــي مصائــر الــدول التــي تخضع لإملاءاتها، خدمة لمصالحهــا الخاصة، وبدون إيلاء أي اهتمام لطبيعة المجتمع وخصوصيته. ولهذا تأتي الــرؤى الفكرية الكامنة، لأنها وليــد تاريخ اجتماعي وثقافــي، عبــارة عــن ردود أفعــال عنيفــة وغاضبة على قرارات لم تتأســس على تصورات خاصة تأخذ بعــن الاعتبار ثوابت «فكرة المجتمــع» المتصلة بلغته وثقافته.

حين يتحدث رجل السياسة، أو رجال الأعمال عن اللغة، وما يتصل بها، لا بد من الأخذ برأي العالم، أو المختص في اللغة، تماما كما أن الرجل نفسه، لا يمكنه أن يتخــذ قرارا في الاقتصاد، بــدون اعتماد ما يمكن أن يقدمــه عالم الاقتصاد، لكن أن يصبح السياســي هــو الذي يقرر في الموضوعات كلهــا بناء على أوامر خارجيــة، أو مصلحة خاصة تهمــه بالدرجة الأولى والأخيرة، ففي هــذا انتهاك لفكــرة المجتمع، وتعبير عن تســلط لا يمكنــه أن يخــدم المصلحــة العامة، أو التطــور المنشــود. لا يعنــي هــذا أن «فكــرة المجتمع» ثابتة ومقدســة، ولا يمكن خوض النقاش فيها، لكن أي نقــاش لا يتدخل فيــه العارفــون بالموضوع، ولا يهم المصلحة العامة، ويرضاه المجتمع يكون نقاشــا عقيمــا. ولهذا قال القدمــاء: إذا أســندت الأمور إلى غيــر أهلها فانتظر الســاعة. وليس «أهــل» الموضوع هنا ســوى المؤهلــن للخــوض فيه. ومــن المفارقات العجيبــة في زماننــا أن كل من هــب ودب صار يرى نفســه مؤهلا للخوض فــي أي موضوع بلا تواضع، ولا دراية، ولا معرفة.

اللغــة اســتعمال كمــا يؤكــد علمــاء التداوليات، واســتعمال اللغــة يكــون حســب مســتعمليه­ا، وبذلــك تتعدد اللغــات )داخــل لغة واحــدة( بتعدد مستعمليها. في رســالة طريفة للجاحظ تناول فيها لغة العشــق، فبين أنها تتعدد بحســب الأشــخاص وحرفهــم وصناعاتهم. وأورد أبياتــا غزلية للحداد، والجزار، والتاجر وبــن كيف أن الحرفة ومفرداتها الخاصة تتدخل في حيــاة صاحبها حتى وهو يعبر عــن عواطفــه الذاتية. ونتبــن من هــذا أن لغة هؤلاء «الخاصة» تختلف عن لغة «الشــعراء» التي هي لغة «عامة». إن شــعراء الغزل، من امرؤ القيس إلى نزار قباني، ينتجون جميعا قصائدهــم الغزلية وفق لغة عامة وواحدة، وإن اختلف كل واحد منهم عن الآخر، زمانا، ومكانا، وتجربة شعرية وثقافية.

أول درس نتعلمــه فــي اللســانيا­ت هــو التفريق بين الــكلام واللغــة. فــإذا كان الكلام فرديــا، كانت اللغــة جماعيــة، ومتعاليــة. وأول درس نتعلمــه مع الوســائطي­ات هــو أن الوســيط الذي نســتعمله في التواصــل مــع الآخرين هو الــذي يحــدد طبيعة لغة التواصــل. ومــا قولــة ماكلوهان عن الوســيط بأنه الرســالة نفســها ســوى دليل على ذلك. رغم الطابع الاجتماعــ­ي للغــة فإنهــا تتحــدد حســب الأفــراد، والجماعــا­ت الخاصــة. فلغــة الأطفــال والمراهقين، تختلف عن لغات الشــباب والكهول. ولغة الوسائط الاجتماعية، ليســت لغة العلمــاء في أي اختصاص. كمــا أن لغة الأدب ليســت هي لغــة الصحافة. ولغة التداول اليومي ليســت لغة الكتابــة. لغة الكتابة لغة متعاليــة على الجميع، لأنها هي اللغــة الوحيدة التي توحد الجميع، وتؤكد انتماءهــم إلى ثقافة وتاريخ. ولذلك تختزل ثقافــة أي أمة إلى لغة محددة، فنقول لغة موليير، وليس لغة البقال الفرنسي.

رفض تدريج التعليم تأكيد لفكرة مجتمع له تاريخ وثقافة.

 ??  ?? سعيد يقطين٭
سعيد يقطين٭

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom