Al-Quds Al-Arabi

من البرازيل إلى مصر والعراق: متاحف تحترق وتراث يضيع

- تابوت مومياء الكهنة الفرعونية شا آمون أيم سو

■ كان حاكم مصر الخديوي إســماعيل )1830 ـ 1895( شــخصية غريبة جدا، فقد أراد تطوير مصر ســريعا ضاربا بأهمية الحذر فــي التكاليف عرض الحائط، ولذلك بلغت ديون مصر في عهده تســعين مليون جنيها استرلينيا، وهو مبلغ هائل آنذاك، بعد أن كانت ثلاثة ملايين في بداية عهده، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن دخل الدولة المصرية السنوي آنذاك كان ثمانية ملايين باوند فقط. والحق يقال أن الخديوي إســماعيل شــق قنــاة الســويس وبنــى مدارس ومشــاريع أخرى عظيمة كثيرة أخرى، ولكنه أوقع مصر في براثن النفوذ الأجنبي وحد من استقلالها.

والغريــب في الأمر أنــه على الرغم مــن ديونه الهائلــة، كان كريما في إرســال الهدايا والتبرعات، حيث أرســل عام 1872 تبرعا ســخيا جــدا وقدره 500 باونــد لمهرجان الموســيقا­ر الألمانــي فاغنر في مدينــة بايرويت الألمانيــ­ة، لاعتقــاده أن المهرجان كان في مدينة بيروت اللبنانية نظرا لتشــابه اسمي المدينتــن، وكان هذا المبلغ يعتبر جســيما حســب مقاييس ذلك العصر. ولكنه تمادى في كرمه وشــمل هذا التصرف الاستهزاء بتراث وتاريخ مصر، حيث أهــدى مومياء الكاهنة «شــا آمون أيم ســو» المهمة عــام 1876 لامبراطور البرازيل بيتــر الثاني 1825 ـ 1891. ولم تكن هذه الموميــاء عادية لأنها كانت من أفضل القطع الأثرية لتاريــخ مصر في القرن الثامن قبل الميلاد، حيث يعــود تاريخ المومياء إلى عام 750 قبل الميلاد. وقد تميزت هذه المومياء بتابوتها الرائع الذي رســمت عليه صورة الكاهنة بألــوان رائعة، بالإضافة إلى رموز الحضارة المصرية لتلك الحقبة. ولم يبد امبراطور البرازيل أي احترام تجاه المومياء وما مثلته من قيمة حضاريــة وفنية، حيث وضعها في مكتبه بشــكل عمودي وبجانب الشباك وبدون أن يهتم بســامتها. وفي أحد الأيام اشتدت الرياح في العاصمــة البرازيلية ريــو دي جانيرو، فانفتح الشباك على مصراعيه بعنف ضاربا تابوت المومياء بقوة، ما ســبب له أضــرارا. وحــاول البرازيليو­ن إصلاح التابــوت ولكن بــدون فائــدة، حيث كان إصلاحهم سمجا ومضحكا وكأن المومياء عبارة عن قطعة زينة رخيصة.

وبعد فترة قرر البرازيليو­ن أن يقوموا بعمــل صائب، وهو وضــع التابــوت، والموميــا­ء في داخله، فــي مبنى المتحف الوطنــي فــي العاصمــة البرازيليـ­ـة ريــو دي جانيرو. وهو مبنــى كان قد بناه المحتلون البرتغاليـ­ـون وأصبــح لاحقــا مســكنا لعائلة الامبراطور البرازيلي، ثم تم تحويلــه إلــى متحف عــام 1892 ميلادية وأصبح أول مؤسســة علمية في البرازيل. وأصبــح المتحــف في مــا بعد أشــهر متحــف فــي أمريــكا اللاتينية على الإطلاق ومن أشــهر متاحف العالم قاطبة، حيــث أنه لم يكــن متحفا للآثار وحســب، بل متحفا للتاريخ الطبيعــي والعلمي ومركــزا عالميا للأبحــاث. وضم المتحف عشــرين مليون قطعــة أثرية، ومنها المومياء الآنفة الذكــر مع مجموعة أخرى من المومياءات المصريــة ومومياءات أخرى لسكان البرازيل الأصليين، وجمجمة لأقدم أثر لإنســان عثر عليه في البرازيــل يبلغ عمرها أحد عشــر ألفا وخمسمئة عام، وهيكل عظمــي لديناصور مع مجموعة لا نظير لهــا لنماذج الحشــرات. واحتــوى المتحف على أكبــر نيزك في أمريكا اللاتينية يبلغ وزنه أكثر من خمســة أطنان. وللمتحف مكتبة شــهيرة عالميا ضمت خمسمئة ألف كتاب، منها أربعة وعشــرون ألف كتــاب تعتبر من الكتــب النادرة. كل هذا وأشــياء كثيــرة أخرى في المتحف جعلــت منه تحفة ثقافيــة وعلمية ومفخرة البرازيل الأولى، وأحد أشــهر المعالــم الثقافية في العالم. ولكن من يعتقد أن عليه الذهاب إلى البرازيل بأسرع وقت ممكن لمشاهدة المومياء الشهيرة وبقية معروضات المتحف العظيم عليه التروي، فقد اختفى كل شيء إلى غير رجعة، حيث احترق المتحف تماما بكل ما فيه في حريق هائل شب ليلة الأحد المصادف الثاني من ســبتمبر/أيلول 2018 ليتحول إلى هيكل مبنى محترق فحسب. واكتشف الجميع أن الحكومة البرازيلية كانت قــد أهملت المتحف وقامت بتخفض ميزانيته بشكل مثير للدهشــة منذ سنوات طويلة، ما اضطر مدير المتحف إلى إغلاق أجنحة فيه بسبب انتشار الفطريات والحشــرات وسوء حالة البناء. وكان فريــق للتفتيــش قد فحص المبنــى عام 2004 وأقر بأن الأسلاك الكهربائية مكشوفة، واحتياطات الأمــان في حالة ســيئة، ما يعــرض المتحف لخطر حريق مدمــر. وعندما حاول البنــك الدولي تمويل تحســن المتحف بمبلــغ ثمانين مليــون دولار، كان الرد البرازيلي الرفض لعدم قبول بعض شــروط التمويــل. والغريــب في الأمــر أن هــذا الحريق لم

يكــن الأول من نوعه فــي البرازيل، حيــث حدثت حرائــق كبيرة ســابقة دمرت مراكــز علمية مهمة فــي البلد عام 2010 وعام .2015 وقد أقر ا لمختصــو ن بعــد انــدلاع الحريــق بأن أجهزة الكشف عــن الحريــق فــي المتحــف لا تعمــل، وأن أجهزة رش المياه للحماية مــن الحريق لا تعمل كما ينبغي. ومما زاد الأمر ســوءا أنه عند وصول رجال الإطفــاء حاولوا إنقاذ الموقف عن طريق اســتعمال مصادر المياه للمخصصة لمكافحة الحرائق والواقعة في مبنى المتحف نفســه، ولكنهم فوجئــوا بأنها لا تعمل. ولذلك أضاعوا وقتا ثمينا واضطروا في نهاية الأمر الاســتعان­ة ببحيــرة قريبة للتزود بالمياه. الشــيء الوحيــد الــذي لم يتعرض لأي ضرر كان المكتبة المعروفة، لأنها كانت واقعة في مبنى مجاور للمتحف، وكذلك النيزك الشــهير الذي كان في المتحــف المحتــرق، فحــرارة الحريــق تعد لا شــيء مقارنة بالحــرارة التي تتعــرض لها النيازك عند دخولها جو الأرض حيث تصل درجــة الحرارة إلى ألف وســتمئة وخمسين درجة مئوية. ما أن حــدث الحريق المدمر في المتحف حتى بدأت المظاهرات من قبل طــاب جامعة ريو دي جانيرو الاتحاديــ­ة، التي كان المتحــف يتبعهــا، وأحاطــت قــوى الأمــن بالمتحــف كي لا يــزداد الأمر ســوءا. وقد اتهم المتظاهرون الحكومــة والرئيس البرازيليـ­ـن بالإهمــال الفاضح، وسارع الرئيس البرازيلي لإنقاذ الموقــف بالتعهد ببنــاء المتحف فــورا، خاصــة أن البرازيــل مقبلــة علــى انتخابــات رئاسية وشيكة. وقام المرشحون الآخرون في الانتخابات باســتغلال الموقف والوعد بحماية التراث البرازيلي، وكأن الجميــع كان يغط في نوم عميق طوال الفترة الماضية.

وقد ذكرني حــادث المتحف البرازيلــ­ي بحادثة طريفة أود أن أذكرها هنا، فقــد كنت وما زلت اعتبر المتحف البريطاني أجمل ما في العاصمة البريطانية. ولذلك كنت أحرص على زيــارة المتحف البريطاني كلما ســنحت لي الفرصة للســفر إلى لنــدن. وكان القســم المحبب لي في المتحف هو القســم الآشوري بثيرانه المجنحة الرائعة وبقية التماثيل الآشــورية الفريدة في العالم. وكانت إدارة المتحف قد وضعت إلى جانب كل قطعة معروضة شرحا بسيطا يوضح اســمها وأهميتها ومكان العثور عليها. ولم استغرب وجود هذا الشــرح لأن الــزوار لا يعرفون مثل هذه التفاصيل عادة، وقد ســبق أن قرأتــه من قبل عدة مرات. ولكننــي في زيارتي الأخيرة لاحظت شــيئا كان عليّ ملاحظته عند أول زيارة لي للمتحف، فاسم العــراق لم يكن موجــودا في أي شــرح، وهو البلد الذي ظهرت فيه الحضارة الآشــورية. وقد أثار هذا استغرابي، فكيف يســتطيع السائح العادي معرفة اسم الدولة التي عثر فيها على هذه القطعة الاثرية، خاصــة أنني كنت أعلــم جيدا أن أغلبيــة الناس لا يعرفون أين كانت الحضارة الآشــورية. وهنا أردت القيام باختبار بســيط للتســلية وإرضاء فضولي المزعــج. ولذلك ذهبــت إلى الحــارس الجالس في القسم متظاهرا بجهلي والسؤال من أين أتت القطع الأثرية الآشــورية، وارتبك المســكين معترفا بعدم علمه، فهو في نهاية المطاف مجرد حارس في المبنى، وطلب مني سؤال مكتب استعلامات المتحف.

وشــكرته بأدب ولم أتفاجأ من جوابه وتوجهت فــورا إلى ذلك المكتــب. ولكن المكتب لــم يكن أفضل من الحارس المســكين حيث اعترفــت موظفة المكتب بجهلها وفاجأتنــي بنصيحة غبيــة، وهي العودة إلى القســم الآشوري وســؤال الحارس هناك، فهو بالتأكيــد لديه الخبــر اليقين. ولم أســتطع إخفاء ابتسامتي الســاخرة وأخبرتها بما حدث، وقلت لها إنه من المخجل أن موظفي المتحــف لا يعرفون البلد الذي أتت منه أهم القطع في المتحف، فيا للهول. وإذا بموظفة الاســتعلا­مات تحاول إنقاذ الموقف باقتراح توجيه السؤال لمسؤولي قســم آثار الشرق الأدنى في المتحف.

وهذا مــا فعلته وقابلت أحد المســؤولي­ن في ذلك القســم، ووبخته بــأدب جم، حيث لــم يكن هدفي إثارة مشــكلة. وضحك الرجل قائلا إنه من الغريب عدم ملاحظة أحد ذلك مــن قبل، وإنه على الرغم من الطلبات الكثيرة التي يســتلمها المتحف حول بقية الأقســام فيه بهذا الخصوص فإن المتحف لم يستلم أي طلب من هذا القبيل حول القسم الآشوري، سواء من الحكومــة العراقية أو من مواطنين عاديين، وعزا عدم ذكر اســم العــراق إلى إهمال بســيط من قبل المتحف ووعدني بإصلاح الأمــر. ولا أعلم إن كانوا قد أصلحوا الأمــر أم لا، فلم أذهب إلى لندن منذ ذلك الحين.

 ??  ??
 ??  ?? المتحف الوطني في البرازيل وهو يحترق يوم الأحد الثاني من أيلول- سبتمبر 2018
المتحف الوطني في البرازيل وهو يحترق يوم الأحد الثاني من أيلول- سبتمبر 2018
 ??  ??
 ??  ?? زيد خلدون جميل٭
زيد خلدون جميل٭

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom